فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومَدْحَهم أيضًا بالإنصاف وترك المكابرة لأن أكثر المنكرين للحق تحملهم المكابرة أو الحسد على إنكار حق من يتوجّسون منه أن يقضي على منافعهم.
وتقديم {في الأرض} على المبتدأ للاهتمام بالأرض باعتبارها آيات كثيرة.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)}.
عطف على {في الأرض} [الذاريات: 20].
فالتقدير: وفي أنفسكم آيات أفلا تبصرون.
تفريعًا على هذه الجملة المعطوفة فيقدر الوقف على {أنفسكم}.
وليس المجرور متعلقًا بـ {تبصرون} متقدمًا عليه لأن وجود الفاء مانع من ذلك إذ يصير الكلام معطوفًا بحرفين.
والخطاب موجه إلى المشركين.
والاستفهام إنكاري، أنكر عليهم عدم الإبصار للآيات.
والإبصار مستِعار للتدبر والتفكر، أي كيف تتركون النظر في آيات كائنة في أنفسكم.
وتقديم {في أنفسكم} على متعلقه للاهتمام بالنظر في خلق أنفسهم وللرعاية على الفاصلة.
والمعنى: ألا تتفكرون في خلق أنفسكم: كيف أنشأكم الله من ماء وكيف خلقكم أطوارًا، أليس كل طور هو إيجادَ خلق لم يكن موجودًا قبل.
فالموجود في الصبي لم يكن موجودًا فيه حين كان جنينًا.
والموجود في الكهل لم يكن فيه حين كان غلامًا وما هي عند التأمل إلا مخلوقات مستجدة كانت معدومة فكذلك إنهاء الخلق بعد الموت.
وهذا التكوين العجيب كما يدل على إمكان الإيجاد بعد الموت يدل على تفرّد مكونة تعالى بالإلهية إذ لا يقدر على إيجادِ مثللِ الإنسان غيرُ الله تعالى فإن بَواطن أحوال الإنسان وظواهرها عجائِب من الانتظام والتناسب وأعجبها خلق العقل وحركاته واستخراج المعاني وخلق النطق والإهام إلى اللغة وخلق الحواس وحركة الدورة الدموية وانتساق الأعضاء الرئيسة وتفاعلها وتسوية المفاصل والعضلات والأعصاب والشرايين وحالها بين الارتخاء واليبس فإنه إذا غلب عليها التيبس جاء العجز وإذا غلب الارتخاء جاء الموت.
والخطاب للذين خوطبوا بقوله أول السورة {إن ما تُوعَدُون لصادق} [الذاريات: 5].
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)}.
بعد أن ذكر دلائل الأرض ودلائل الأنفس التي هم من علائِق الأرض عُطف ذكر السماء للمناسبة، وتمهيدًا للقَسم الذي بعده بقوله: {فوربِّ السماء والأرض إنه لحق} [الذاريات: 23].
ولما في السماء من آية المطر الذي به تنبت الأرض بعد الجفاف، فالمعنى: وفي السماء آية المطر، فعدل عن ذكر المطر إلى الرزق إدماجًا للامتنان في الاستدلال فإن الدليل في كونه مطرًا يحيي الأرض بعد موتها.
وهذا قياس تمثيل للنبت، أي في السماء المطر الذي ترزقون بسببه.
فالرزق: هو المطر الذي تحمله السحب والسماء هنا: طبقات الجو.
وتقديم المجرور على متعلقه للتشويق وللاهتمام بالمكان وللردّ على الفاصلة.
وعَطف {وما توعدون} إدماج بين أدلة إثبات البعث لقصد الموعظة الشاملة للوعيد على الإشراك والوعد على الإيمان إن آمنوا تعجيلًا بالموعظة عند سنوح فرصتها.
وفي إيثار صيغة {تُوعَدون} خصوصية من خصائص إعجاز القرآن، فإن هذه الصيغة صالحة لأن تكون مصوغة من الوعد فيكون وزن {توعدون} تفعلون مضارع وعَد مبنيًا للنائب.
وأصله قبل البناء للنائب تَعدون وأصله تَوْعَدُون، فلما بني للنائب ضُمّ حرف المضارعة فصارت الواو الساكنة مَدة مجانسة للضمة فصار: تُوعدون.
وصالحة لأن تكون من الإيعاد ووَزنه تأفْعَلُون مثل تصريف أكرم يكرم وبذلك صار {توعدون} مثل تُكرمَون، فاحتملت للبشارة والإنذار.
وكون ذلك في السماء يجوز أن يكون معناه أنه محقق في علم أهل السماء، أي الملائكة الموكلين بتصريفه.
ويجوز أن يكون المعنى: أن مَكان حصوله في السماء، من جنة أو جهنم بناء على أن الجنة وجهنم موجودتان من قبل يوم القيامة، وفي ذلك اختلاف لا حاجة إلى ذكره.
وفيه إيماء إلى أن ما أوعدوه يأتيهم من قِبَل السماء كما قال تعالى: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم} [الدخان: 10، 11].
فإن ذلك الدخان كان في طبقات الجو كما تقدم في سورة الدخان.
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}.
بعد أن أكد الكلام بالقسم بـ {الذاريات} [الذاريات: 1] وما عطف عليها فرع على ذلك زيادة تأكيد بالقسم بخالق السماء والأرض على أن ما يوعدون حق فهو عطف على الكلام السابق ومناسبته قوله: {وما توعدون} [الذاريات: 22].
وإظهار اسم السماء والأرض دون ذكر ضميرهما لإدخال المهابة في نفوس السامعين بعظمة الربّ سبحانه.
وضمير {إنه لحقّ} عائد إلى {ما توعدون} [الذاريات: 22].
وهذا من ردّ العجز على المصدر لأنه رد على قوله أول السورة {إن ما توعدون لصادق} [الذاريات: 5] وانتهى الغرض.
وقوله: {مثل ما أنكم تنطقون} زيادة تقرير لوقوع ما أوعدوه بأن شبه بشيء معلوم كالضرورة لا امتراء في وقوعه وهو كون المخاطبين ينطقون.
وهذا نظير قولهم: كما أن قبلَ اليوم أمس، أو كما أن بعد اليوم غدًا.
وهو من التمثيل بالأمور المحسوسة، ومنه تمثيل سرعة الوصول لقرب المكان في قول زهير:
فهن ووادِي الرسّ كاليد للفم

وقولهم: مثل ما أنك ها هنا، وقولهم: كما أنك ترى وتسمع.
وقرأ الجمهور {مثلَ} بالنصب على أنه صفة حال محذوف قصد منه التأكيد.
والتقدير: إنه لحق حقًا مثل ما أنكم تنطقون.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف مرفوعًا على الصفة {لحق} صفة أريد بها التشبيه.
و{ما} الواقعة بعد {مثل} زائدة للتوكيد.
وأردفت بـ (أنَّ) المفيدة للتأكيد تقوية لتحقيق حقية ما يوعدون.
واجتلب المضارع في {تنطقون} دون أن يقال: نطقكم، يفيد التشبيه بنطقهم المتجدد وهو أقوى في الوقوع لأنه محسوس. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)}.
أقسم الله تعالى بهذه المخلوقات تنبيهًا عليها وتشريفًا لها ودلالة على الاعتبار فيها حتى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله تعالى.
{والذاريات} الرياح بإجماع من المتأولين، يقال: ذرت الريح وأذرت بمعنى: وفي الرياح معتبر من شدتها حينًا، ولينها حينًا وكونها مرة رحمة ومرة عذابًا إلى غير ذلك.
و{ذروًا} نصب على المصدر. و: {الحاملات وقرا} قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي السحاب الموقرة بالماء. وقال ابن عباس وغيره هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم. وقال جماعة من العلماء هي أيضًا مع هذا جميع الحيوان الحامل، وفي جميع ذلك معتبر. و: {وقرا} مفعول صريح، و: {الجاريات يسرًا} قال علي بن أبي طالب وغيره: هي السفن في البحر وقال آخرون: هي السحاب بالريح وقال آخرون: هي الجواري من الكواكب، واللفظ يقتضي جميع هذا. و{يسرًا} نعت لمصدر محذوف وصفات المصادر المحذوفة تعود أحوالًا. و: {يسرًا} معناه: بسهولة وقلة تكلف، و: {المقسمات أمرًا} الملائكة والأمر هنا اسم الجنس، فكأنه قال: والجماعات التي تقسم أمور الملكوت من الأرزاق والآجال والخلق في الأرحام وأمر الرياح والجبال وغير ذلك، لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه، فالآية تتضمن جميع الملائكة لأنهم كلهم في أمور مختلفة، وأنث {المقسمات} من حيث أراد الجماعات.
وقال أبو طفيل عامر بن واثلة كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر فقال: لا تسألوني عن آية من كتاب الله أو سنة ماضية إلا قلت، فقام إليه ابن الكواء فسأله عن هذه، فقال: {الذاريات} الرياح.
و {الحاملات} السحاب، و{الجاريات} السفن، و{المقسمات} الملائكة. ثم قال له سل سؤال تعلم ولا تسأل سؤال تعنت وهذا القسم واقع على قوله: {إنما توعدون لصادق}، و{توعدون} يحتمل أن يكون من الإيعاد، ويحتمل أن يكون من الوعد، وأيها كان فالوصف له بالصدق صحيح و: {صادق} هنا موضوع بدل صدق، ووضع الاسم موضع المصدر. و: {الدين} الجزاء. وقال مجاهد الحساب، والأظهر في الآية أنها للكفار وأنها وعيد محض بيوم القيامة.
ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر فقال: {والسماء ذات الحبك} فظاهر لفظة {السماء} أنها لجميع السماوات، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: هي السماء السابعة. و: {الحُبُك} بضم الحاء والباء: الطرائق التي هي على نظام في الأجرام، فحبك الرمان والماء: الطرائق التي تصنع فيها الريح الهابة عليها، ومنه قول زهير:
مكلل بعميم النبت تنسجه ** ريح خريف لضاحي مائه حبك

وحبك الدرع: الطرائق المتصلة في موضع اتصال الحلق بعضها ببعض، وفي بعض أجنحة الطير حبك على نحو هذا، ويقال لتكسر الشعر حبك، وفي الحديث: «أن من ورائكم الكذاب المضل، وأن من ورائه حبكًا حبكًا».
يعني جعودة شعره فهو يكسره، ويظهر في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائق في موضع تداخل الخيوط هي حبك، ويقال نسج الثوب فأجاد حبكه، فهذه هي الحبك في اللغة. وقال منذر بن سعيد: إن في السماء في تألق جرمها هي هكذا لها حبك، وذلك لجودة خلقتها وإتقان صنعتها، ولذلك عبر ابن عباس في تفسير قوله: {والسماء ذات الحبك} بأن قال: حبكها حسن خلقتها، وقال ابن جبير: {الحبك}: الزينة. وقال الحسن: حبكها كواكبها، وقال ابن زيد: {الحبك}: الشدة، وحبكت شدت، وقرأ {سبعًا شدادًا} [النبأ: 12] وقال ابن جني: {الحبك} طرائق الغيم ونحو هذا، وواحد {الحبك}: حباك، ويقال للظفيرة التي يشد بها حظار القصب ونحوه، وهي مستطيلة تمنع في ترجيب الغرسات المصطفة حباك وقد يكون واحد {الحبك} حبيكة، وقال الراجز: الوافر:
كأنما جللها الحواك ** طنفسة في وشيها حباك

وقرأ جمهور الناس: {الحُبُك} بضم الحاء والباء. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو مالك الغفاري بضم الحاء وسكون الباء تخفيفًا، وهي لغة بني تميم كرسل في رسل، وهي قراءة أبي حيوة وأبي السمال. وقرأ الحسن أيضًا وأبو مالك الغفاري: {الحِبِك} بكسر الحاء والباء على أنها لغة كإبل وإطل.
وقرأ الحسن أيضًا فيما روي عنه: {الحِبْك} بكسر الحاء وسكون الباء كما قالوا على جهة التخفيف: إبل وإطل بسكون الباء والطاء. وقرأ ابن عباس: {الحَبَك} بفتح الحاء والباء. وقرأ الحسن أيضًا فيما روي عنه {الحِبُك} بكسر الحاء وضم الباء وهي لغة شاذة غير متوجهة، وكأنه أراد كسرهما ثم توهم {الحِبُك} قراءة الضم بعد أن كسر الحاء فضم الباء، وهذا على تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء. وقرأ عكرمة {الحُبَك} بضم الحاء وفتح الباء جمع حبكة، وهذه كلها لغات والمعنى ما ذكرناه. والفرس المحبوك الشديد الخلقة الذي له حبك في مواضع من منابت شعره، وذلك دليل على حسن بنيته.
وقوله تعالى: {إنكم لفي قول مختلف}، يحتمل أن يكون خطابًا لجميع الناس مؤمن وكافر، أي اختلفتم بأن قال فريق منكم: آمنا بمحمد وكتابه، وقال فريق آخر: كفرنا، وهذا قول قتادة. ويحتمل أن يكون خطابًا للكفرة فقط، أي: أنتم في جنس من الأقوال مختلف في نفسه، قوم منكم يقولون: ساحر، وقوم: كاهن، وقوم: شاعر، وقوم: مجنون إلى غير ذلك، وهذا قول ابن زيد والضمير في: {عنه} قال الحسن وقتادة: هو عائد على محمد أو كتابه وشرعه. و: {يؤفك} معناه: يصرف، فالمعنى: يصرف عن كتاب الله من صرف ممن غلبت شقاوته، وكان قتادة يقول: المأفوك منا اليوم عن كتاب الله كثيرًا، ويحتمل أن يعود الضمير على القول، أي: يصرف بسببه من أراد الإسلام، بأن يقال له هو سحر، هو كهانة؛ وهذا حكاه الزهراوي.
ويحتمل أن يعود الضمير في {عنه} على القول، أي يصرف عنه بتوفيق الله إلى الإسلام من غلبت سعادته، وهذا على أن يكون قوله: {إنكم لفي قول مختلف} للكفار فقط.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وجه حسن لا يُخِلُّ به، إلا أن عُرْفَ الاستعمال في {أَفَكَ}، إنما هو في الصرف من خير إلى شر، وتأمل ذلك تجدْها أبدًا في المصروفين المذمومين، وحكى أبو عمرو عن قتادة أنه قرأ {من أَفَكَ} بفتح الهمزة والفاء.
وقوله تعالى: {قتل الخراصون} دعاء عليهم، كما تقول: قاتلك الله وقتلك الله، وعقرى حلقى ونحوه، وقال بعض المفسرين معناه: لعن الخراصون، وهذا تفسير لا تعطيه اللفظة. والخراص: المخمن القائل بظنه فتحته الكاهن والمرتاب وغيره ممن لا يقين له، والإشارة إلى مكذبي محمد على كل جهة من طروقهم. والغمرة: ما يغشى الإنسان ويغطيه كغمرة الماء، والمعنى في غمرة من الجهالة. و: {ساهون} معناه عن أنهم {في غمرة} وعن غير ذلك من وجوه النظر.
وقوله تعالى: {يسألون أيان يوم الدين} معناه: يقولون متى يوم الدين؟ على معنى التكذيب، وجائز أن يقترن بذلك من بعضهم هزء وأن لا يقترن.
وقرأ السلمي والأعمش: {إيَان} بكسر الهمزة وفتح الياء المخففة.
وقوله تعالى: {يوم هم على النار يفتنون} قال الزجاج: نصبوا {يوم} على الظرف من مقدر تقديره: هو كائن {يوم هم على النار} ونحو هذا، وقال الخليل وسيبويه: نصبه على البناء لما أضيف إلى غير متمكن. قال بعض النحاة: وهو في موضع رفع على البدل من {يوم الدين}. و: {يفتنون} معناه: يحرقون ويعذبون في النار، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والجميع، ومنه قيل للحرة: فتين، كأن الشمس أحرقت حجارتها.
ومنه قول كعب بن مالك:
معاطي تهوى إليها الحقو ** ق يحسبها من وراءها الفتينا

وفتنت الذهب أحرقته، ولما كان لا يحرق إلا لمعنى الاختبار قيل لكل اختبار فتنة، واستعملوا: فتن، بمعنى اختبر، وعلى هنا موصلة إلى معنى في، وفي قوله تعالى: {ذوقوا فتنتكم} معناه: يقال لهم ذوقوا حرقكم وعذابكم، قاله قتادة وغيره، والذوق: هنا استعارة، وهذا إشارة إلى حرقهم واستعجالهم: هو قولهم: {أيان يوم الدين} وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب منهم.