فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ونحن عن فضلك ما استغنينا

نعم يرد على ذلك أن فيه كما في (الانتصاف) خلللًا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول: بأنه كان ثابتًا في الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية: كان ذلك إذا أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذكر يعتمد على العصار فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وقال الضحاك: {كَانُواْ قَلِيلًا} في عددهم، وتم الكلام عند {قَلِيلًا} ثم ابتدأ {مّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} على أن {مَا} نافية؛ وفهي ما تقدم مع زيادة تفكيك للكلام، ولعل أظهر الأوجه زيادة {مَا} ونصب {قَلِيلًا} على الظرفية، و{مِّنَ الليل} صفة قيل: وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناءًا على أنه القليل من النوم، وقوله تعالى: {قَلِيلًا} و{مِّنَ الليل} لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة {مَا} لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدًا فيها.
والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلًا، قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلًا، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلًا ثم قاموا، وفسر أنس بن مالك الآية كما رواه جماعة عنه وصححه (الحاكم) فقال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك.
{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه.
وفي الآية من الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى، وحمل الاستغفار على حقيقته المشهورة هو الظاهر وبه قال الحسن، أخرج عنه ابن جرير. وغيره أنه قال: صلوا فلما كان السحر استغفروا، وقيل: المراد طلبهم المغفرة بالصلاة، وعليه ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: {يَسْتَغْفِرُونَ} يصلون، وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعًا ولا أراه يصح، وأخرج أيضًا عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن آخر الليل في التهجد أحب إليّ من أوله لأن الله تعالى يقول: {وبالاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}» وهو محتمل لذلك التفسير والظاهر.
{وَفِى أموالهم حَقٌّ} أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربًا إلى الله عز وجل وإشفاقًا على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس. ومجاهد. وغيرهما.
{لَّلسَّائِلِ} الطالب منهم {والمحروم} وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيًا فيحرم الصدقة من أكثر الناس.
أخرج ابن جرير. وابن حبان. وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم» وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس، وقيل: هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان، وقال زيد بن أسلم: هو الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: من ماتت ماشيته، وقيل: من ليس له سهم في الإسلام، وقيل: الذي لا ينمو له مال، وقيل: غير ذلك قال في البحر: وكل ذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه وأنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة، وقيل: أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم، وعن ابن عمر أن رجلًا سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم، والجمهور على الأول.
{وَفِى الأرض ءايات} دلائل من أنواع المعادن والنباتات والحيوانات، أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص، فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقية والجمع على ظاهره، وعلى الثاني الدليل نفس الأرض، والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها، والظرفية من ظرفية الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته عز وجل {لّلْمُوقِنِينَ} للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، وقرأ قتادة {آية} بالإفراد.
{وَفِى أَنفُسِكُمْ} أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيآت النافعة والمناظرة البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى، وقيل: أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، ورواه عطاء عن ابن عباس، وقيل: سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية، وقيل: في الأخير.
{وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} أي تقديره وتعيينه، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادىء الرزق إلى غير ذلك، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبب، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهي سماء لغة، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروى تفسيره بذلك مرفوعًا وقرأ ابن محيصن {أرزاقكم} على الجمع.
{وَمَا تُوعَدُونَ} عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك ما توعدون الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف، وقال بعضهم: هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، وقيل: أمر الساعة، وقيل: الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها، وقيل: إنه مستأنف خبره {فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} على أن ضمير {أَنَّهُ} {لَّمًّا} وعلى ما تقدم، فإما له أو للرزق، أو لله تعالى، أو للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للقرآن، أو للدين في {إِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6] أو لليوم المذكور في {أَيَّانَ يَوْمُ الدين} [الذاريات: 12] أو لجميع المذكور {أَمَّا مَا}، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروى عن ابن جريج أي أن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق {لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس: إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع، ونصب {مَثَلُ} على الحالية من المستكن في {لَحَقُّ} وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقًا مثل نطقكم، وقيل: إنه مبني على الفتح فقال المازني: لتركبه مع {مَا} حتى صارا شيئًا واحدًا نحو ويحما وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر:
أثور ما أصيدكم أم ثورين ** أم هذه الجماء ذات القرنين

وقال غيره: لإضافته إلى غير متمكن وهو {مَا} إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى الذي و{إِنَّكُمْ} إلخ خبر مبتدأ محذوف أي هو {إِنَّكُمْ} الخ، والجملة صفة، أو صلة، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت {مَا} زائدة، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة {لَحَقُّ} أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم {مَثَلُ} بالرفع، وفي (البحر) أن الكوفيين يجعلون مثلًا ظرفًا فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبًا على الظرفية واستدلالهم، والرد عليهم مذكور في النحو وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله قومًا أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا» وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع قال: من أين أقبلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علي فتلوت {والذريات} [الذاريات: 1] فلما بلغت {وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت {فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين قالها ثلاثًا وخرجت معها نفسه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)}.
أكثر أهل العلم، على أن المراد بالذاريات الرياح. وهو الحق إن شاء الله، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح.
ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرياح} [الكهف: 45]، ومعنى تذروه: ترفعه وتفرقه، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما، ومنه قول ذي الرمة:
ومنهل آجن قفر محاضره ** تذرو الرياح على جماته البعرا

ولا يخفى سقوط قول من قال: إن الذاريات النساء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {فالحاملات وِقرًا} أكثر أهل العلم على أن المراد بالحاملات وقرا: السحاب. أي المزن تحمل وقرا ثقلًا من الماء.
ويدل لهذا القول تصريح الله جل وعلا بوصف السحاب بالثقال، وهو جمع ثقيلة، وذلك لثقل السحابة بوقر الماء الذي تحمله كقوله تعالى: {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12]، وهو جمع سحابة ثقيلة، وقوله تعالى: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57].
وقال بعضهم: المراد بالحاملات وقرا: السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم، ولو قال قائل: إن الحاملات وقرا الرياح أيضًا كان وجهه ظاهرًا.
ودلالة بعض الآيات عليه واضحة، لأن الله تعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله، فنسبه حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح، وذلك في قوله: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} [الأعراف: 57] الآية.
فقوله تعالى: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقالا}: أي حتى إذا حملت الرياح سحابًا ثقالا، فالإقلال الحمل، وهو مستند إلى الريح. ودلالة هذا على أن الحاملات وقرا هي الرياح ظاهرة كما ترى، ويصح شمول الآية لجميع ذلك.
وقد قدمنا مرارًا أنه هو الأجود في مثل ذلك، وبينا كلام أهل الأصول فيه، وكلامهم في حمل المشترك على معنييه أو معانيه، في أول سورة النور وغيرها.
وقال بأن الحاملات وقرا: هي حوامل الأجنة من الإناث، ظاهر السقوط، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فالجاريات يُسْرًا} [الذاريات: 3] أكثر أهل العلم على أن المراد بالجاريات يسرًا: السفن تجري في البحر يسرًا أي جريًا ذا يسر أي سهولة.
والأظهر أن هذا المصدر المنكر حال كما قدمنا نحوه مرارًا: أي فالجاريات في حال كونها ميسرة مسخرًا لها البحر، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق الوصف بالجري على السفن كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر} [الشورى: 32]. الآية، وقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} [الحاقة: 11]، وقوله تعالى: {والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ} [الحج: 65] وقوله تعالى: {الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ البحر لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ} [الجاثية: 12] إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل الجاريات الرياح. وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: {فالمقسمات أَمْرًا}: هي الملائكة يرسلها الله في شؤون وأمور مختلفة، ولذا عبر عنها بالمقسمات، ويدل لهذا قوله تعالى: {فالمدبرات أَمْرًا} [النازعات: 5]، فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم، كما وقع لقوم صالح.
والتحقيق أن قوله: {أمرًا} مفعول به للوصف الذي هو المقسمات، وهو مفرد أريد به الجمع.
وقد أوضحنا أمثلة ذلك في القرآن العظيم، وفي كلام العرب من تنكير المفرد كما هنا، وتعريفه وإضافته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]، والمقسم عليه بهذه الأقسام هو قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 5- 6] والموجب لهذا التوكيد هو شدة إنكار الكفار للبعث الجزاء.
وقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} ما، فيه موصولة والعائد إلى الصلة محذوف، والوصف بمعنى المصدر أي إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب لصدق لا كذب فيه.
وقال بعض العلماء: ما، مصدرية، أي إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق.
وقال بعضهم: إن صيغة اسم الفاعل في لصادق بمعنى اسم المفعول. أي إن الوعد أو الموعود به لمصدوق فيه لا مكذوب به، ونظير ذلك قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي مرضية.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 9]. وقوله: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134]. وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
والمراد بالدين هنا الجزاء، أي وإن الجزاء يوم القيامة لواقع لا محالة كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} [النور: 25] اي جزاءهم بالعدل والإنصاف، وكقوله تعالى: {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى} [النجم: 40- 41].
وقد نزه الله نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء، وبين أن ذلك ظن الكافر، وهددهم على ذلك الظن السىء بالويل من النار، قال تعالى منكرًا على من ظن عدم البعث والجزاء، ومنزهًا نفسه عن أنه خلقهم. عبثًا لا لبعث وجزاء: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتعالى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} [المؤمنون: 115- 116]. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} [ص: 27]، في قوله في آية في ص هذه: باطلًا أي عبثًا لا لبعث وجزاء.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قول مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)}.
قوله تعالى: {ذَاتِ الْحُبُكِ} فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضًا، فذهب بعض أهل العلم، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك، وهو جمع حبيكة أو حباك، قالوا: ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير:
مكلل بأصول النجم تنسجه ** ريح خريق بضاحي مائة حبك

وقول الراجز: