فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن قيل: ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أنّ من لا يريد من أحد رزقًا لا يريد أن يطعمه؟
أجيب: بأنّ السيد قد يطلب من العبد المكتسب له الرزق وقد يكون للسيد مال وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاء حوائجه وإحضار الطعام بين يديه فقال: لا أريد ذلك ولا هذا وقدم طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى.
فإن قيل: ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أنّ المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم؟
أجيب: بأنه لما عمم النفي في طلب الأوّل بقوله تعالى: {من رزق} وذلك إشارة إلى التعميم فذكر الإطعام ونفى الأدنى ليتبعه بنفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قال: ما أريد منهم من غنى ولا عمل.
فإن قيل: المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإنّ السيد قد يشتري العبد لا لطلب رزق منه ولا للتعظيم بل يشتريه للتجارة. أجيب: بأن العموم في قوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق} يتناول ذلك.
ثم بين تعالى أنه الرزاق لا غيره بقوله عز من قائل.
{إن الله} أي: المحيط بجميع صفات الكمال المنزه عن جميع صفات النقص {هو} أي: لا غيره {الرزاق} أي: على سبيل التكرار لكل حيّ وفي كل وقت {ذو القوّة} أي: التي لا تزول بوجه {المتين} أي: الشديد الدائم.
فإن قيل: لم لم يقل إني رزاق؟ بل قال على الحكاية عن الغائب إنّ الله هو الرزاق فما الحكمة أجيب: بأنّ المعنى قل يا محمد إنّ الله هو الرزاق، أو يكون من باب الالتفات من التكلم إلى الغيبة، أو يكون قل مضمرًا عند قوله تعالى: {ما أريد منهم من رزق} ولم يقل القوي بل قال ذو القوّة لأنّ المقصود تقرير ما تقدّم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير، وقيد بالمتين لأنّ ذو القوّة لا يدل إلا على أنّ له قوّة ما فزاد في الوصف المتانة وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، والمعنى في وصفه سبحانه بالقوة والمتانة أنه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء.
ولما أقسم سبحانه على الصدق في وعيدهم إلى أن ختم بقوته التي لا حدّ لها سبب عن ذلك إيقاعه بالمتوعدين فقال تعالى مؤكدًا لأجل إنكارهم:
{فإن للذين ظلموا} أي: أوقعوا الأشياء في غير مواقعها {ذنوبًا} أي: نصيبًا من العذاب طويل الشرّ كأنه من طوله صاحب ذنب {مثل ذنوب أصحابهم} أي: الذين تقدّم ظلمهم بتكذيب الرسل من قوم نوح وعاد وثمود، والذنوب في الأصل الدلو العظيمة المملوءة ماء وفي الحديث «فأتى بذنوب من ماء» فإن لم تكن ملأى فهي دلو ثم عبر به عن النصيب قال عمرو بن شاس:
وفي كل حيّ قد خطبت بنعمة ** فحق لشاس من نداك ذنوب

قال الملك: نعم وأذنبه، قال الزمخشري: وهذا تمثيل أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا آخر. قال الشاعر:
لكم ذنوب ولنا ذنوب ** فإن أبيتم فلنا القليب

وقال الراغب الذنوب الدلو لذي له ذنب انتهى. فراعى الاشتقاق والذنوب أيضًا: الفرس الطويل الذنب، وهو صفة على فعول والذنوب لحم أسفل المتن ويقال: يوم ذنوب أي طويل الشرّ استعارة من ذلك ويجمع في القلة على أذنبة وفي الكثرة على ذنائب {فلا تستعجلون} أي تطلبوا أن آتيكم به قبل أوانه حق به، فإنّ ذلك لا يفعله إلا ناقص وأنا متعال عن ذلك لا أخاف الفوت ولا يلحقني عجز ولا أوصف به، ولا بدّ أن أوقعه بهم في الوقت الذي قضيت به في الأزل فإنه أحق الأوقات بعقابهم لتكامل ذنوبهم.
{فويل} أي شدّة عذاب {للذين كفروا} أي ستروا ما ظهر من هذه الأدلة التي لا يسع عاقلًا إنكارها {من يومهم الذي يوعدون} أضافه إليهم لأنه خاص بهم دون المؤمنين، وهو يوم القيامة وقيل يوم بدر وحذف العائد لاستكمال شروطه أي يوعدونه، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بضم الهاء والميم، وأبو عمرو بكسر الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف عليها فالجميع بكسر الهاء وما رواه البيضاوي تبعًا للزمخشري من أنه صلى الله عليه وسلم قال من «قرأ سورة الذاريات أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا» حديث موضوع والله أعلم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)}.
قوله: {وَفِى موسى} معطوف على قوله: {فيها} بإعادة الخافض، والتقدير: وتركنا في قصة موسى آية، أو معطوف على {وَفِى الأرض} والتقدير: وفي الأرض، وفي موسى آيات، قاله الفراء، وابن عطية، والزمخشري.
قال أبو حيان: وهو بعيد جدًا ينزّه القرآن عن مثله، ويجوز أن يكون متعلقًا بجعلنا مقدّرًا لدلالة وتركنا عليه قيل: ويجوز أن يعطف على {وَتَرَكْنَا} على طريقة قول القائل:
علفتها تبنًا وماء باردًا

والتقدير: وتركنا فيها آية، وجعلنا في موسى آية.
قال أبو حيان: ولا حاجة إلى إضمار، وجعلنا لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور وتركنا.
والوجه الأوّل هو الأولى، وما عداه متكلف متعسف لم تلجىء إليه حاجة، ولا دعت إليه ضرورة {إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ} الظرف متعلق بمحذوف هو نعت لآية، أي: كائنة وقت أرسلناه، أو بآية نفسها، والأوّل أولى.
والسلطان المبين: الحجة الظاهرة الواضحة، وهي العصا، وما معها من الآيات {فتولى بِرُكْنِهِ} التولي: الإعراض، والركن: الجانب، قاله الأخفش.
والمعنى: أعرض بجانبه، كما في قوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء: 83] قال الجوهري: ركن الشيء: جانبه الأقوى، وهو يأوي إلى ركن شديد، أي: عزّ ومنعة.
وقال ابن زيد، ومجاهد، وغيرهما: الركن: جمعه وجنوده الذين كان يتقوّى بهم، ومنه قوله تعالى: {أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أي: عشيرة ومنعة، وقيل: الركن: نفس القوّة، وبه قال قتادة وغيره، ومنه قول عنترة:
فما أوهى مراس الحرب ركني ** ولكن ما تقادم من زماني

{وَقال ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} أي: قال فرعون في حقّ موسى: هو ساحر، أو مجنون، فردّد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحرًا، أو مجنونًا، وهذا من اللعين مغالطة وإيهام لقومه، فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر، ولا يفعله من به جنون.
وقيل: إن (أو) بمعنى الواو؛ لأنه قد قال ذلك جميعًا ولم يتردّد، قاله المؤرج، والفرّاء، كقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24].
{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم في اليم} أي: طرحناهم في البحر، وجملة: {وَهُوَ مُلِيمٌ} في محل نصب على الحال، أي: آت بما يلام عليه حين ادّعى الربوبية، وكفر بالله وطغى في عصيانه {وَفِى عَادٍ} أي: وتركنا في قصة عاد آية {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} وهي التي لا خير فيها ولا بركة، لا تلقح شجرًا ولا تحمل مطرًا، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب.
ثم وصف سبحانه هذه الريح فقال: {مَا تَذَرُ مِن شيء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} أي: ما تذر من شيء مرّت عليه من أنفسهم، وأنعامهم، وأموالهم إلاّ جعلته كالشيء الهالك البالي.
قال الشاعر:
تركتني حين كفّ الدهر من بصري ** وإذ بقيت كعظم الرّمة البالي

وقال قتادة: إنه الذي ديس من يابس النبات، وقال السديّ، وأبو العالية: إنه التراب المدقوق، وقال قطرب: إنه الرماد، وأصل الكلمة من رمّ العظم: إذا بلي فهو رميم، والرّمة: العظام البالية.
{وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} أي: وتركنا في قصة ثمود آية وقت قلنا لهم: عيشوا متمتعين بالدنيا إلى حين وقت الهلاك، وهو ثلاثة أيام، كما في قوله: {تَمَتَّعُواْ في دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ} [هود: 65].
{فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} أي: تكبروا عن امتثال أمر الله {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} وهي كل عذاب مهلك.
قرأ الجمهور {الصاعقة} وقرأ عمر بن الخطاب، وحميد، وابن محيصن، ومجاهد، والكسائي (الصعقة)، وقد مرّ الكلام على الصاعقة في البقرة، وفي مواضع {وَهُمْ يَنظُرُونَ} أي: يرونها عيانًا، والجملة في محل نصب على الحال، وقيل: إن المعنى: ينتظرون ما وعدوه من العذاب، والأوّل أولى {فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} أي: لم يقدروا على القيام.
قال قتادة: من نهوض، يعني: لم ينهضوا من تلك الصرعة، والمعنى: أنهم عجزوا عن القيام فضلًا عن الهرب.
ومثله قوله: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين} [الأعراف: 78] {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} أي: ممتنعين من عذاب الله بغيرهم {وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ} أي: من قبل هؤلاء المهلكين، فإن زمانهم متقدّم على زمن فرعون، وعاد وثمود {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فاسقين} أي: خارجين عن طاعة الله.
قرأ حمزة، والكسائي، وأبو عمرو بخفض (قوم) أي: وفي قوم نوح آية.
وقرأ الباقون بالنصب.
أي: وأهلكنا قوم نوح، أو هو معطوف على مفعول أخذتهم الصاعقة، أو على مفعول نبذناهم أي: نبذناهم، ونبذنا قوم نوح، أو يكون العامل فيه اذكر.
{والسماء بنيناها بِأَيْدٍ} أي: بقوّة وقدرة، قرأ الجمهور بنصب {السماء} على الاشتغال، والتقدير: وبنينا السماء بنيناها.
وقرأ أبو السماك، وابن مقسم برفعها على الابتداء {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} الموسع ذو الوسع: والسعة، والمعنى: إنا لذو سعة بخلقها، وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك، وقيل: لقادرون، من الوسع بمعنى: الطاقة والقدرة، وقيل: إنا لموسعون الرزق بالمطر.
قال الجوهري: وأوسع الرجل: صار ذا سعة وغنى {والأرض فرشناها} قرأ الجمهور بنصب {الأرض} على الاشتغال.
وقرأ أبو السماك، وابن مقسم برفعها، كما تقدّم في قوله: {والسماء بنيناها} ومعنى {فرشناها}: بسطناها كالفراش {فَنِعْمَ الماهدون} أي: نحن، يقال مهدت الفراش: بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها {وَمِن كُلّ شيء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} أي: صنفين، ونوعين من ذكر وأنثى، وبرّ وبحر، وشمس وقمر، وحلو ومرّ، وسماء وأرض، وليل ونهار، ونور وظلمة، وجنّ وإنس، وخير وشرّ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: خلقنا ذلك هكذا لتتذكروا، فتعرفوا أنه خالق كل شيء، وتستدلوا بذلك على توحيده، وصدق وعده ووعيده.
{فَفِرُّواْ إِلَى الله إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: قل لهم يا محمد: ففرّوا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي، وجملة: {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تعليل للأمر بالفرار، وقيل: معنى {فَفِرُّواْ إِلَى الله} اخرجوا من مكة.
وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شيء غير الله، فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه.
وقيل: فرّوا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، وقيل: فرّوا من الجهل إلى العلم، ومعنى: {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ} أي: من جهته منذر بين الإنذار {وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} نهاهم عن الشرك بالله بعد أمرهم بالفرار إلى الله، وجملة {إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}: تعليل للنهي.
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قالواْ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة وأن ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله، ووصفه بالسحر، والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم، و{كذلك} في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك.
ثم فسر ما أجمله بقوله: {مَا أَتَى} إلخ، أو في محل نصب نعتًا لمصدر محذوف، أي: أنذركم إنذارًا كإنذار من تقدّمني من الرسل الذين أنذروا قومهم، والأوّل أولى {أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} الاستفهام للتقريع والتوبيخ، والتعجيب من حالهم، أي: هل أوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب، وتواطئوا عليه؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون} إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان أي: لم يتواصوا بذلك، بل جمعهم الطغيان، وهو مجاوزة الحدّ في الكفر.
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، فقال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي: أعرض عنهم، وكفّ عن جدالهم، ودعائهم إلى الحق، فقد فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} عند الله بعد هذا؛ لأنك قد أدّيت ما عليك، وهذا منسوخ بآية السيف.
ثم لما أمره بالإعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير، والموعظة بالتي هي أحسن فقال: {وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} قال الكلبي: المعنى: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم.
وقال مقاتل: عظ كفار مكة فإن الذكرى تنفع من كان في علم الله أنه يؤمن.
وقيل: ذكرهم بالعقوبة وأيام الله، وخصّ المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون به.
وجملة {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}: مستأنفة مقرّرة لما قبلها.
أن كون خلقهم؛ لمجرّد العبادة مما ينشط رسول الله للتذكير، وينشطهم للإجابة.
قيل: هذا خاصّ في من سبق في علم الله سبحانه أنه يعبده، فهو عموم مراد به الخصوص.
قال الواحدي: قال المفسرون: هذا خاصّ لأهل طاعته، يعني: من أُهِّل من الفريقين.
قال: وهذا قول الكلبي، والضحاك، واختيار الفراء، وابن قتيبة.
قال القشيري: والآية دخلها التخصيص بالقطع؛ لأن المجانين لم يؤمروا بالعبادة، ولا أرادها منهم، وقد قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} [الأعراف: 179] ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة.
فالآية محمولة على المؤمنين منهم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود، وأبيّ بن كعب: (وما خلقت الجنّ والإنس من المؤمنين إلاّ ليعبدون).
وقال مجاهد: إن المعنى: إلاّ ليعرفوني.
قال الثعلبي: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده.
وروي عن مجاهد أنه قال: المعنى: إلاّ لآمرهم وأنهاهم، ويدل عليه قوله: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] واختار هذا الزجاج.
وقال زيد بن أسلم: هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة، فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة، وخلق الأشقياء للمعصية.
وقال الكلبي: المعنى: إلاّ ليوحدون، فأما المؤمن، فيوحده في الشدّة والرخاء، وأما الكافر، فيوحده في الشدّة دون النعمة، كما في قوله: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [لقمان: 32] وقال جماعة: إلاّ ليخضعوا لي ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة: الذل والخضوع والانقياد، وكل مخلوق من الإنس والجنّ خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته منقاد لما قدّره عليه.
خلقهم على ما أراد، ورزقهم كما قضى، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعًا، ولا ضرًّا.
ووجه تقديم الجن على الإنس ها هنا تقدم وجودهم.
{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} هذه الجملة فيها بيان استغنائه سبحانه عن عباده، وأنه لا يريد منهم منفعة، كما تريده السادة من عبيدهم، بل هو الغنيّ المطلق الرازق المعطي.