فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب.
وعن سفيان قال: قرأ واصل الأحدب {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ} فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! فدخل خَرِبة فمكث ثلاثًا لا يصيب شيئًا فإذا هو في الثالثة بدوخلةٍ رُطبٍ، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرّق الله بالموت بينهما.
وقرأ ابن محيصن ومجاهد {وَفِي السَّمَاء رَازِقُكُمْ} بالألف وكذلك في آخرها {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّازِقُ}.
{وَمَا تُوعَدُونَ} قال مجاهد: يعني من خير وشر.
وقال غيره: من خير خاصة.
وقيل: الشر خاصة.
وقيل: الجنة؛ عن سفيان بن عيينة.
الضحاك: {وَمَا تُوعَدُونَ} من الجنة والنار.
وقال ابن سيرين: {وَمَا تُوعَدُونَ} من أمر الساعة.
وقاله الربيع.
قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} أكَّد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحقٌّ ثم أكده بقوله: {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} وخصّ النطق من بين سائر الحواسّ؛ لأن ما سواه من الحواسّ يدخله التشبيه، كالذي يُرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدويّ والطنين في الأذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يُعتَرض بالصَّدَى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مَشُوب بما يشكل به.
وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره.
وقال الحسن: بلغني أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله أقوامًا أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدّقوه قال الله تعالى: {فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ}» وقال الأصمعي: أقبلتُ ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابيّ جِلفٌ جافٍ على قعود له متقلِّدًا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أَصْمَعَ، قال: أنت الأصمَعي؟ قلت: نعم.
قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يُتلَى فيه كلامُ الرحمن؛ قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم؛ قال: فاتل عليّ منه شيئًا؛ فقرأت {والذاريات ذَرْوًا} إلى قوله: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ} فقال: يا أصمعي حسبك!! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعنِّي على توزيعها؛ ففرّقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرَّحل وولى نحو البادية وهو يقول: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فمقتُّ نفسي ولمتُها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلّم عليّ وأخذ بيدي وقال: اتل عليّ كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت {وَالذَّارِيَاتِ} حتى وصلت إلى قوله تعالى: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقًّا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} قال فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثًا وخرجت بها نفسه.
وقال يزيد بن مرثد: إن رجلًا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به؛ فشبِع ورَوِي من غير طعام ولا شراب.
وعن أبي سعيد الخدرِيّ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدكم فرّ من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» أسنده الثعلبي.
وفي سنن ابن ماجه عن حبة وسواءٍ ابني خالد قالا: دخلنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئًا فأعنّاه عليه، فقال: «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قِشر ثم يرزقه الله» وروى أن قومًا من الأعراب زرعوا زرعًا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: مالي أراكم قد نكستم رؤوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرةٍ في البحر راسيةٍ ** صَمًّا مُلَمْلِمَةٍ مَلْسَا نَواحِيها

رِزْقٌ لنفسٍ بَرَاهَا الله لانفلقتْ ** حتى تؤدي إليها كُلَّ ما فيها

أو كان بين طِباقِ السبعِ مسلكها ** لَسَهَّلَ الله في المرقَى مَرَاقيها

حتّى تنالَ الذي في اللوح خُطَّ لها ** إنْ لم تَنلْه وإِلا سوف يأتِيها

قلت: وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمع قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] فرجع ولم يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب؛ وقد ذكرناه في سورة (هود).
وقال لقمان: {يا بني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقال حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] الآية.
وقد مضى في (لقمان) وقد استوفينا هذا الباب في كتاب (قمع الحرص بالزهد والقناعة) والحمد لله.
وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء، وهو فراغ القلب مع الربّ؛ رَزَقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنِّه وكرمه.
قوله تعالى: {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} قراءة العامة {مِثْلَ} بالنصب أي كمثل {مَآ أَنَّكُمْ} فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و(ما) زائدة؛ قاله بعض الكوفيين.
وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد؛ أي لَحَقٌّ حقًّا مثل نطقك؛ فكأنه نعت لمصدر محذوف.
وقول سيبويه: إنه مبني بُني حين أضيف إلى غير متمكن و{ما} زائدة للتوكيد.
المازني: {مِثْلَ} مع {ما} بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك.
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ قال: ولأن من العرب من يجعل مِثلا منصوبًا أبدًا؛ فتقول: قال لي رجلٌ مثلك، ومررت برجل مثلَك بنصب مثل على معنى كمثل.
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش {مِثلُ} بالرفع على أنه صفة لحقّ؛ لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة، إذ لا يختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين.
و{مِثْلَ} مضاف إلى {أَنَّكُمْ} و{ما} زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة المصدر إذ لا فعل معها تكون معه مصدرًا.
ويجوز أن تكون بدلًا من {لحَقٌّ}. اهـ.

.قال الثعالبي:

{إِنَّ المتقين في جنات وَعُيُونٍ} الآية، روى الترمذيُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ، حتى يَدَعَ مَا لاَ بَأْسَ بِهِ؛ حَذَرًا لِمَا بِهِ البَأْسُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى، وقوله سبحانه في المتقين: {ءَاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} أي: مُحَصِّلِينَ ما أعطاهم رَبُّهم سبحانه من جناته، ورضوانه، وأنواع كراماته {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ}: يريد في الدنيا {مُحْسِنِينَ}: بالطاعات والعمل الصالح.
ت: وروى التِّرْمِذِيُّ عن سعد بن أبي وَقَّاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ أَنَّ مَا يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا في الجَنَّةِ بَدَا لَتَزَخْرَفَ لَهُ مَا بَيْنَ خَوَافِقِ السموات والأَرْضِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعَ، فَبَدَا أَسَاوِرُهُ، لَطَمَسَ ضَوْءَ الشَّمْسِ؛ كَمَا تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجُومِ» انتهى، ومعنى قوله: {كَانُواْ قَلِيلًا مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} أَنَّ نومهم كان قليلًا؛ لاشتغالهم بالصلاة والعبادةِ، والهجوعُ: النومُ، وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابَدُوا قيامَ الليل، لا ينامون منه إلاَّ قليلًا، وأَمَّا إعرابُ الآية فقال الضَّحَّاكُ في كتاب الطبريِّ: ما يقتضي أنَّ المعنى: كانوا قليلًا في عددهم، وتَمَّ خبرُ (كان)، ثم ابتدأ {مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} فما نافية و{قَلِيلًا} وقف حسن، وقال جمهور النحويين: ما مصدريَّةٌ و{قَلِيلًا} خبرُ {كَانَ}، والمعنى: كانوا قليلًا من الليل هجوعُهُم، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيرِهِ، وهو الظاهر عندي أَنَّ المراد كان هُجُوعُهُمْ من الليل قليلًا؛ قيل لبعض التابعين: مَدَحَ اللَّهُ قومًا {كَانُواْ قَلِيلًا مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} ونَحْنُ قليلًا من الليل ما نقوم! فقال: رَحِمَ اللَّهُ امرًا رقد إذا نعس، وأطاع رَبَّه إذا استيقظ.
وقوله تعالى: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال الحسن: معناه: يدعون في طَلَبِ المغفرة، ويُرْوَى أَنَّ أبوابَ الجنة تُفْتَحُ سَحَرَ كُلَّ ليلة، قال ابن زيد: السَّحَرُ: السُّدُسُ الآخر من الليل، والباء في قوله: {وبالأسحار} بمعنى في؛ قاله أبو البقاء، انتهى، ومن كلام ابن الجوزي في (المُنْتَخَبِ): يا أخي، علامةُ المَحَبَّةِ طلبُ الخَلْوَةِ بالحبيبِ، وبيداءُ اللَّيل فلواتُ الخلوات، لَمَّا ستروا قيامَ الليل في ظلام الدُّجَى؛ غَيْرَةً أَنْ يَطَّلِعَ الغيرُ عليهم سترهم سبحانه بسترٍ، {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، لَمَّا صَفَتْ خلواتُ الدُّجَى، ونادى أذان الوصال: أقم فلانًا، وأنم فلانًا خرجت بالأسماء الجرائد؛ وفاز الأحبابُ بالفوائد، وأنت غافل راقد. آهِ لو كنتَ معهم! أسفًا لك! لو رأيتهم لأبصرتَ طلائِعَ الصِّدِّيقِينَ في أول القوم، وشاهدتَ سَاقَةَ المستغفرين في الرَّكْبِ، وسَمِعْتَ استغاثة المُحِبِّينَ في وسط الليل،، لو رأيتهم يا غافلُ، وقد دارت كُؤوسُ المناجات؛ بين مزاهر التلاوات، فأسكَرَتْ قَلْبَ الواجدِ، ورقمت في مصاحف الوجنات. تعرفهم بسيماهم، يا طويلَ النوم، فاتتك مِدْحَةُ {تتجافى} [السجدة: 16] وَحُرِمْتَ مِنْحَةَ {والمستغفرين} [آل عمران: 17]، يا هذا، إنَّ للَّه تعالى ريحًا تُسَمَّى الصَّبِيحَةَ مخزونةً تحتَ العرش، تَهُبُّ عند الأسحار، فتحمل الدعاء والأنين والاستغفار إلى حضرة العزيز الجَبَّارِ، انتهى.
{وَفِى أموالهم حَقٌّ} الآية، الصحيح أَنَّها مُحْكَمَةٌ وأنَّ هذا الحق هو على وجه الندب، و{مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24] يُرَادُ به: مُتَعَارَفٌ، وكذلك قيامُ الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلةُ بفعل المندوبات، والمحروم هو الذي تَبْعُدُ عنه مُمْكِنَاتُ الرزق بعد قربها منه، فيناله حرمان وَفاقَةٌ، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حَقٌّ في أموال الأغنياء، كما للسائل حَقٌّ، وما وقع من ذكر الخلاف فيه فيرجع إلى هذا، وبعد هذا محذوف تقديره: فكونوا أَيُّها الناسُ مثلَهم وعلى طريقهم، و{فِى الأرض ءايات}: لمن اعتبر وأيقن.
وقوله سبحانه: {وَفِى أَنفُسِكُمْ} إحالة على النظر في شخص الإنسان، وما فيه العِبَرِ، وأمرِ النفسِ، وحياتِهَا، ونطقِها، واتصالِ هذا الجزء منها بالعقل؛ قال ابن زيد: إنَّما القلب مُضْغَةٌ في جوف ابن آدم، جَعَلَ اللَّه فيه العقل، أفيدري أحد ما ذلك العقل، وما صِفَتُه، وكيف هو.
ت: قال ابن العربيِّ في رحلته: اعلم أَنَّ معرفة العبد نَفْسَهُ من أولى ما عليه وآكدِهِ؛ إذْ لاَ يَعْرِفُ رَبَّه إلاَّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ؛ قال تعالى: {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} وغير ما آية في ذلك، ثم قال: ولا ينكر عاقل وُجُودَ الرُّوحِ من نفسه، وإنْ كان لم يدركْ حقيقتَه، كذلك لا يَقْدِرُ أنْ يُنْكِرَ وُجُودَ الباري سبحانه الذي دَلَّتْ أفعاله عليه، وإنْ لم يدركْ حقيقته، انتهى.
وقوله سبحانه: {وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} قال مجاهد وغيره: هو المطر، وقال واصل الأحدب: أراد القضاء والقدر، أي: الرزق عند اللَّه يأتي به كيف شاء سبحانه لا رَبَّ غيرُه، و{تُوعَدُونَ} يحتمل أَنْ يكونَ من الوعد، ويحتمل أَنْ يكونَ من الوعيد؛ قال الضَّحَّاكُ. المُرَادُ: من الجنة والنار، وقال مجاهد: المرادُ: الخيرُ والشَّرُّ، وقال ابن سيرين: المراد: الساعة، ثم أقسم سبحانه بنفسه على صِحَّةِ هذا القول والخبر، وشَبَّهَهُ في اليقين به بالنُّطْقِ من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، و(ما) زائدة تعطي تأكيدًا، والنطق في هذه الآية هو الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني، ورُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الأعراب الفصحاء سَمِعَ هذه الآيةَ فقال: مَنْ أَحْوَجَ الكريمَ إلى أَنْ يحلف؟! والحكاية بتمامها في كتاب الثعلبيِّ، وسبل الخيرات، ورُوِيَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «قَاتَلَ اللَّهُ قَوْمًا، أَقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ» ورَوَى أبو سعيد الخُدَرِيُّ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ فَرَّ أَحَدُكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لَتَبِعَهُ كَمَا يَتْبَعُهُ المَوْتُ» وأحاديث الرزق كثيرة، ومن كتاب (القصد إلى اللَّه سبحانه) للْمُحَاسِبِيِّ: قال: قلتُ لشيخنا: من أين وقع الاضطرابُ في القلوب، وقد جاءها الضمانُ من اللَّه عز وجل؟ قال: من وجهين.
أحدهما: قِلَّةُ المعرفة بحُسْنِ الظَّنِ، وإلقاءِ التُّهَمِ عن اللَّه عز وجل.
والوجه الثاني: أنْ يعارضها خوفُ الفَوْت، فتستجيبَ النفسُ للداعي، ويَضْعُفَ اليقينُ، ويَعْدِمَ الصبرُ، فيظهرَ الجَزَعُ.
قلتُ: شيءٌ غيرُ هذا؟ قال: نعم، إنَّ اللَّه عز وجل وَعَدَ الأرزاق، وضَمِنَ، وغَيَّبَ الأوقات؛ ليختبرَ أهلَ العقول، ولولا ذلك لكان كُلُّ المؤمنين راضين صابرين متوكِّلِين، لكنَّ اللَّه عز وجل أعلمهم أَنَّهُ رازقهم، وحَلَفَ لهم على ذلك، وغَيَّبَ عنهم أوقاتَ العطاء، فَمِنْ ها هنا عُرِفَ الخَاصّ من العامِّ، وتفاوت العبادُ في الصبر، والرضا، واليقين، والتوكل، والسكون، فمنهم كما علمتَ ساكنٌ، ومنهم متحرك، ومنهم راض، ومنهم ساخط، ومنهم جَزِعٌ، فعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين، وعلى قَدْرِ ما تفاوتوا في اليقين تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّ المتقين في جنات وَعُيُونٍ}.
لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها.
{ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرف المدح وإظهار مَنِّهِ تعالى عليهم، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد، ونصب {ءاخِذِينَ} على الحال من الضمير في الظرف.
{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} في الدنيا {مُحْسِنِينَ} أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم، وفسر إحسانهم بقوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلًا مّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} إلخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى: {كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] حصل بها تفيسره، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: {ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} من الفرائض {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون، ولا أظن صحة نسبته لذلك الحبر، ولا يكاد تجعل جملة {كَانُواْ} إلخ عليه تفسيرًا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
و الهجوع النوم، وقيده الراغب بقوله: ليلًا، وغيره بالقليل، و{مَا} إما مزيدة فقليلًا معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي هجوعًا قليلًا و{مِّنَ الليل} صفة، أو لغو متعلق بيهجعون و{مِنْ} للابتداء، وجملة {يَهْجَعُونَ} خبر كان أو {قَلِيلًا} صفة لظرف محذوف أي زمانًا قليلًا و{مِّنَ الليل} صفة على نحو قليل من المال عندي وإما موصولة عائدها محذوف أي زمانًا قليلًا و{مِّنَ الليل} صفة على نحو قليل من المال عندي وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل {قَلِيلًا} وهو خبر كان و{مِّنَ الليل} حال من الموصول مقدم كأنه قيل: كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنًا ذلك المقدار {مِّنَ الليل} وإما مصدرية فالمصدر فاعل {قَلِيلًا} وهو خبر كان أيضًا، و{مِّنَ الليل} بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم، أو حال من المصدر، و{مِنْ} للابتداء كذا في (الكشف) فهما من الكشاف، وذهب بعضهم إلى أن {مِنْ} على زيادة ما بمعنى في كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} [الجمعة: 9] واعترض بن المنير احتمال مصدريتها بأن لا يجوز في {مِّنَ الليل} كونه صفة، أو بيانًا للقليل لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم؛ وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره {يَهْجَعُونَ} وجوز أن يكون {مَا يَهْجَعُونَ} على ذلك الاحتمال بدلًا من اسم كان فكأنه قيل: كان هجوعهم قللًا وهو بعيد، وجوز في {مَا} أن تكون نافية، و{قَلِيلًا} منصوب بيهجعون والمعنى كانوا لا يهجعون من الليل قليلًا ويحيونه كله ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن {مَا} النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو عوتب بلا جرم ولم ولن لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي (شرح الهادي) أن بعض النحاة أجازه مطلقًا، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه بقوله: