فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حديث ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقالواْ سَلاَمًا}.
إلى آخر القصة. قد قدمنا إيضاحه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الحجر: 51] الآيات. وفي سورة هود في القصة المذكورة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} [الحجر: 76]، وفي غير ذلك من المواضع.
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت: 16] الآية.
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)}.
قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة وَهُمْ يَنظُرُونَ}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون} [فصلت: 17] الآية.
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة ق في الكلام على قوله تعالى: {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السماء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] الآية.
تنبيه:
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ}، ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم، لأن قوله: {بِأَيْدٍ} ليس جمع يد: وإنما الأيد القوة، فوزن قوله هنا بأيد فعل، ووزن الأيدي أفعل، فالهمزة في قوله: {بأَيْدٍ} في مكان الفاء والياء في مكان العين، والدال في مكان اللام. ولو كان قوله تعالى: {بأَيْدٍ} جمع يد لكان وزنه أفعلًا، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء، والدال في مكان العين والياء المحذوفة لكونه منقوصًا هي اللام.
والأيد، والآد في لغة العرب بمعنى القوة، ورجل أيد قوي، ومنه قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بروحالقدس} [البقرة: 87 و253] أي قويناه به، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطًا فاشحًا، والمعنى: وألسماء بنيانها بقوة.
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قومًا إلا قالوا ساحر أو مجنون، ثم قال: {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ}، ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال، لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا فقال: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي الموجب الذي جمع على اتفاهم جميعًا على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون، واتحاد في الطغيان الذي هو مجاوزة الحد في الكفر.
وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا لأن قلوب بعضهم تشبه قلوبهم بعض في الكفر والطغيان، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة: {كَذَلِكَ قال الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قولهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118].
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54)}.
نفيه جل وعلا في هذه الآية الكريمة اللوم عن نبيه صلى الله عليه وسلم، يدل على أنه أدى الأمانة ونصح الامة.
وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِينًا} [المائدة: 3]. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40]، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة معلومة.
{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)}.
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئًا لحكم متعددة، فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع، فإنا نذكر بقية حكمه، والآيات الدالة عليها، وقد قدمنا أملة ذلك.
ومن ذلك القبيل هذه الآية الريمةن فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير وهي رجاء انتفاع المذكر به، لأن تعالى قال هنا: {وَذَكِرْ}، ورتب عليه قوله: {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين}.
ومن حكم ذلك أيضًا خروج المذكر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله: {قالواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164].
ومن حكم ذلك أيضًا النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه لأن الله تعالى يقول: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165].
وقد بين هذه الحجة في آخر طه في قوله: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقالواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134] الآية.
وأشار لها في القصص في قوله: {ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقولواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} [القصص: 47].
وقد قدمنا هذه الحكم في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} [المائدة: 105]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
ومن منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} منزلة الفرار:
قال الله تعالى: 51: 50 {فَفِرُّوا إِلَى اللَّه} وحقيقة الفرار: الهرب من شيء إلى شيء وهو نوعان: فرار السعداء وفرار الأشقياء.
ففرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل وفرار الأشقياء: الفرار منه لا إليه.
وأما الفرار منه إليه: ففرار أوليائه قال ابن عباس في قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} فروا منه إليه واعملوا بطاعته وقال سهل بن عبد الله: (فروا مما سوى الله إلى الله) وقال آخرون: (اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة).
وقال صاحب المنازل:
(هو الهرب مما لم يكن إلى من لم يزل وهو على ثلاث درجات: فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا ومن الكسل إلى التشمير جدا وعزما ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء).
يريد بما لم يكن (الخلق) وبما لم يزل (الحق).
وقوله: فرار العامة: من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا.
(الجهل) نوعان: عدم العلم بالحق النافع وعدم العمل بموجبه ومقتضاه فكلاهما جهل لغة وعرفا وشرعا وحقيقة قال موسى: 2: 67 {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} لما قال له قومه: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أي من المستهزئين وقال يوسف الصديق: 12: 33 {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي من مرتكبي ما حرمت عليهم وقال تعالى: 4: 17 {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} قال قتادة: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما عصى الله به فهو جهالة وقال غيره: أجمع الصحابة رضي الله عنه أن كل من عصى الله فهو جاهل وقال الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وسمى عدم مراعاة العلم جهلا إما لأنه لم ينتفع به فنزل منزلة الجاهل وإما لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله.
فالفرار المذكور: هو الفرار من الجهلين: من الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقادا ومعرفة وبصيرة ومن جهل العمل إلى السعي النافع والعمل الصالح قصدا وسعيا.
قوله: ومن الكسل إلى التشمير جدا وعزما.
أي: يفر من إجابة داعي الكسل إلى داعي العمل والتشمير بالجد والاجتهاد.
و(الجد) هاهنا هو صدق العمل وإخلاصه من شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون وهو تحت السين وسوف وعسى ولعل فهى أضر شيء على العبد وهي شجرة ثمرها الخسران والندامات.
والفرق بين الجد والعزم: أن (العزم) صدق الإرادة واستجماعها و(الجد) صدق العمل وبذل الجهد فيه وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقى أوامره بالعزم والجد فقال: 2: 63 {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} وقال: 7: 145 {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} وقال: 19: 12 {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} أي بجد واجتهاد وعزم لا كمن يأخذ ما أمر به بتردد وفتور.
وقوله: ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء.
يريد هروب العبد من ضيق صدره بالهموم والغموم والأحزان والمخاوف التي تعتريه في هذه الدار من جهة نفسه وما هو خارج عن نفسه مما يتعلق بأسباب مصالحه ومصالح من يتعلق به وما يتعلق بماله وبدنه وأهله وعدوه يهرب من ضيق صدره بذلك كله إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى وصدق التوكل عليه وحسن الرجاء لجميل صنعه به وتوقع المرجو من لطفه وبره ومن أحسن كلام العامة قولهم: لا هم مع الله قال الله تعالى: 65: 2، 3 {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب} قال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس.
وقال أبو العالية: (مخرجا من كل شدة وهذا جامع لشدائد الدنيا والآخرة ومضايق الدنيا والآخرة فإن الله يجعل للمتقي من كل ما ضاق على الناس واشتد عليهم في الدنيا والآخرة مخرجا) وقال الحسن: (مخرجا مما نهاه عنه) 65: 3 {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي كافي من يثق به في نوائبه ومهماته يكفيه كل ما أهمه و(الحسب) الكافي 9: 59 {حَسْبُنَا اللَّهُ} كافينا الله.
وكلما كان العبد حسن الظن بالله حسن الرجاء له صادق التوكل عليه: فإن الله لا يخيب أمله فيه ألبتة فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل ولا يضيع عمل عامل وعبر عن الثقة وحسن الظن بالسعة فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنه به.
فصل:
قال: وفرار الخاصة من الخبر: إلى الشهود ومن الرسوم: إلى الأصول ومن الحظوظ: إلى التجريد.
يعني أنهم لا يرضون أن يكون إيمانهم عن مجرد خبر حتى يترقوا منه إلى مشاهدة المخبر عنه فيطلبون الترقى من علم اليقين بالخبر إلى عين اليقين بالشهود كما طلب إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه ذلك من ربه إذ قال: 2: 260 {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قال بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} فطلب إبراهيم أن يكون اليقين عيانا والمعلوم مشاهدا وهذا هو المعنى الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالشك في قوله «نحن أحق بالشك من إبراهيم» حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} وهو صلى الله عليه وسلم لم يشك ولا إبراهيم حاشاهما من ذلك وإنما عبر عن هذا المعنى بهذه العبارة.
هذا أحد الأقوال في الحديث.
وفيه قول ثان: أنه على وجه النفي أي لم يشك إبراهيم حيث قال ما قال ولم نشك نحن وهذا القول صحيح أيضا أي لو كان ما طلبه للشك لكنا نحن أحق به منه لكن لم يطلب ما طلب شكا وإنما طلب ما طلبه طمأنينة.
فالمراتب ثلاث علم يقين يحصل عن الخبر ثم تتجلى حقيقة المخبر عنه للقلب أو البصر حتى يصير العلم به عين يقين ثم يباشره ويلابسه فيصير حق يقين فعلمنا بالجنة والنار الآن علم يقين فإذا أزلفت الجنة للمتقين في الموقف وبرزت الجحيم للغاوين وشاهدوهما عيانا كان ذلك عين يقين كما قال تعالى: 102: 6، 7 {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فذلك حق اليقين وسنزيد ذلك إيضاحا إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إليه.
وأما قوله: (ومن الرسوم إلى الأصول).
فإنه يريد بالرسوم: ظواهر العلم والعمل وبالأصول: حقائق الإيمان ومعاملات القلوب وأذواق الإيمان ووارداته فيفر من إحكام العلم والعمل إلى خشوع السر للعرفان فإن أرباب العزائم في السير لا يقنعون برسوم الأعمال وظواهرها ولا يعتدون إلا بأرواحها وحقائقها وما يثبته لهم التعرف الإلهي وهو نصيبهم من الأمر.
والتعرف الإلهي لا يقتضي مفارقة الأمر كما يظن قطاع الطريق وزنادقة الصوفية بل يستخرج منهم حقائق الأمر وأسرار العبودية وروح المعاملة فحظهم من الأمر: حظ العالم بمراد المتكلم من كلامه تصريحا وإيماء وتنبيها وإشارة وحظ غيرهم منه: حظ التالي له حفظا بلا فهم ولا معرفة لمراده وهؤلاء أحوج شيء إلى الأمر لأنهم لم يصلوا إلى تلك التعرفات والحقائق إلا به فالمحافظة عليه لهم علما ومعرفة وعملا وحالا ضرورية لا عوض لهم عنه ألبتة.
وهذا القدر هو الذي فات الزنادقة وقطاع الطريق من المنتسبين إلى طريقة القوم.
فإنهم لما علموا أن حقائق هذه الأوامر هي المطلوبة وأرواحها لا صورها وأشباحها ورسومها قالوا: نجمع هممنا على مقاصدها وحقائقها ولا حاجة لنا إلى رسومها وظواهرها بل الاشتغال برسومها اشتغال عن الغاية بالوسيلة وعن المطلوب لذاته بالمطلوب لغيره وغرهم ما رأوا فيه الواقفين مع رسوم الأعمال وظواهرها دون مراعاة حقائقها ومقاصدها وأرواحها فرأوا نفوسهم أشرف من نفوس أولئك وهممهم أعلى وأنهم المشتغلون باللب وأولئك بالقشر فتركب من تقصير هؤلاء وعدوان هؤلاء تعطيل.
وجملة الأمر: أن هؤلاء عطلوا سره ومقصوده وحقيقته وهؤلاء عطلوا رسمه وصورته فظنوا أنهم يصلون إلى حقيقته من غير رسمه وظاهره فلم يصلوا إلا إلى الكفر والزندقة وجحدوا ما علم بالضرورة مجيء الرسل به فهؤلاء كفار زنادقة منافقون وأولئك مقصرون غير كاملين والقائمون بهذا وهذا هم الذين يرون أن الأمر متوجه إلى قلوبهم قبل جوارحهم وأن على القلب عبودية في الأمر كما على الجوارح وأن تعطيل عبودية القلب بمنزلة تعطيل عبودية الجوراح وأن كمال العبودية قيام كل من الملك وجنوده بعبوديته: فهؤلاء خواص أهل الإيمان وأهل العلم والعرفان.
فصل:
قوله: (ومن الحظوظ إلى التجريد).
يريد الفرار من حظوظ النفوس على اختلاف مراتبها فإنه لا يعرفها إلا المعتنون بمعرفة الله ومراده وحقه على عبده ومعرفة نفوسهم وأعمالهم وآفاتهما ورب مطالب عالية لقوم من العباد هي حظوظ لقوم آخرين يستغفرون الله منها ويفرون إليه منها يرونها حائلة بينهم وبين مطلوبهم.
وبالجملة فالحظ: ما سوى مراد الله الدينى منك كائنا ما كان وهو ما يبرح حظ محرم إلى مكروه إلى مباح إلى مستحب غيره أحب إلى الله منه ولا يتميز هذا إلا في مقام الرسوخ في العلم بالله وأمره وبالنفس وصفاتها وأحوالها.