فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقال مُجَاهِدٌ: كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إلَّا أَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا.
قال الْقَاضِي: وَخَصَّ السَّحَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قال: «جَوْفُ اللَّيْلِ أَسْمَعُ».
وَرُوِيَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قال: «إذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، وَأَصَحُّهُ إذَا بَقِيَ ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقول: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ».
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ}، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ أَمْ لَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَالْأَقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ الزَّكَاةُ؛ لِقولهِ تعالى فِي سُورَةِ: سَأَلَ سَائِلٌ: {وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَالْحَقُّ الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ الَّتِي بَيَّنَ الشَّرْعُ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا وَوَقْتَهَا، فَأَمَّا غَيْرُهَا لِمَنْ يَقول بِهِ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَا مُجَنَّسٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ قولهُ: {لِلسَّائِلِ}، وَهُوَ الْمُتَكَفِّفُ.
المسألة الثَّالِثَةُ قولهُ: {وَالْمَحْرُومِ}، وَهُوَ الْمُتَعَفِّفُ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ لِلسَّائِلِ حَقَّ الْمَسْأَلَةِ وَلِلْمَحْرُومِ حَقَّ الْحَاجَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قال الَّذِي يُحَرَّمُ الرِّزْقُ.
وَقِيلَ: الَّذِي أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ قال تعالى مُخْبِرًا عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمُحْتَرِقَةِ: {قالوا إنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} وَفِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ لَمْ نُطَوِّلْ بِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا أَصَحُّهَا؛ إذْ يَقْتَضِي هَذَا التَّقْسِيمُ أَنَّ الْمُحْتَاجَ إذَا كَانَ مِنْهُ مَنْ يَسْأَلُ فَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَيَتَنَوَّعُ أَحْوَالُ الْمُتَعَفِّفِ، وَالِاسْمُ يَعُمُّهُ كُلَّهُ، فَإِذَا رَأَيْته فَسَمِّهِ بِهِ، وَاحْكُمْ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
سورة الذاريات:
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)}.
قوله: {ذَرْوًا}: منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد، العاملُ فيه فَرْعُه وهو اسمُ الفاعلِ. والمفعولُ محذوفٌ اقتصارًا؛ إذ لا نظيرَ لما يَذْرُوه هنا. وأدغم أبو عمروٍ وحمزةُ تاءَ {الذاريات} في ذال {ذَرْوًا}.
{فَالْحَامِلَاتِ وِقرًا (2)}.
قوله: {وَقرا}: مفعولٌ به بالحاملات. والوِقْر بالكسر: اسمُ ما يُوْقَر أي: يُحْمَلُ. وقُرِىء {وَقرا} بالفتح، وذلك على تسمية المفعول بالمصدر. ويجوز أن يكونَ مصدرًا على حالِه، والعاملُ فيه معنى الفعلِ قبله؛ لأنَّ الحَمْلَ والوَقْرَ بمعنىً واحد، وإن كان بينهما عمومٌ وخصوصٌ.
{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)}.
قوله: {يُسْرًا}: يجوزُ أن يكونَ مصدرًا مِنْ معنى ما قبلَه أي: جَرْيًا يُسْرًا، وأَنْ تكونَ حالًا أي: ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جُعِلَتْ نفسَ اليُسْرِ مبالغةً.
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)}.
قوله: {أَمْرًا}: يجوزُ أن يكونَ مفعولًا به، وهو الظاهر، وأَنْ يكون حالًا أي: مأمورَه، وعلى هذا فيحتاج إلى حَذْف مفعولِ {المُقَسِّمات}. وقد يقال: لا غرضَ لتقديرِه كما في {الذَّارِيات}. وهل هذه أشياءُ متختلفةٌ فتكونُ الواوُ على بابِها من عطفِ المتغايراتِ، فإنَّ الذارياتِ هي الرياحُ، والحاملاتِ الفلكُ، والجارياتِ الكواكبُ، والمُقَسِّماتِ الملائكةُ. وقال الزمخشري: ويجوزُ أَنْ يُراد الريحُ وحدَها لأنها تُنْشِىءُ السحابَ وتُقِلُّه وتُصَرِّفُه، وتجري في الجوِّ جَرْيًا سهلًا. قلت: فعلى هذا يكونُ مِنْ عطفِ الصفاتِ، والمرادُ واحدٌ كقوله:
يا لَهْفَ زَيَّابَةَ للحارثِ الصَّا ** بِحِ فالغانِمِ فالآيِبِ

وقول الآخر:
إلى المَلِك القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ** ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ

وهذا قَسَمٌ جوابُه قوله: {إنما تُوْعدون}.
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)}.
و(ما) يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً، وعائدُها محذوفٌ أي: تُوْعَدونه، ومصدريةً فلا عائدَ على المشهور، وحينئذٍ يُحتمل أَنْ يكونَ {تُوْعدون} مبنيًا من الوَعْدِ، وأَنْ يكونَ مبنيًَّا من الوعيد لأنه صالحٌ أَنْ يُقال: أَوْعَدْتُه فهو يُوْعَد، ووَعَدْتُه فهو يُوعَد لا يختلفُ، فالتقدير: إنَّ وَعْدَكم، أو إنَّ وَعيدكم. ولا حاجةَ إلى قول مَنْ قال: إن قوله: {لَصادِقٌ} وقع فيه اسمُ الفاعلِ موقع المصدرِ أي: لصِدْقٌ؛ لأنَّ لفظَ اسمِ الفاعل أَبْلَغُ إذ جُعِل الوعدُ أو الوعيدُ صادقًا مبالغةً، وإن كان الوصفُ إنما يقوم بمَنْ يَعِدُ أو يُوْعِدُ.
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)}.
قوله: {ذَاتِ الحبك}: العامَّةُ على {الحُبُك} بضمتين وهي الطرائقُ نحو: طرائق الرَّمْل والماءِ إذا صَفَقَتْه الريحُ، وحُبُك الشَّعْر: آثارُ تَثَنِّيه وتَكَسُّرِه. قال زهير:
مُكَلَِلٌ بأصولِ النجم تَنْسُجُه ** ريحُ حَريقٍ لضاحي مائِه حُبُكُ

والحُبُكُ: جمعٌ يُحتمل أَنْ يكونَ مفردُه (حَبيكة) كطريقةٍ وطُرُق أو حباكِ نحو: حِمار وحُمُر. قال الراجز:
كأنَّما جَلَّلها الحُوَّاكُ ** طِنْفِسَةٌ في وَشْيِها حِباكُ

وأصلُ الحَبْكِ: إحكامُ الشيءِ وإتقانُه، ومنه يقال للدِّرع: مَحْبوكة. وقيل: الحَبْكُ الشَّدُّ والتوثُّقُ. قال امرؤ القيس:
قد غدا يَحْمِلُنِي في أَنْفِه ** لاحِقُ الإِطْلَيْنِ مَحْبوكٌ مُمَرّْ

وفي هذه اللفطةِ قراءات كثيرةٌ: فعن الحسن ستٌ: الحُبُك بالضم كالعامَّةِ، الحُبْك بالضمِّ والسكون، وتُروى عن ابن عباس وأبي عمروٍ، الحِبِك بكسرهما، الحِبْك بالكسر والسكون، وهو تخفيف المكسور، الحِبَك بالكسر والفتح، الحِبُك بالكسر والضم. فهذه سِتٌّ أقلقُها الأخيرةُ؛ لأنَّ هذه الزِّنةَ مهملةٌ في أبنية العربِ، قال ابنُ عطية وغيرُه: هو من التداخُلِ يعني: أن فيها لغتين: الكسرَ في الحاء والباء والضمَّ فيهما، فأخذ هذا القارئ الكسرَ من لغةٍ والضمَّ مِنْ أخرى. واستبعدها الناسُ؛ لأن التداخُلَ إنما يكون في كلمتين. وخَرَّجها الشيخ على أن الحاءَ أُتْبِعَتْ لحركة التاءِ في {ذات} قال: ولم يَعْتَدَّ باللام فاصلةً لأنها ساكنةٌ فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ.
وقد وافق الحسنَ على هذه القراءة أو مالك الغفاريُّ. وقرأ عكرمةُ بالضمِّ والفتح جمعَ حُبْكَة نحو: غُرْفة وغُرَف. وابن عباس وأبو مالك {الحَبَك} بفتحتين جمعُ حَبَ‍كة كعَقَبة وعَقَب، فهذه ثمانِ قراءات.
{إِنَّكُمْ لَفِي قول مُخْتَلِفٍ (8)}.
قوله: {إِنَّكُمْ}: هذا جوابُ القسم.
{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)}.
قوله: {يُؤْفَكُ عَنْهُ}: صفةٌ لقول. والضميرُ في {عنه} للقرآن، أو للرسول، أو للدِّين أو لِما تُوْعَدون أي: يُصْرَفُ عنه. وقيل: عن للسبب. والمأفوكُ عنه محذوفٌ، والضميرُ في {عنه} على هذا ل {قول مختلفٍ} أي: يُؤْفَكُ بسبب القول مَنْ أراد الإِسلام بأَنْ يقول: هو سحرٌ، هو كِهانَةٌ. والعامَّةُ على بناء الفعلَيْن للمفعول. وقتادة وابن جبير {يُؤْفَكُ عنه مَنْ أَفَك} الأول للمفعول، والثاني للفاعل أي: يُصْرَفُ عنه مَنْ صَرَف الناسَ عنه. وزيد بن علي يَأْفَكُ مبنيًا للفاعل مِنْ أفك الشيء أي: يَصْرِف الناسَ عنه مَنْ هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضًا: {يَأْفِكُ عنه مَنْ أَفَّك} بالتشديد أي: مَنْ هو أفَّاك في نفسِه. وقُرِىء {يُؤْفَنُ عنه مَنْ أُفِنَ} بالنون فيهما أي: يَحْرِمُه مَنْ حَرَمه، مِنْ أَفِنَ الضَّرْعَ إذا نهكَه حَلْبًا.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)}.
وقُرِىءَ {قَتَل} مبنيًا للفاعل هو اللَّهُ تعالى: {الخَرَّاصين} مفعولُه.
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)}.
قوله: {أَيَّانَ يَوْمُ الدين}: مبتدأٌ وخبرٌ. قيل: وهما ظرفان فكيف يقع أحدُ الظرفين في الآخر؟ وأُجيب: بأنه على حَذْفِ حَدَثٍ، أي: أيَّان وقوعُ يومِ، فأيَّان ظرفٌ للوقوع. وتقدَّم قراءة {إيَّان} بالكسر في الأعراف.
{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)}.
قوله: {يَوْمَ هُمْ}: يجوز أَنْ يكونَ منصوبًا بمضمرٍ أي: الجزاءُ كائنٌ يومَ هم. ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلًا مِنْ {يومُ الدين}، والفتحةُ للبناء على رأي مَنْ يُجيز بناءَ الظرفِ وإنْ أُضيفَ إلى جملةٍ اسميةٍ، وعلى هذا فيكون حكايةً لمعنى كلامِهم قالوه على الاستهزاء، ولو جاء على حكايةِ لفظِهم المتقدِّمِ لقيل: يومَ نحن على النار نُفْتَنُ. ويومَ منصوبٌ بالدين. وقيل: بمضمرٍ أي: يَحارون. وقيل: هو مفعولٌ ب أعني مقدرًا. وعَدَّى {يُفْتَنون} ب على لأنه بمعنى يُخْتبرون. وقيل: على بمعنى في. وقيل {يومَ هم} خبرُ مبتدأ مضمر أي: هو يومَ هم. والفتحُ لِما تقدم، ويؤيِّد ذلك قراءة ابن أبي عبلة والزعفراني {يومُ هم} بالرفع، وكذلك يؤيِّد القول بالبدلِ. وتقدَّم الكلامُ في مثلِ هذا في غافر.
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}.
قوله: {ذُوقُواْ}: أي: يُقال لهم: ذُوقوا. و{هذا الذي كنتم} مبتدأٌ وخبر، هذا هو الظاهرُ. وجَوَّز الزمخشريُّ أن يكونَ {هذا} بدلًا مِنْ {فِتْنتكم} لأنها بمعنى العذاب.
{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}.
قوله: {آخِذِينَ}: حالٌ من الضمير في قوله: {جناتٍ}.
و {ما آتاهم} يعني من ما في الجنة فتكونُ حالًا حقيقية. وقيل: ما آتاهم مِنْ أوامِره ونواهيه في الدنيا، فتكون حالًا محكيَّةً لاختلافِ الزمانين. وجعل الجارَّ هنا خبرًا، والصفةَ فضلةً، وعَكَسَ هذا في قوله: {إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف: 74]. وقيل: لأن الخبرَ مقصودُ الجملة. والغرضُ هناك الإِخبارُ عن تخليدِهم؛ لأنَّ المؤمِنَ قد يَدْخُلُ النارَ، ولكن لابد مِنْ خروجِه. وأمَّا آيةُ المتقين فجعل الظرفَ فيها خبرًا لأَمْنِهم الخروجَ منها، فجعل لذلك مَحَطَّ الفائدةِ لتحصُل لهم الطمأنينةُ فانتصبَتْ الصفةُ حالًا.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}.
قوله: {كَانُواْ قَلِيلًا}: فيه أوجهٌ؛ أحدها: أنَّ الكلامَ تَمَّ على {قليلًا}، ولهذا وَقَفَ بعضُهم على {قليلًا} ليُؤاخيَ بها قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24] {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] ويَبْتدىء {مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ}. أي: ما يَهْجَعون من الليل، وهذا لا يَظْهر من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة: أمَّا الأول فلابد أن يَهْجَعوا ولا يُتَصَوَّرُ نَفْيُ هجوعِهم. وأمَّا الصناعةُ فلأنَّ ما في حيِّز النفي لا يتقدَّم عليه عند البصريين، هذا إنْ جَعَلْتَها نافيةً، وإنْ جَعَلْتَها مصدريةً صار التقديرُ: من الليل هجوعُهم. ولا فائدةَ فيه لأنَّ غيرَهم من سائر الناس بهذه المَثابة.
الثاني: أَنْ تجعلَ {ما} مصدريةً في محلِّ رفع ب {قليلًا}. والتقدير: كانوا قليلًا هجوعُهم.
الثالث: أَنْ تجعلَ {ما} المصدريةَ بدلًا من اسمِ كان بدلَ اشتمال، أي: كان هجوعُهم قليلًا، و{من الليل} على هذين لا يتعلَّق ب {يَهْجَعون}؛ لأنَّ ما في حَيِّز المصدر لا يتقدَّم عليه على المشهورِ؛ وبعَضُ المانعين اغتفره في الظرفِ، فيجوزُ هذا عنده، والمانع يُقَدِّر فعلًا يدلُّ عليه {يَهْجَعون} أي: يهجعون من الليل.
الرابع: أن {ما} مزيدةٌ و{يَهْجَعون} خبرُ كان. والتقدير: كانوا يَهْجَعون من الليلِ هُجوعًا أو زمنًا قليلًا؛ ف {قليلًا} نعتٌ لمصدرٍ أو ظرف. الخامس: أنها بمعنى الذي، وعائدُها محذوفٌ تقديره: كانوا قليلًا من الليل الوقتَ الذي يَهْجَعونه، وهذا فيه تكلُّفٌ.
{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)}.
قوله: {وبالأسحار}: متعلقٌ ب {يَسْتَغْفرون}. والباءُ بمعنى {في}، قُدِّمَ متعلَّقُ الخبرِ على المبتدأ لجواز تقديمِ العامل.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)}.
قوله: {وفي أَنفُسِكُمْ}: نَسقٌ على {في الأرض} فهو خبر عن {آياتٌ} أيضًا. والتقدير: وفي الأرض وفي أنفسكم آياتٌ. وقال أبو البقاء: ومَنْ رفع بالظرفِ جَعَل ضميرَ الآيات في الظرف يعني مَنْ يرفعُ الفاعلَ بالظرفِ مطلقًا أي: وإنْ لم يَعْتَمِدْ يَرْفَعُ بهذا الجارِّ فاعلًا هو ضمير {آياتٌ}. وجَوَّز بعضُهم أَنْ يتعلَّقَ ب {تُبْصِرُون} وهو فاسدٌ؛ لأنَّ الاستفهامَ والفاء يمنعان جوازَه. وقرأ قتادة {آيَةٌ} [الذاريات: 20] بالإِفراد.
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)}.
قوله: {رِزْقُكُمْ}: أي: سببُ رزقِكم. وقرأ حميد وابن محيصن {رازِقُكم} اسمَ فاعل، واللَّهُ تعالى مُتَعالٍ عن الجهة.
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}.
والضميرُ في {إنَّه لحقٌّ}: إمَّا للقرآن، وإمَّا للدينِ، وإمَّا لليوم في قوله: {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6] {يَوْمَ هُم} [الذاريات: 13] {يَوْمُ الدين} [الذاريات: 12] وإمَّا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلم.
قوله: {مِثْلَ مَا} الأخَوان وأبو بكر {مثلُ} بالرفع، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه خبرٌ ثانٍ مستقلٌّ كالأولِ. والثاني: أنه مع ما قبله خبرٌ واحدٌ نحو: هذا حُلْوٌ حامِضٌ، نقلهما أبو البقاء. والثالث: أنَّه نعتٌ ل {حق} و{ما} مزيدةٌ على ثلاثةِ الأوجهِ. و{أنَّكم} مضافٌ إليه أي: لَحَقٌّ مثلُ نُطْقِكم. ولا يَضُرُّ تقديرُ إضافتِها لمعرفةٍ لأنها لا تتعر‍َّفُ بذلك لإِبهامِها.
والباقون بالنصبِ وفيه أوجهٌ، أشهرُها: أنه نعتٌ ل {حَقٌّ} كما في القراءة الأولى، وإنما بُنِي الاسم لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ، كما بناه الآخرُ في قوله:
فتَداعَى مَنْخِراه بدَمٍ ** مثلَ ما أثمرَ حَمَّاضُ الجَبَلْ

بفتح {مثلَ} مع أنها نعتٌ ل دم وكما بُنِيَتْ غيرَ في قوله:
لم يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَن نَطَقَتْ ** حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أَوْقال

غيرَ فاعلُ يَمْنع فبناها على الفتح لإِضافتِها إلى أنْ نَطَقَتْ وقد تقدَّم في قراءة {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بالفتحِ ما يُغْني عن تقريرِ مثل هذا.
الثاني: أنَّ مثلَ رُكِّب مع ما حتى صارا شيئًا واحدًا. قال المازني: ومثلُه: وَيْحَما وهَيَّما وأَيْنَما وأنشد لحميد بن ثور:
ألا هَيَّما مِمَّا لَقِيْتُ وهَيَّما ** ووَيْحًا لِمَنْ لم يَدْرِ ما هُنَّ وَيْحَما

قال: فلولا البناءُ لكان منوَّنًا. وأنشد أيضًا:
............. ** فأكْرِمْ بنا أُمًَّا وأكْرِمْ بنا ابْنَما

وهذا الذي ذكرَه ذهب إليه بعضُ النَّحْويين، وأَنْشد:
أثورَ ما أَصِيْدُكم أم ثورَيْنْ ** أم هذه الجَمَّاءَ ذاتَ القرنَيْنْ

وأمَّا ما أنشدَه مِنْ قوله: وأكرِمْ بنا ابنَما فليس هذا من الباب لأنَّ هذا ابن زِيْدَتْ عليه الميم. وإذا زِيْدَتْ عليه الميمُ جُعِلَتِ النونُ تابعةً للميم في الحركاتِ على الفصيح، فتقول: هذا ابنمٌ، ورأيت ابنَمًا، ومررت بابنِم، فتُجْري حركاتِ الإِعراب على الميم وتَتْبَعُها النونُ. وابنما في البيت منصوبٌ على التمييز، فالفتحُ لأجلِ النصبِ لا للبناءِ، وليس هذه ما الزائدةَ، بل الميمُ وحدَها زائدةٌ، والألفُ بدلٌ من التنوين.
الثالث: أنَّه منصوبٌ على الظرفِ، وهو قول الكوفيين، ويجيزون زيدٌ مثلَك بالفتح. ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن، ولكن بعبارةٍ مُشْكِلةٍ فقال: ويُقرأ بالفتح، وفيه وجهان، أحدُهما: هو مُعْرَبٌ. ثم في نصبِه أوجهٌ ثم قال: أو على أنه مرفوعُ الموضعِ، ولكنَّه فُتحَ كما فُتح الظرفُ في قوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] على قول الأخفَشِ.
ثم قال:
والوجه الثاني هو مبنيٌّ. وقال أبو عبيد: بعضُ العربِ يَجْعَلُ {مثلَ} نصبًا أبدًا فيقولون: هذا رجلٌ مثلَك.
الرابع: أنه منصوب على إسقاطِ الجارِّ، وهو كافُ التشبيهِ. وقال الفراء: العربُ تَنْصِبُها إذا رُفِعَ بها الاسمُ، يعني المبتدأ، فيقولون: مثلَ مَنْ عبدُ الله؟ وعبدُ الله مثلَك، وأنت مثلَه؛ لأنَّ الكافَ قد تكونُ داخلةً عليها فتُنْصَبُ إذا أَلْقَيْتَ الكافَ. قلت: وفي هذا نظرٌ، أيُّ حاجةٍ إلى تقدير دخولِ الكافِ و{مثْل} تفيدُ فائدتَها؟ وكأنه لمَّا رأى الكافَ قد دخلَتْ عليها في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] قال ذلك.
الخامس: أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: لحَقٌّ حقًا مثلَ نُطْقِكم.
السادس: أنه حالٌ من الضميرِ في {لَحَقٌّ} لأنه قد كَثُرَ الوصفُ بهذا المصدرِ، حتى جَرَى مَجْرى الأوصافِ المشتقةِ، والعاملُ فيها (حَقٌّ).
السابع: أنه حالٌ من نفس (حقٌّ) وإن كان نكرةً. وقد نَصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازِه، وتابعه أبو عمرَ على ذلك.
و(ما) هذه في مثلِ هذا التركيبِ نحو قولهم: هذا حَقٌّ كما أنَّك هاهنا لا يجوز حَذْفُها فلا يُقال: هذا حَقٌّ كأنَّك هنا.
نَصَّ على ذلك الخليل رحمه الله تعالى فإذا جعلْتَ مثلَ معربةً كانت ما مزيدةً و{أنكم} في محلِّ خفضٍ بالإِضافةِ كما تقدَّم، وإذا جَعَلْتَها مبنيَّة: إمَّا للتركيب، وإمَّا لإِضافتِها إلى غيرِ متمكِّنٍ جاز في ما هذه وجهان الزيادةُ وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً كذا قال أبو البقاء. وفيه نظرٌ لعدم الوصفِ هنا. فإنْ قال: هو محذوفٌ فالأصلُ عَدَمُه. وأيضًا فنصُّوا على أن هذه الصفةَ لا تُحْذَفُ لإِبهامِ موصوفِها، وأمَّا {أنَّكم تَنْطِقون} فيجوز أَنْ يكونَ مجرورًا بالإِضافةِ إنْ كانَتْ ما مزيدةً، وإنْ كانت نكرةً كان في موضعِ نصبٍ بإِضمارِ أعني أو رفعٍ بإضمار مبتدأ.