فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما ذكر تعالى حالة الكفرة وما يلقون من عذاب الله، عقب ذلك بذكر المتقين وما يلقون من النعيم ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى، والجنات والعيون معروف. والمتقي في الآية مطلق في اتقاء الكفر والمعاصي.
وقوله تعالى: {آخذين} نصب على الحال. وقرأ ابن أبي عبلة: {آخذون} بواو. وقال ابن عباس المعنى: {آخذين} في دنياهم {ما آتاهم ربهم} من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه، فالحال على هذا محكية وهي متقدمة في الزمان على كذبهم في جنات وعيون. وقال جماعة من المفسرين معنى قوله: {آخذين ما آتاهم ربهم} أي محصلين لنعم الله التي أعطاهم من جنته ورضوانه، وهذه حال متصلة في المعنى بكونهم في الجنات. وهذا التأويل أرجح عندي لاستقامة الكلام به. وقوله: {قبل ذلك} يريد في الدنيا محسنين بالطاعة والعمل الصالح.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}.
معنى قوله عز وجل: {كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون} أن نومهم كان قليلًا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، فالمراد من كل ليلة، والهجوع: النوم.
وقال الأحنف بن قيس: لست من أهل هذه الآية، وهذا إنصاف منه. وقيل لبعض التابعين مدح الله قومًا {كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون}، ونحن قليل من الليل ما تقوم، فقال رحم الله عبدًا رقد، إذا نعس، وأطاع ربه إذا استيقظ. وفسر أنس بن مالك هذه الآية بأنهم كانوا ينتفلون بين المغرب والعشاء، وقال الربيع بن خيثم، المعنى: كانوا يصيبون من الليل حظًا. وقال مطرف بن عبد الله، المعنى: قل ليلة أتت عليهم هجوعها كله، وقاله ابن أبي نجيح ومجاهد، فالمراد عند هؤلاء بقوله: {من الليل} أي من الليالي. وظاهر الآية عندي أنهم كانوا يقومون الأكثر من ليلهم، أي من كل ليلة وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلًا.
وأما إعراب الآية: فقال الضحاك في كتاب الطبري ما يقتضي أن المعنى {كانوا قليلًا} في عددهم وتم خبر كان، ثم ابتدأ {من الليل ما يهجعون} ف {ما}: نافية. و{قليلًا} وقف حسن.
وقال بعض النحاة: {ما} زائدة، و{قليلًا} مفعول مقدم ب {يهجعون}. وقال جمهور النحويين {ما} مصدرية و{قليلًا} خبر {كان}، والمعنى كانوا قليلًا من الليل هجوعهم. والهجوع مرتفع ب {قليل} على أنه فاعل، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره، وهو الظاهر عندي أن المراد كان هجوعهم من الليل قليلًا. وفسر ابن عمر والضحاك {يستغفرون} ب {يصلون}. وقال الحسن معناه: يدعون في طلب المغفرة، و{الأسحار} مظنة الاستغفار. ويروى أن أبواب الجنة تفتح سحر كل يوم. وفي قصة يعقوب عليه السلام في قوله: {سوف أستغفر لكم ربي} [يوسف: 98] قال أخر الاستغفار لهم إلى السحر. قال ابن زيد في كتاب الطبري: السحر: السدس الآخر من الليل.
وقوله تعالى: {وفي أموالهم حق} الصحيح أنها محكمة، وأن هذا الحق هو على وجه الندب، لا على وجه الفرض، و: {معلوم} يراد به متعارف، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفريضة بفعل المندوبات، وقال منذر بن سعيد: هي الزكاة المفروضة وهذا ضعيف، لأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة. وقال قوم من المتأولين: كان هذا ثم نسخ بالزكاة، وهذا غير قوي وما شرع الله عز وجل بمكة قبل الهجرة شيئًا من أخذ الأموال.
واختلف الناس في {المحروم} اختلافًا، هو عندي تخليط من المتأخرين، إذ المعنى واحد، وإنما عبرعلماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالًا وحصرها مكي ثمانية.
و: {المحروم} هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة، وهو مع ذلك لا يسأل، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق، قال الشعبي: أعياني أن أعلم ما {المحروم}؟ وقال ابن عباس: {المحروم}: المعارف الذي ليس له في الإسلام سهم مال، فهو ذو الحرفة المحدود. وقال أبو قلابة: جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا المحروم. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أجيحت ثمرته من المحرومين، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه، وإلا فالذي أجيحت ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع، وبعد هذا مقدر من الكلام تقديره: فكونوا مثلهم أيها الناس وعلى طريقتهم فإن النظر المؤدي إلى ذلك متوجه، ف {في الأرض آيات} لمن اعتبر وأيقن.
قال القاضي أبو محمد: وهذه إشارة إلى لطائف الحكمة وعجائب الخلقة التي في الأرضين والجبال والمعادن والعيون وغير ذلك. وقرأ قتادة: {آية} على الإفراد.
وقوله تعالى: {وفي أنفسكم} إحالة على النظر في شخص الإنسان فإنه أكثر المخلوقات التي لدينا عبرة لما جعل الله فيه مع كونه من تراب من لطائف الحواس ومن أمر النفس وجهاتها ونطقها، واتصال هذا الجزء منها بالعقل، ومن هيئة الأعضاء واستعدادها لتنفع أو تجمل أو تعين. قال ابن زيد: إنما القلب مضغة في جوف ابن آدم جعل الله فيه العقل، أفيدري أحد ما ذاك العقل؟ وما صفته؟ وكيف هو؟ وقال الرماني: النفس خاصة: الشيء التي لو بطل ما سواها مما ليست مضمنة به لم تبطل، وهذا تعمق لا أحمده. وقوله: {أفلا تبصرون} توقيف وتوبيخ.
وقوله تعالى: {وفي السماء رزقكم}. قال الضحاك وابن جبير: أراد المطر والثلج. وقال واصل الأحدب ومجاهد: أراد القضاء والقدر، أي الرزق عند الله يأتي به كيف يشاء، لا رب غيره. وقرأ ابن محيصن {وفي السماء رازقكم}.
و: {توعدون} يحتمل أن يكون من الوعد، ويحتمل أن يكون من الوعيد، والكل في السماء. قال الضحاك المراد: من الجنة والنار. وقال مجاهد المراد: الخير والشر. وقال ابن سيرين المراد: الساعة.
ثم أقسم تعالى بنفسه على صحة هذا القول والخبر وشبهه في اليقين به بالنطق من الإنسان، وهو عنده في غاية الوضوح، ولا يمكن أن يقع فيه اللبس ما يقع في الرؤية والسمع، بل النطق أشد تخلصًا من هذه واختلف القراء في قوله: {مثل ما}، فقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر {مثلُ} بالرفع، ورويت عن الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عنهم.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأهل المدينة وجل الناس: {مثلَ} بالنصب، فوجه الأولى الرفع على النعت، وجاز نعت النكرة بهذا الذي قد أضيف إلى المعرفة من حرث كان لفظ مثل شائعًا عامًا لوجوه كثيرة، فهو لا تعرفه الإضافة إلى معرفة، لأنك إذا قلت: رأيت مثل زيد فلم تعرف شيئًا، لأن وجوه المماثلة كثيرة، فلما بقي الشياع جرى عليه حكم النكرة فنعتت به النكرة. و{ما} زائدة تعطي تأكيدًا، وإضافة {مثل} هي إلى قوله: {إنكم}. ووجه قراءة النصب أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون مثل قد بني لما أضيف إلى غير متمكن وهو في موضع رفع على الصفة {لحق} ولحقه البناء، لأن المضاف إليه قد يكسب المضاف بعض صفته كالتأنيث في قوله: شرقت صدر القناة. ونحوه، وكالتعريف في غلام زيد إلى غير ذلك، ويجري {مثلَ} حينئذ مجرى {عذاب يومئذ} [المعارج: 11] على قراءة من فتح الميم، ومنه قول الشاعر النابغة الذبياني: الطويل:
على حين عاتبت المشيب على الصبا

ومنه قول الآخر: البسيط:
لم يمنع الشرب منها غير أن هتفت

ف {غير} فاعلة ولكنه فتحها. والوجه الثاني وهو قول المازني إن {مثلَ} بني لكونه مع {ما} شيئًا واحدًا، وتجيء على هذا في مضمار ويحما وأينما، ومنه قول حميد بن ثور: الطويل:
ألا هيما مما لقيت وهيما ** وويهًا لمن لم يدر ما هن ويحما

فلولا البناء وجب أن يكون منونًا، وكذلك قول الشاعر حسان بن ثابت: الطويل:
فأكرم بنا أمًا وأكرم بنا ابن ما

والوجه الثالث: أن تنصب {مثل} على الحال من قوله: {لحق} وهي حال من نكرة وفيه خلاف لكن جوز ذلك الجرمي، وأما غيره فيراه حالًا من الذكر المرفوع في قوله: {لحق} لأن التقدير {لحق} هو، وفي هذا نظر. والنطق في هذه الآية: الكلام بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني. وروي أن بعض الأعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال: من أحوج الكريم إلى أن يحلف؟ والحكاية وقعت في كتاب الثعلبي وسبل الخيرات متممة عن الأصمعي، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله قومًا أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه» وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو فر أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» وأحاديث الرزق والأشعار فيه كثيرة. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)}.
هذه السورة مكية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} وقال أول هذه بعد القسم: {إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع}.
{والذاريات}: الرياح:
{فالحاملات} السحاب.
{فالجاريات} الفلك.
{فالمقسمات}: الملائكة، هذا تفسير عليّ كرم الله وجهه على المنبر، وقد سأله ابن الكوا، قاله ابن عباس.
وقال ابن عباس أيضًا: {فالحاملات} هي السفن الموقرة بالناس وأمتاعهم.
وقيل: الحوامل من جميع الحيوان.
وقيل: الجاريات: السحاب بالرياح.
وقيل: الجواري من الكواكب، وأدغم أبو عمرو وحمزة {والذاريات} في ذال {ذروًا}، وذروها: تفريقها للمطر أو للتراب.
وقرىء: بفتح الواو وتسمية للمحمول بالمصدر.
ومعنى {يسرًا}: جريًا ذا يسر، أي سهولة.
فيسرًا مصدر وصف به على تقدير محذوف، فهو على رأي سيبويه في موضع الحال.
{أمرًا} تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها، فأمرًا مفعول به.
وقيل: مصدر منصوب على الحال، أي مأموره، ومفعول المقسمات محذوف.
وقال مجاهد: يتولى أمر العباد جبريل للغلظة، وميكائيل للرحمة، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ.
وجاء في الملائكة: فالمقسمات على معنى الجماعات.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد الرياح لا غير، لأنها تنشىء السحاب وتقله وتصرفه وتجري في الجو جريًا سهلًا، وتقسم الأمطار بتصريف الرياح. انتهى.
فإذا كان المدلول متغايرًا، فتكون أقسامًا متعاقبة.
وإذا كان غير متغاير، فهو قسم واحد، وهو من عطف الصفات، أي ذرت أول هبوبها التراب والحصباء، فأقلت السحاب، فجرت في الجو باسطة للسحاب، فقسمت المطر.
فهذا كقوله:
يا لهف زيابة للحارث الص ** ابح فالغانم فالآيب

أي: الذي صبح العدو فغنم منهم، فآب إلى قومه سالمًا غانمًا.
والجملة المقسم عليها، وهي جواب القسم، هي {إنما توعدون}، وما موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي توعدونه.
ويحتمل أن تكون مصدرية، أي أنه وعدكم أو وعيدكم، إذ يحتمل توعدون الأمرين أن يكون مضارع وعد ومضارع أوعد، ويناسب أن يكون مضارع أوعد لقوله: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}، ولأن المقصود التخويف والتهويل.
ومعنى صدقة: تحقق وقوعه، والمتصف بالصدق حقيقة هو المخبر.
وقال تعالى: {ذلك وعد غير مكذوب} أي مصدوق فيه.
وقيل: {لصادق}، ووضع اسم الفاعل موضع المصدر، ولا حاجة إلى هذا التقدير.
وقال مجاهد: الأظهر أن الآية في الكفار، وأنه وعيد محض.
{وإن الدين}: أي الجزاء، {لواقع}: أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن.
والظاهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السموات.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هي السماء السابعة.
وقيل: السحاب الذي يظل الأرض.
{ذات الحبك}: أي ذات الخلق المستوي الجيد، قاله ابن عباس وعكرمة وقتادة والربيع.
وقال الحسن، وسعيد بن جبير: {ذات الحبك}: أي الزينة بالنجوم.
وقال الضحاك: ذات الطرائق، يعني من المجرة التي في السماء.
وقال ابن زيد: ذات الشدة، لقوله: {سبعًا شدادًا} وقيل: ذات الصفاقة.
وقرأ الجمهور: {الحبك} بضمتين؛ وابن عباس، والحسن: بخلاف عنه، وأبو مالك الغفاري، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو السمال، ونعيم عن أبي عمرو: بإسكان الباء؛ وعكرمة: بفتحها، جمع حبكة، مثل: طرفة وطرف.
وأبو مالك الغفاري، والحسن: بخلاف عنه، بكسر الحاء والباء؛ وأبو مالك الغفاري، والحسن أيضًا، وأبو حيوة: بكسر الحاء وإسكان الباء، وهو تخفيف فعل المكسور هما وهو اسم مفرد لا جمع، لأن فعلًا ليس من أبنية الجموع، فينبغي أن يعد مع إبل فيما جاء من الأسماء على فعل بكسر الفاء والعين؛ وابن عباس أيضًا، وأبو مالك: بفتحهما.
قال أبو الفضل الرازي: فهو جمع حبكة، مثل عقبة وعقب. انتهى.
والحسن أيضًا: الحبك بكسر الحاء وفتح الباء، وقرأ أيضًا كالجمهور، فصارت قراءته خمسًا: الحبك الحبك الحبك الحبك الحبك.
وقرأ أبو مالك أيضًا: {الحبك} بكسر الحاء وضم الباء، وذكرها ابن عطية عن الحسن، فتصير له ست قراءات.
وقال صاحب اللوامح، وهو عديم النظير في العربية: في أبنيتها وأوزانها، ولا أدري ما رواه. انتهى.
وقال ابن عطية: هي قراءة شاذة غير متوجهة، وكأنه أراد كسرها، ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء، وهذا على تداخل اللغات، وليس في كلام العرب هذا البناء. انتهى.
وعلى هذا تأول النحاة هذه القراءات، والأحسن عندي أن تكون مما اتبع فيه حركة الحاء لحركة ذات في الكسرة، ولم يعتد باللام الساكنة، لأن الساكن حاجز غير حصين.
وجواب القسم: {إنكم لفي قول مختلف}، والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر، كما أن جواب القسم السابق يشملهما، واختلافهم كونهم مؤمنًا بالرسول صلى الله عليه وسلم وكتابه وكافرًا.
وقال ابن زيد: خطاب للكفرة، فيقولون: ساحر شاعر كاهن مجنون، وقال الضحاك: قول الكفرة لا يكون مستويًا، إنما يكون متناقضًا مختلفًا.
وقيل: اختلافهم في الحشر، منهم من ينفيه، ومنهم من يشك فيه.