فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ} هذا خطاب لجميع أُمة محمد صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا؛ فقال عليّ بن أبي طالب وعبيدة السلمانيّ وابن سيرين: هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرّدئ فيها بدل الجيّد.
قال ابن عطية: والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوّع، ندبوا إلى ألاّ يتطوّعوا إلاَّ بمختار جيّد.
والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلّق بأنها مأمور بها والأمر على الوجوب، وبأنه نهى عن الردئ وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوّع فكما للمرء أن يتطوّع بالقليل فكذلك له أن يتطوّع بنازل في القدر، ودرهمٌ خير من تمرة.
تمسك أصحاب النّدب بأن لفظة افْعَلْ صالح للنّدب صلاحيته للفرض، والرّدئ منهيّ عنه في النفل كما هو منهيّ عنه في الفرض، والله أحق من اختير له.
وروى البراء: أن رجلًا علّق قُنْوَ حَشَفٍ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بئسما علّق» فنزلت الآية، خرّجه الترمذيّ وسيأتى بكماله.
والأمر على هذا القول على الندب، ندبوا إلى ألاّ يتطوّعوا إلاَّ بجيّد مختار.
وجمهور المتأوّلين قالوا: معنى {مِنْ طَيِّبَاتِ} من جيد ومختار {مَا كَسَبْتُمْ}.
وقال ابن زيد: من حلال {مَا كَسَبْتُمْ}. اهـ.

.قال الفخر:

ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب والفضة، وزكاة النَّعم، لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب، ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض، على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدًا، إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس في الخضراوات صدقة» وأيضًا مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلًا كان أو كثيرًا وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة». اهـ.
وقال الفخر:
اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين:
القول الأول: أنه الجيد من المال دون الرديء، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء.
والقول الثاني: وهو قول ابن مسعود ومجاهد: أن الطيب هو الحلال، والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه:
الحجة الأولى:
إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد.
الحجة الثانية:
أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله: ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال، أمن حلاله أو من حرامه.
الحجة الثالثة:
أن هذا القول متأيد بقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تنفقوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها، لا الأشياء الخسيسة التي يجب على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته، واحتج القاضي للقول الثاني فقال: أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال، فإذا بطل الأول تعين الثاني، وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمرًا بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حرامًا أو حلالًا وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل، فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال، ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب هاهنا ما يكون طيبًا من كل الوجوه فيكون طيبًا بمعنى الحلال، ويكون طيبًا بمعنى الجودة، وليس لقائل أن يقول حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز لأنا نقول الحلال إنما سمي طيبًا لأنه يستطيبه العقل والدين، والجيد إنما يسمى طيبًا لأنه يستطيبه الميل والشهوة، فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين، فكان اللفظ محمولًا عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال فنقول: الأموال الزكاتية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة، فإن كان الكل شريفًا كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك، وإن كان الكل خسيسًا كان الزكاة أيضًا من ذلك الخسيس ولا يكون خلافًا للآية لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيسًا من ذلك المال بل إن كان في المال جيد ورديء، فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك وأما إن كان المال مختلطًا فالواجب هو الوسط قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم» هذا كله إذا قلنا المراد من قوله: {أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ}.
الزكاة الواجبة، أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع، أو قلنا المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع، فنقول: إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه، كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية، فإنه لابد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها، فكذا هاهنا. اهـ.
قال ابن عطية: قوله: {من طيبات} يحتمل أن لا يقصد به لا الحل ولا الجيد، لكن يكون المعنى كأنه قال: أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط، ثم دخل ذكر الطيب تبيينًا لصفة حسنه في المكسوب عامًا، وتقريرًا للنعمة.
كما تقول: أطعمت فلانًا من مشبع الخبز، وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذه الجهة يعم الجودة، والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن من خبيث. اهـ.

.قال ابن عاشور:

المراد بالطيّبات خيار الأموال، فيطلق الطيِّب على الأحسن في صنفه.
والكَسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد.
ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بصدقة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلاّ طيّبًا تلقّاها الرحمن بيمينه» الحديث، وفي الحديث الآخر: «إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّبًا».
ولم يذكر الطيّبات مع قوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه، ويظهر أنّ ذلك لم يقيّد بالطيّبات لأنّ قوله: {أخرجنا لكم} أشعر بأنّه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك، لأنّ الأموال الخبيثة تحصل غالبًا من ظُلم الناس أو التحيّل عليهم وغشّهم وذلك لا يتأتّى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالبًا. اهـ.

.قال ابن كثير:

قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه- وهو خبيثه- فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا، ولهذا قال: {وَلا تَيَمَّمُوا} أي: تقصدوا {الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون.
وقيل: معناه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مُرّة الهَمْداني، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه» قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟. قال: «غَشَمُه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه، ولا يتصدقُ به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث». والصحيح القول الأول. اهـ.

.قال في روح البيان:

ذكر بعض الأفاضل أنه إنما فسر الطيب بالجيد دون الحلال لأن الحل استفيد من الأمر فإن الإنفاق من الحرام لا يؤمر به ولأن قوله تعالى بعده {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} والخبيث هو الردئ المستخبث يدل على أن المعنى أنفقوا مما يستطاب من أكسابكم. اهـ.

.قال القرطبي:

الكسب يكون بتعب بدن وهي الإجارة وسيأتى حكمها، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتى بيانه.
والميراث داخل في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه.
قال سهل بن عبد الله: وسئل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرّحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخلَ في آفات الكسب لهذا الشأن.
قال: إن كان معه قَوام من العيش بمقدار ما يكفّ نفسه عن الناس فتركُ هذا أفضل؛ لأنه إذا طلب حلالًا وأنفق في حلال سئل عنه وعن كسبه وعن إنفاقه؛ وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال الراغب: تخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان بما يكتسبه أضن به مما يرثه، فأذن الموروث معقول من فحواه. انتهى. وهو حسن. اهـ.

.قال القرطبي:

قال ابن خُوَيْزِمَنْدَاد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أولادكم من طيّب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئًا». اهـ.
وقال القرطبي:
قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} يعني النبات والمعادن والرِّكاز، وهذه أبواب ثلاثة تضمّنتها هذه الآية. أما النبات فروى الدَّارَقُطْنِيَّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: جرت السُّنّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أَوْسُق زكاة».
والوَسْق ستون صاعًا، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
وليس فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة.
وقد احتج قوم لأبي حنيفة بقول الله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} وإن ذلك عمومٌ في قليل ما تُخرجه الأرض وكثيره وفي سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الأمر الوجوب.
وسيأتي بيان هذا في الأنعام مستوفىً.
وأما المعدِن فروى الأئمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العجماء جرَحها جُبَار والبئر جُبَار والمعْدِن جُبَار وفي الرّكاز الخمس» قال علماؤنا: لما قال صلى الله عليه وسلم: «وفي الرّكاز الخُمُس» دلَّ على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد فصل بين المعادن والرّكاز بالواو الفاصلة، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جُبَار وفيه الخمس، فلما قال «وفي الركاز الخمس» عُلم أن حكم الرِّكاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم.
والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر، وهو عند سائر الفقهاء كذلك؛ لأنهم يقولون في النَّدْرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تُنال بعمل ولا بَسْعي ولا نَصب، فيها الخمسُ؛ لأنها رِكاز. اهـ.