فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}.
اختلف العلماء في معنى قوله: {لِيَعْبُدُونِ}، فقال بعضهم المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقيا، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89]، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان.
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم.
وأمثال ذلك كثيرة في القرآن، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي، {فإن قتلوكم فاقتلوهم}، من القتل لا من القتال، وقد بينا هذا في مواضع متعددة، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر:
فسيف بني عبس وقد ضربوا به ** نبا من يَدَيْ ورقاء عن رأس خالد

فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي، هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي.
وقد قدمنا في الحجرات أن من ذلك قوله تعالى: {قالتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14] الآية بدليل قوله: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} [التوبة: 99]- إلى قوله- {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 99].
وقال بعض العلماء: معنى قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}: أي إلا ليقروا لي بالعبودية طوعًا أو كرهًا لأن المؤمن يطيع باختياره والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرًا عليه، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره، ويدل له قوله تعالى: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] الآية، والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله جل وعلا، وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعًا وبعضهم يفعله كرهًا.
وعن مجاهد أنه قال: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}: أي إلا ليعرفوني. واستدل بعضهم لهذا القول بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقولنَّ الله} [الزخرف: 87] ونحو ذلك من الآيات. وهو كثير في القرآن، وقد أوضحنا كثرته فيه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
وقال بعض أهل العلم: وهو مروي عن مجاهد أيضًا معنى قوله: {إلاَّ لِيَعْبُدُونِ}: أي إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره، وعلى هذا القول: فإرادة عبادتهم المدلول عليهم باللام في قوله: {لِيَعْبُدُونِ} إرادة دينية شرعية وهي الملازمة للأمر، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله الا إرادة كونية قدرية، لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الغنس والجن، والواقع خلاف ذلك بدليل قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 1- 3] إلى آخر السورة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق إن شاء الله في معنى هذه الآية الكريمة {إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} في إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ثم أجازيهم على أعمالهم، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملًا، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم.
قال تعالى في أول سورة هود: {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [هود: 7]، ثم بين الحكمة في ذلك فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقولنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [هود: 7].
وقال تعالى في أول سورة الملك: {لَّذِي خَلَقَ الموت والحياة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وقال تعالى في أول سورة الكهف: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7] الآية.
فتصريحه جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملًا، يفسر قوله: {لِيَعْبُدُونِ}. وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولًا وبعثهم ثانيًا، هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وذلك في قوله تعالى في أول يونس: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 4]، وقوله في النجم: {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى} [النجم: 31].
وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى، أي مهملًا، لم يؤمر ولم ينه، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت أي ويجازيه على عمله، قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى} [القيامة: 36- 37]- إلى قوله- {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} [القيامة: 40].
والبراهين على البعث دالة على الجزاء، وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكرًا ذلك عليهم في قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتعالى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} [المؤمنون: 115- 116].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى} [الأحقاف: 3].
تنبيه:
اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافًا، والواقع خلاف ذلك. لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضًا، وإيضاح ذلك ان الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء، وأنه محيط بكل شيء علمًا، وذلك في قوله تعالى في آخر الطلاق:
{الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا} [الطلاق: 12].
وذكر في مواضع كثيرة من كتابه أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده، كقوله تعالى: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} [البقرة: 163]، ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} [البقرة: 164]- إلى قوله- {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [القرة: 164] ولما قال: {يَا أَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُم} [البقرة: 21] بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده بقوله بعده {الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] الآية.
والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق كثير جدًا في القرآن، وقد أوضحنا الآيات الدالة عليه في أول سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا واتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} [الفرقان: 2- 3] الآية، وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] الآية، وفي غير ذلك من المواضع.
وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم وذلك في قوله: {وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم وذلك في قوله: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} [يونس: 4] الآية، وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافًا مع أنها لا اختلاف بينها، لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد، وهو معرفة الله وطاعته ومعرفة وعده ووعيده، وقوله: {لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق: 12] وقوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم} [البقرة: 21] راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله، لأن من عرف الله اطاعه ووحده.
وهذا العلم يعلمهم الله إياه ويرسل لهم الرسل بمقتضاه ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حيي عن بينه، فالتكليف بعد العلم، والجزاء بعد التكليف، فظهر بهذا اتفاق الآيات لأن الجزاء لابد له من تكليف، وهو الابتلاء المذكور في الآيات والتكليف لابد له لمن علم، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي اللم بالخالق، ودل بعضها على أنها الابتلاء، ودل بعضها على أنها الجزاء، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه، وبعضه مرتب على بعض.
وقد بينا معنى {إلاَّ لِيَعْبُدُونَ} في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة هود في الكلام على قوله تعالى: {ولذلك خَلَقَهُم} [هود: 119] وبينا هناك أن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله: {ولذلك خَلَقَهُمْ} أي ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم، وفي قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179] إرادة كونية قدرية، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله: {إلاَّ لِيَعْبُدُونَ}، إرادة دينية شرعية.
وبينا هناك أيضًا الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسمًا إلى شقي وسعيد، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم. وقال تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2]: وقال: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7].
والحاصل: أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده وأمرهم بذلك وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية، ثم إن الله جل وعلا يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية، فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة، وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179]. وقوله: {ولذلك خَلَقَهُم} [هود: 119]، وبين قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وإنما ذكرنا أن الإرادة قد تكون دينية شرعية، وهي ملازمةللأمر والرضا، وقد تكون كونية قدرية وليست ملازمة لهما، لأن الله يأمر الجميع بالأفعال المراد منهم دينًا، ويريد ذلك كونًا وقدرًا من بعضهم دون بعض، كما قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ} [النساء: 64]، فقوله: {إلا ليطاع}: أي فيما جاء به من عندنا، لأنه مطلوب مراد من المكلفين شرعًا ودينًا، وقوله: {بإذن الله} بدل على انه لا يقع من ذلك غلا ما أراده الله كونًا وقدرًا، والله جل وعلا يقول: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} [يونس: 25] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «كلٌّ ميسر لما خلق له» والعلم عند الله تعالى.
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمْ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14].
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)}.
أصل الذنوب في لغة العرب الدلون وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقلب بالدلو، فيأخذ هذا منه ملء دلو، ويأخذ الآخر كذلك، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب، التي هي الدلو على النصيب. قال الراجز في اقتسامهمالماء بالدلو:
لنا ذنوب ولكم ذنوب ** فإن أبيتم فلنا القليب

ويروى:
إنا إذا شاربنا شريب ** له ذنوب ولنا ذنوب

فإن أبى كان لنا القليب.
ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي.
وقيل عبيد:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ** فحق لشأس من نداك ذنوب

وقول أبي ذؤيب:
لعمرك والمنايا طارقات ** لكل بني أب منها ذنوب

فالذنوب في البيتين النصيب، ومعنى الآية الكريمة، فإنه للذين ظلموا بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ذنوبًا، أي نصيبًا من عذاب الله مثل ذنوب أصحابهم من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحًا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {قَدْ قالهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 50- 51].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونَ} قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} [الرعد: 6] وفي سورة مريم في الكلام على قوله: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84] وغيري ذلك من المواضع.
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)}.
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بالويل من يوم القيامة لما ينالهم فيه من عذاب النار، جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى ص {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} [ص: 27] وقوله في إبراهيم {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم: 2]. وقوله في المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15- 19- 24- 28- 34- 40- 45- 47- 49] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وقد قدمنا أن كلمة {وَوَيْلٌ}، قل فيها بعض أهل العلم: إنها مصدر لا فعل له من لفظه، ومعناه الهلاك الشديد، وقيل: هو واد في جهنم تستعيذ من حره، والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)}.
الأظهر أن هذا معطوف على جملة {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول} [الذاريات: 52] الآية التي هي ناشئة عن قوله: {ففروا إلى الله إلى ولا تجعلوا مع الله إلها آخر} [الذاريات: 50، 51] عَطْفَ الغرض على الغرض لوجود المناسبة.
فبعد أن نظَّر حالهم بحال الأمم التي صممت على التكذيب من قبلهم أَعقبه بذكر شنيع حالهم من الانحراف عما خلقوا لأجله وغُرز فيهم.
فقوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} خبر مستعمل في التعريض بالمشركين الذين انحرفوا عن الفطرة التي خُلقوا عليها فخالفوا سنتها اتباعًا لتضليل المضلين.
والجن: جنس من المخلوقات مستتر عن أعين الناس وهو جنس شامل للشياطين قال تعالى عن إبليس: {كان من الجن} [الكهف: 50].
والإِنس: اسم جمععٍ واحدُه إنسي بياء النسبة إلى اسم جمعِه.