فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



حمزة وعلي: سلم والسلم السلام {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أي أنتم قوم منكرون فعرفوني من أنتم {فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} فذهب إليهم في خفية من ضيوفه ومن أدب المضيف أن يخفي أمره وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرًا من أن يكفه، وكان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر {فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} ليأكلوا منه فلم يأكلوا {قال أَلاَ تَأْكُلُونَ} أنكر عليهم ترك الأكل أو حثهم عليه {فَأَوْجَسَ} فأضمر {مِنْهُمْ خِيفَةً} خوفًا لأن من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب {قالواْ لاَ تَخَفْ} إنا رسل الله، وقيل: مسح جبريل العجل فقام ولحق بأمه {وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ} أي يبلغ ويعلم والمبشر به إسحاق عند الجمهور.
{فَأَقْبَلَتِ امرأته في صَرَّةٍ} في صيحة من صر القلم والباب، قال الزجاج: الصرة شدة الصياح هاهنا ومحله النصب على الحال أي فجاءت صارة.
وقيل: فأخذت في صياح وصرتها قولها يا ويلتا {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} فلطمت ببسط يديها.
وقيل: فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب {وَقالتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أي أنا عجوز فكيف ألد كما قال في موضع آخر {أألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِى شَيْخًا} [هود: 72] {قالواْ كَذَلِكِ} مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به {قال رَبُّكِ} أي إنما نخبرك عن الله تعالى والله قادر على ما تستبعدين {إِنَّهُ هُوَ الحكيم} في فعله {العليم} فلا يخفى عليه شيء.
ورُوي أن جبريل قال لها حين استبعدت: انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.
ولما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بأمر الله رسلًا في بعض الأمور {قال فَمَا خَطْبُكُمْ} أي فما شأنكم وما طلبكم وفيم أرسلتم؟ {أَيُّهَا المرسلون} أرسلتم بالبشارة خاصة أو لأمر آخر أولهما {قالواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} أي قوم لوط {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ} أريد السجيل وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر حتى صار في صلابة الحجارة {مُّسَوَّمَةً} معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به {عِندَ رَبّكَ} في ملكه وسلطانه {لِلْمُسْرِفِينَ} سماهم مسرفين كما سماهم عادين لإسرافهم وعدوانهم في عملهم حيث لم يقتنعوا بما أبيح لهم {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا} في القرية ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة {مِنَ المؤمنين} يعني لوطًا ومن آمن به {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين} أي غير أهل بيت وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد لأن الملائكة سموهم مؤمنين ومسلمين هنا {وَتَرَكْنَا فِيهَا} في قراهم {ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم} علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم.
قيل: هي ماء أسود منتن.
{وَفِى موسى} معطوف على {وَفِى الأرض ءايات} أو على قوله: {وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً} على معنى وجعلنا في موسى آية كقوله:
علفتها تبنًا وماء باردًا

{إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ} بحجة ظاهرة وهي اليد والعصا {فتولى} فأعرض عن الإيمان {بِرُكْنِهِ} بما كان يتقوى به من جنوده وملكه، والركن ما يركن إليه الإنسان من مال وجند {وَقال ساحر} أي هو ساحر {أَوْ مَجْنُونٌ فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم في اليم وَهُوَ مُلِيمٌ} آتٍ بما يلام عليه من كفره وعناده.
وإنما وصف يونس عليه السلام به في قوله: {فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ} (الصافات: 142) لأن موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم، فراكب الكفر ملوم على مقداره، وراكب الكبيرة والصغيرة والذلة كذلك، والجملة مع الواو حال من الضمير في {فأخذناه}.
{وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} هي التي لا خير فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر وهي ريح الهلاك، واختلف فيها والأظهر أنها الدبور لقوله عليه السلام: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {مَا تَذَرُ مِن شيء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} هو كل ما رم أي بلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك، والمعنى ما تترك من شيء هبت عليه من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم إلا أهلكته {وَفِى ثَمُودَ} آية أيضًا {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} تفسيره قوله: {تَمَتَّعُواْ في دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ} [هود: 65] {فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} فاستكبروا عن امتثاله {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} العذاب وكل عذاب مهلك صاعقة {الصعقة} علي وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة {وَهُمْ يَنظُرُونَ} لأنها كانت نهارًا يعاينونها {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي هرب أو هو من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} ممتنعين من العذاب أو لم يمكنهم مقابلتنا بالعذاب لأن معنى الانتصار المقابلة {وَقَوْمَ نُوحٍ} أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه، أو واذكر قوم نوح.
وبالجر أبو عمرو وعلي وحمزة أي وفي قوم نوح آية ويؤيده قراءة عبد الله {وَفِى قَوْمُ نُوحٍ} {مِن قَبْلُ} من قبل هؤلاء المذكورين {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} كافرين.
{والسماء} نصب بفعل يفسره {بنيناها بِأَيْيْدٍ} بقوة والأيد القوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} لقادرون من الوسع وهي الطاقة والموسع القوي على الإنفاق أو لموسعون ما بين السماء والأرض {والأرض فرشناها} بسطناها ومهدناها وهي منصوبة بفعل مضمر أي فرشنا الأرض فرشناها {فَنِعْمَ الماهدون} نحن {وَمِن كُلّ شَىْء} من الحيوان {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ذكرًا وأنثى.
وعن الحسن: السماء والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والبر والبحر والموت والحياة، فعدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد لا مثل له {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء وفرش الأرض وخلق الأزواج لتتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه {فَفِرُّواْ إِلَى الله} أي من الشرك إلى الإيمان بالله أو من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن أو مما سواه إليه {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ إِنّي لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} والتكرير للتوكيد والإطالة في الوعيد أبلغ.
{كذلك} الأمر مثل ذلك وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحرًا أو مجنونًا.
ثم فسر ما أجمل بقوله: {مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قومك {مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قالواْ} هو {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} رموهم بالسحر أو الجنون لجهلهم {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} الضمير للقول أي أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعًا متفقين عليه {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون} أي لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان والطغيان هو الحامل عليه {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا عنادًا {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلغت الرسالة وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة {وَذَكِّر} وعظ بالقرآن {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} بأن تزيد في عملهم {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} العبادة إن حملت على حقيقتها فلا تكون الآية عامة بل المراد بها المؤمنون من الفريقين دليله السياق أعني {وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} وقراءة ابن عباس رضي الله عنهما {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس مِنَ المؤمنين} وهذا لأنه لا يجوز أن يخلق الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون للعبادة لأنه إذا خلقهم للعبادة وأراد منهم العبادة فلابد أن توجد منهم، فإذا لم يؤمنوا علم أنه خلقهم لجهنم كما قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179].
وقيل: إلا لآمرهم بالعبادة وهو منقول عن علي رضي الله عنه.
وقيل: إلا ليكونوا عبادًا لي.
والوجه أن تحمل العبادة على التوحيد فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل عبادة في القرآن فهي توحيد.
والكل يوحدونه في الآخرة لما عرفه أن الكفار كلهم مؤمنون موحدون في الآخرة دليلة قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قالواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
نعم قد أشرك البعض في الدنيا بالإضافة إلى الأبد أقل من يوم، ومن اشترى غلامًا وقال: ما اشتريته إلا للكتابة كان صادقًا في قوله ما اشتريته إلا للكتابة، وإن استعمله في يوم من عمره لعمل آخر {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ} ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم أو واحدًا من عبادي {وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} قال ثعلب: أن يطعموا عبادي وهي إضافة تخصيص كقوله عليه السلام خبرًا عن الله تعالى:
«من أكرم مؤمنًا فقد أكرمني ومن آذى مؤمنًا فقد آذاني» {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} الشديد القوة والمتين بالرفع صفة لذو، وقرأ الأعمش بالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} رسول الله بالتكذيب من أهل مكة {ذَنُوبًا مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم} نصيبًا من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون المهلكة.
قال الزجاج: الذنوب في اللغة النصيب {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} نزول العذاب وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ} أي من يوم القيامة.
وقيل: من يوم بدر {ليعبدوني}، {أن يطعموني}.
{فَلا يستعجلوني} بالياء في الحالين: يعقوب، وافقه سهل في الوصل الباقون بغير ياء، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة الذاريات:
{والذاريات ذَرْوًا}.
هي الريح تذرو التراب وغيره، ومنه قوله تعالى: {تَذْرُوهُ الرياح} [الكهف: 45] وانتصب ذروًا على المصدرية {فالحاملات وِقرًا} هي السحاب تحمل المطر، والوقر: الحمل وهو مفعول به {فالجاريات يُسْرًا} هي السفن تجري في البحر، وإعراب يسرًا صفة لمصدر محذوف ومعناه بسهولة {فالمقسمات أَمْرًا} هي الملائكة تقسم أمر الملكوت من الأرزاق والآجال وغير ذلك، وأمرًا مفعول به، وقيل: إن الحاملات وقرا: السفن، وقيل: جميع الحيوان الحامل، وقيل: إن الجاريات يسرًا: السحاب، وقيل: الجواري من الكواكب والأول أشهر، وهو قول علي بن أبي طالب.
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} هذا جواب القسم ويحتمل: {تُوعَدُونَ} أن يكون من الوعد أو من الوعيد، والأظهر؛ أنه يراد به البعث في الآخرة وهو يشمل الوعد والوعيد {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} الدين هنا الجزاء، وقيل: الحساب {والسماء ذَاتِ الحبك} أي ذات الطرائق، مثل الطرائق التي تكون في الماء إذا هبت عليه الرياح، وكذلك حُبُك الزرع، وهي الطرائق التي فيه. وقيل: الحبك: النجوم. وقيل: زينة السماء وقيل: حسن خلقتها وواحد الحبك حباك أو حبيكة.
{إِنَّكُمْ لَفِي قول مُّخْتَلِفٍ} يحتمل أن يكون خطابًا لجميع الناس، لأنهم اختلفوا فمنهم مؤمن ومنهم كافر، ويحتمل أن يكون خطابًا للكفار خاصة، لأنهم اختلفوا فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: كاهن وقال بعضهم: شاعر.
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} معنى يؤفك: يصرف، والضمير في عنه يحتمل أربعة أوجه أحدها: أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أو للقرآن أو للإسلام والمعنى: يصرف عن الإيمان به من صرف، أي من سبق في علم الله أنه مصروف. والثاني: أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين، والمعنى بصرف عن الإيمان به من صرف. الثالث: أن يكون الضمير للقول المختلف، والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام من قضى الله بسعادته، وهذا القول حسن، إلا أن عرف الاستعمال في أفك ويؤفك إنما هو في العرف من خير إلى شر، وهذا من شر إلى خير. الرابع: أن يكون الضمير للقول المختلف، وتكون عن سببية والمعنى: يصرف بسبب ذلك القول من صرف عن الإيمان.
{قُتِلَ الخراصون} دعاء عليهم كقولهم: قاتلك الله، وقيل: قُتل بمعنى لعن، قال بان عطية: واللفظ لا يقتضي ذلك وقال الزمخشري: أصله الدعاء بالقتل، ثم جرى مجرى لعن وقبح، والخراصون الكذابون، وأصل الخرص: التخمين والقول بالظن والإشارة إلى الكفار، وقيل: إلى الكهان والأول أظهر {الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} الغمرة ما يغطى عقل الإنسان، وأصله من غمرة الماء، والمراد به هنا الجهالة والغفلة عن النظر {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين} أي يقولون: متى يوم الدين على وجه الاستبعاد والاستخفاف {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} هذا جواب عن سؤالهم، ومعنى يفتنون: يحرقون ويعذبون، ومنه قيل للحرّة: فتين لأن الشمس أحرقت حجارتها، ويحتمل أن يكون يومهم معربًا والعامل فيه مضمر تقديره: يقع ذلك يوم هم على النار يفتنون، وأن يكون مبنيًا لإضافته إلى مبني، وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا، أو في موضع رفع والتقدير هو: يوم هم على النار يفتنون {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} أي يقال لهم: ذوقوا حرقتكم.
{آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} يعني يأخذون في الجنة ما أعطاهم ربهم من الخيرات والنعيم، وقيل: المعنى آخذين في الدنيا ما آتاهم ربهم من شرعه، والأول أظهر وأرجح لدلالة الكلام عليه.
{كَانُواْ قَلِيلًا مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} الهجوع النوم. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: وهو الصحيح: أنهم كانوا ينامون قليلًا من الليل، ويقطعون أكثر الليل بالسهر في الصلاة والتضرع والدعاء، والآخر: أنهم كانوا لا ينامون بالليل قليلًا ولا كثيرًا ويختلف الإعراب باختلاف المعنيين؛ فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه: الأول أن يكون قليلًا خبر كانوا وما يهجعون فاعل بقليلًا، لأن قليلًا صفة مشبهة باسم الفاعل، وتكون ما مصدرية، والتقدير: كانوا قليلًا هجوعهم من الليل، والثاني: مثل هذا إلا أن ما موصولة والتقدير: كانوا قليلًا الذين يهجعون فيه من الليل، والثالث: أن تكون ما زائدة، وقليلًا ظرف، والعامل فيه يهجعون، والتقدير: كانوا يهجعون وقتًا قليلًا من الليل، والرابع: مثل هذا إلا أن قليلًا صفة لمصدر محذوف، والتقدير: كانوا يهجعون هجوعًا قليلًا، وأما على القول الثاني في الإعراب وجهان: أحدهما أن تكون ما نافية، وقليلًا ظرف، والعامل فيه يهجعون، والتقدير: كانوا ما يهجعون قليلًا من الليل، والآخر أن تكون ما نافية، وقليلًا خبر كان، والمعنى كانوا قليلًا في الناس، ثم ابتدأ بقوله: {مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} وكلا الوجهين باطل عند أهل العربية، لأن ما نافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فظهر ضعف هذا المعنى لبطلان إعرابه.
{وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي يطلبون من الله مغفرة ذنوبهم، والأسحار آخر الليل، وقد جاء في الحديث «أن الله تعالى يقول في الثلث الآخر من الليل، من يستغفرني فأغفر له»، وقيل: معنى يستغفرون: يصلون وهذا بعيد من اللفظ.
{وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} الحق هنا نوافل الصدقات، وقيل: المراد الزكاة وهذا بعيد؛ لأن الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، وقيل: إن الآية منسوخة بالزكاة، وهذا لا يحتاج إليه لأن النسخ إنما يكون مع التعارض، ولا تعارض بين الزكاة والنوافل. وتسمية النوافل بالحق كقوله: {حَقًّا عَلَى المحسنين} [البقرة: 236] وإن كان غير واجب، وقال بعض العلماء: حق سوى الزكاة. ورجحه ابن عطية. واختلف الناس في المحروم حتى قال الشعبي: أعياني أن أعلم ما المحروم، وقيل: المحروم الذي ليس له في بيت المال سهم، وقيل: الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: الذي ماتت ماشيته، والمعنى الجامع لها أن المحروم هو الفقير المستور الحال.
{وفي أَنفُسِكُمْ} إشارة إلى ما في خلقة الإنسان من الآيات والعبر، ولقد قال بعض العلماء فيه: أن فيه خمسة آلاف حكمة، وقال بعضهم: الإنسان نسخة مختصرة من العالم.
{وَفِي السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} معنى: {وَفِي السماء رِزْقُكُمْ}: المطر، وقيل: القضاء والقدر، ويحتمل أن يكون {وَمَا تُوعَدُونَ} من الوعد والوعيد والكل في السماء، ولذلك قيل: يعني الجنة والنار. وقيل: الخير والشر.
{إِنَّهُ لَحَقٌّ} هذا جواب القسم، والضمير لما تقدم من الآيات أو الرزق أو لما توعدون {مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أي حق مثل نطقكم لا يمكن الشك فيه، وما زائدة: وقرئ {مثل} بالنصب والرفع فالرفع صفة لحق، والنصب على الحال من حق أو من الضمير المستتر فيه، أو صفة لحق وبُني لإضافته إلى مبني، أو لتركيبه مع ما فيصير نحو إينما وكلما.