فصل: تفسير الآيات (9- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويصاحب كل من عمليتي توسع قاع المحيط في محوره الوسطي، واصطدامه عند أطرافه بعدد من الهزات الأرضية، والثورات والطفوح البركانية.
ويبلغ طول جبال أواسط المحيطات أكثر من أربعة وستين ألفا من الكيلو مترات في الطول، بينما يبلغ طول الصدوع العميقة التي اندفعت منها الطفوح البركانية لتكون تلك السلاسل الجبلية في أواسط المحيطات أضعاف هذا الرقم. وتتكون هذه السلاسل أساسا من الصخور البركانية المختلطة بالقليل من الرسوبيات البحرية، وتحيط كل سلسلة من هذه السلاسل المندفعة من قاع المحيط بواد خسيف (غور) مكون بفعل الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بعمق يتراوح بين خمسة وستين كيلو مترا وسبعين كيلو مترا ليخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل ويصل إلي نطاق الضعف الأرضي الذي تندفع منه الصهارة الصخرية بملايين الأطنان في درجة حرارة تزيد عن الألف درجة مئوية لتسجر قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها النشطة باستمرار، ومع تجدد اندفاع الصهارة الصخرية عبر مستويات هذه الصدوع العملاقة يتسع قاع المحيط باستمرار، وتتجدد مادته بدفع الصخور القديمة في اتجاه شاطيء المحيط يمنة ويسرة، ليحل محلها أحزمة أحدث عمرا تتكون من تجمد تلك الصهارة الجديدة، وتترتب بصورة متوازية علي جانبي أغوار المحيطات والبحار، ويهبط كل جانب من جانبي قاع المحيط المتسع بنصف معدل اتساعه الكلي تحت كل قارة من القارتين أو القارات المحيطة بشاطئيه، وبذلك يمتليء محور المحيط بالصهارة الصخرية الحديثة المندفعة عبر مستويات الصدوع الممزقة لقاعه فتسجره، بينما تندفع الصخور الأقدم بالتدريج في اتجاه الشاطئين حيث توجد أقدم صخور ذلك القاع، والتي تستهلك باستمرار تحت القارات المحيطة.
وهذه الصدوع العملاقة التي تمزق قيعان كل محيطات الأرض، وقيعان عدد من بحارها (مثل البحر الأحمر) توجد أيضا علي اليابسة ولكن بنسب أقل منها فوق قيعان البحار والمحيطات وتعمل علي تكوين عدد من الاغوار (الأودية الخسيفة) والبحار الطولية (من مثل اغوار شرقي افريقيا والبحر الأحمر) التي تعمل علي تفتيت الكتل القارية باتساعها التدريجي لتتحول تلك البحار الطولية مثل البحر الأحمر الي بحار أكبر ثم إلي محيطات تفصل بين الكتلة القارية التي كانت متصلة علي هيئة قارة واحدة، وتحاط تلك الخسوف القارية العملاقة بعدد من القمم البركانية السامقة من مثل جبل أرارات في شرقي تركيا (5100 متر فوق مستوي سطح البحر)، ومخروط بركان (إتنا) في شمال شرقي صقلية (3300 متر)، ومخروط بركان (فيزوف) في خليج نابولي بايطاليا (1300 متر)، وجبل (كيليمنجارو) في تنجانيقا (5900 متر)، وجبل كينيا في جمهورية كينيا (5100 مترا فوق مستوي سطح البحر).
بذلك ثبت لكل من علماء الأرض والبحار- بالأدلة المادية الملموسة- أن كل محيطات الأرض (بما في ذلك المحيطان المتجمدان الشمالي والجنوبي)، وأن أعدادا من بحارها (من مثل البحر الأحمر)، قيعانها مسجرة بالصهارة الصخرية المندفعة بملايين الأطنان من داخل الأرض عبر شبكة الصدوع العملاقة التي تمزق الغلاف الصخري للأرض بالكامل وتصل إلي نطاق الضعف الأرضي، وتتركز هذه الشبكة من الصدوع العملاقة أساسا في قيعان البحار والمحيطات، وأن كم المياه في تلك الأحواض العملاقة- علي ضخامته- لا يستطيع أن يطفيء جذوة الصهارة الصخرية المندفعة من داخل الأرض اطفاء كاملا، وأن هذه الجذوة علي شدة حرارتها (أكثر من ألف درجة مئوية) لا تستطيع أن تبخر هذا الماء بالكامل، وأن هذا الاتزان الدقيق بين الأضداد من الماء والحرارة العالية هو من أكثر ظواهر الأرض إبهارا للعلماء في زماننا، وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من اكتشافها إلا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين.
ومن الغريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- هذا النبي الأمي الذي لم يركب البحر في حياته الشريفة مرة واحدة، فضلا عن الغوص إلي أعماق البحار- قال في حديث شريف أخرجه كل من الأئمة أبو داود في سننه، والبيهقي في سننه، وابن شيبة في مصنفه عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) ما نصه: لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا (أبو داود البيهقي).
وجاء الحديث في مصنف ابن شيبة بالنص التالي: إن تحت البحر نارا، ثم ماء، ثم نارا ويعجب الإنسان المتبصر لهذا السبق في كل من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بالإشارة إلي حقيقة من حقائق الأرض التي لم يتوصل الإنسان إلي ادراكها إلا في نهايات القرن العشرين، هذا السبق الذي لا يمكن لعاقل أن يتصور له مصدرا غير الله الخالق، الذي أنزل هذا القرآن الكريم بعلمه، علي خاتم أنبيائه ورسله، وعلم هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم من حقائق هذا الكون ما لم يكن لأحد من الخلق إلمام به قبل العقود الثلاثة المتأخرة من القرن العشرين، لكي تبقي هذه الومضات النورانية في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم شهادات مادية ملموسة علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي حفظه تعالى علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد، وإلي قيام الساعة بنفس لغة الوحي (اللغة العربية) كلمة كلمة، وحرفا حرفا في صفائه الرباني، واشراقاته النورانية، دون أدني تغيير أو تبديل أو تحريف، وأن هذا النبي الخاتم، والرسول الخاتم عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم كان موصولا بالوحي، ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض. فسبحان الذي أنزل في محكم كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين هذا القسم القرآني بالبحر المسجور، وسبحان الذي علم خاتم أنبيائه ورسله بهذه الحقيقة فقال قولته الصادقة إن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا وسبحان الذي أكد علي صدق القرآن الكريم، وعلي صدق هذا النبي الخاتم في كل ما رواه عن ربه. فأنزل في محكم كتابه قوله الحق:
{لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفي بالله شهيدا} (النساء: 166).
وقوله (سبحانه) مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم:
{قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض انه كان غفورا رحيما} (الفرقان: 6).
وقوله (عز من قائل):
{وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون} (النمل: 93).
وقوله تعالى: {ويري الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلي صراط العزيز الحميد} (سبأ: 6).
وقوله سبحانه وتعالى:
{إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين} (ص: 88،87).
وقوله تبارك وتعالى:
{وانه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت: 41 و42).
وقوله (تبارك اسمه):
{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتي يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه علي كل شيء شهيد} (فصلت: 53). اهـ.

.تفسير الآيات (9- 16):

قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أثبت وقوع العذاب، تشوفت نفس الموقن إلى وقته، قال مستأنفًا لبيان أنه واقع على تلك الصفة: {يوم تمور} أي تتحرك وتضطرب وتجيء وتذهب وتتكفأ تكفأ السفينة وتدور دوران الرحى، ويموج بعضها في بعض، وتختلف أجزاؤها بعضها في بعض، ولا تزول عن مكان؛ قال البغوي: والمور يجمع هذه المعاني فهو في اللغة الذهاب والمجيء والتردد والدوران والاضطراب، قال الرازي: وقيل: تجيء وتذهب كالدخان ثم تضمحل.
{السماء} التي هي سقف بيتكم الأرض {مورًا} أي اضطرابًا شديدًا {وتسير الجبال} أي تنتقل من أمكنتها انتقال السحاب، وحقق معناه بقوله: {سيرًا} فتصير هباء منثورًا وتكون الأرض قاعًا صفصفًا.
ولما حقق العذاب وبين يومه، بين أهله بقوله مسببًا عن ذلك: {فويل} هي كلمة يقولونها لمن وقع في الهلاك، ومعناه حلول شر فاضح يكون فيه ندبة وتفجع {يومئذ} أي يوم إذ يكون ما تقدم ذكره {للمكذبين} أي العريقين في التكذيب وهم من مات على نسبة الصادقين إلى الكذب.
ولما كان التكذيب قد يكون في محله، بين أن المراد تكذيب ما محله الصدق فقال: {الذين هم} أي من بين الناس بظواهرهم وبواطنهم {في خوض} أي أعمالهم وأقوالهم أعمال الخائض في ماء، فهو لا يدري أين يضع رجله.
ولما كان ذلك قد يكون من دهشة بهم أو غم، نفى ذلك بقوله: {يلعبون} فاجتمع عليهم أمران موجبان للباطل: الخوض واللعب، فهم بحيث لا يكاد يقع لهم قول ولا فعل في موضعه، فلا يؤسس على بيان أو حجة.
ولما صور تكذيبهم بأشنع صورة، بين ويلهم ببيان ظرفه وما يفعل فيه فقال: {يوم يدّعون} أي يدفعون دفعًا عنيفًا بجفوة وغلظة من كل ما يقيمه الله لذلك، ذاهبين ومنتهين {إلى نار جهنم} وهي الطبقة التي تلقاهم بالعبوسة والكراهة والغليظ والزفير، وأكد المعنى وحققه بقوله: {دعًا} قال البغوي: وذلك أن خزنه جهنم يعلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم فم يدفعون دفعًا على وجوههم وزجًا في أقفيتهم، مقولا لهم تبكيتًا وتوبيخًا: {هذه النار} أي الجسم المحرق المفسد لما أتى عليه، الشاغل عن اللعب {التي كنتم} بجبلاتكم الفاسدة.
ولما كان تكذيبهم بها في أقصى درجات التكذيب، وكان سببًا لكل تكذيب، كان كأنه مقصور عليه فقال مقدمًا للظرف إشارة إلى ذلك، {بها تكذبون} أي في الدنيا على التجديد والاستمرار.
ولما كانوا يقولون عنادًا: إن القرآن بما فيه من الوعيد سحر، سبب عن ذلك الوعيد قوله مبكتًا موبخًا متهكمًا: {أفسحر هذا} أي الذي أنتم فيه من العذاب مع هذا الإحراق الذي تصلون منه {أم أنتم} في منام ونحوه {لا تبصرون} بالقلوب كما كنتم تقولون في الدنيا {قلوبنا في أكنة} [فصلت: 5] ولا بالأعين كما كنتم تقولون للمذرين {من بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} [فصلت: 5] أي أنتم عمي عن المخبر عنه مع إحراقه لهم كما كنتم عميًا عن الخبر أي هل تستطيعون أن تقولوا إنكم لا تبصرون المخبر عنه كما كنتم تقولون في الخبر كذبًا وفجورًا، ثم يقال لهم بعد هذا التبكيت الذي يقطع بأن جوابهم يكون بأن يقولوا: لا وعزة ربنا ما هو بسحر ولا خيال، بل هو حقيقة، ونحن في غاية الإبصار على سبيل الإخزاء، والامتهان والإذلال: {اصلوها} أي باشروا حرها وقاسوه وواصلوه كما كنتم تواصلون أذى عبادي بما يحرق قلوبهم {فاصبروا} أي فيتسبب عن تكذيبكم في الدنيا ومباشرتكم لها الآن أن يقال لكم: اصبروا على هذا الذي لا طاقة لكم به {أو لا تصبروا} فإنه لا محيص لكم عنها {سواء عليكم} أي الصبر والجزع.
ولما كان المعهود أن الصبر له مزية على الجزع، بين أن ذلك حيث لا تكون المصيبة إلا على وجه الجزاء الواجب وقوعه فقال معللًا: {إنما تجزون} أي يقع جزاؤكم الآن وفيما يأتي على الدوام {ما كنتم} أي دائمًا بما هو لكم كالجبلة {تعملون} مع الأولياء غير مبالين بهم، فكان هذا ثمرة فعلكم بهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما الناصب ليوم؟ نقول المشهور أن ذلك هو الفعل الذي يدل عليه واقع أي يقع العذاب {يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْرًا} والذي أظنه أنه هو الفعل المدلول عليه بقوله: {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} [الطور: 8] وإنما قلت ذلك لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم، لكن العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحشر، ومور السماء قبل الحشر، وأما إذا قلنا معناه {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} يوم تمور فيكون في معنى قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] كأنه تعالى يقول: ما له من دافع في ذلك اليوم وهو ما إذا صارت السماء تمور في أعينكم والجبال تسير، وتتحققون أن الأمر لا ينفع شيئًا ولا يدفع.
المسألة الثانية:
ما مور السماء؟ نقول خروجها عن مكانها تتردد وتموج، والذي تقوله الفلاسفة قد علمت ضعفه مرارًا وقوله تعالى: {وَتَسِيرُ الجبال سَيْرًا} يدل على خلاف قولهم، وذلك لأنهم وفقوا على أن خروج الجبل العظيم من مكانه جائز وكيف لا وهم يقولون بأن زلزلة الأرض مع ما فيها من الجبال ببخار يجتمع تحت الأرض فيحركها، وإذا كان كذلك فنقول السماء قابلة للحركة بإخراجها خارجة عن السمتيات والجبل ساكن يقتضي طبعه السكون، وإذا قبل جسم الحركة مع أنها على خلاف طبعه، فلأن يقبلها جرم آخر مع أنها على موافقته أولى، وقولهم القابل للحركة المستديرة لا يقبل الحركة المستقيمة في غاية الضعف، وقوله: {مَوْرًا} يفيد فائدة جليلة وهي أن قوله تعالى: {وَتَسِيرُ الجبال} يحتمل أن يكون بيانًا لكيفية مور السماء، وذلك لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر أن السماء كالسيارة إلى خلاف تلك الجهة كما يشاهده راكب السفينة فإنه يرى الجبل الساكن متحركًا، فكان لقائل أن يقول السماء تمور في رأي العين بسبب سير الجبال كما يرى القمر سائرًا راكب السفينة، والسماء إذا مارت كذلك فلا يبقى مهرب ولا مفزع لا في السماء ولا في الأرض.
المسألة الثالثة:
ما السبب في مورها وسيرها؟ قلنا قدرة الله تعالى، وأما الحكمة فالإيذان والإعلام بأن لا عود إلى الدنيا، وذلك لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها، فإن لم يتفق لهم عود لم يبق فيها نفع فأعدمها الله تعالى.
المسألة الرابعة:
لو قال قائل كنت وعدت ببحث في الزمان يستفيد العاقل منه فوائد في اللفظ والمعنى وهذا موضعه، فإن الفعل لا يضاف إليه شيء غير الزمان فيقال يوم يخرج فلان وحين يدخل فلان، وقال الله تعالى: {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} [المائدة: 119] وقال: {وَيَوْمَ تَمُورُ السماء} وقال: {يَوْمَ خَلَقَ السموات والأرض} [التوبة: 36] وكذلك يضاف إلى الجملة فما السبب في ذلك؟
فنقول الزمان ظرف الأفعال كما أن المكان ظرف الأعيان، وكما أن جوهرًا من الجواهر لا يوجد إلا في مكان، فكذلك عرض من الأعراض لا يتجدد إلا في زمان، وفيهما تحير خلق عظيم، فقالوا إن كان المكان جوهرًا فله مكان آخر ويتسلسل الأمر، وإن كان عرضًا فالعرض لابد له من جوهر، والجوهر لابد له من مكان فيدور الأمر أو يتسلسل، وإن لم يكن جوهرًا ولا عرضًا، فالجوهر يكون حاصلًا فيما لا وجود له أو فيما لا إشارة إليه، وليس كذلك، وقالوا في الزمان إن كان الزمان غير متجدد فيكون كالأمور المستمرة فلا يثبت فيه المضي والاستقبال، وإن كان متجددًا وكل متجدد فهو في زمان، فللزمان زمان آخر فيتسلسل الأمر، ثم إن الفلاسفة التزموا التسلسل في الأزمنة، ووقعوا بسبب هذا في القول بقدم العالم ولم يلتزموا التسلسل في الأمكنة وفرقوا بينهما من غير فارق وقوم التزموا التسلسل فيهما جميعًا، وقالوا بالقدم وأزمان لا نهاية لها وبالامتداد وأبعاد لا نهاية لها، وهم وإن خالفونا في المسألتين جميعًا والفلاسفة وافقونا في إحداهما دون الأخرى لكنهم سلكوا جادة الوهم ولم يتركوا على أنفسهم سبيل الالتزام في الأزمان، فإن قيل فالمتجدد الأول قبله ماذا؟ نقول ليس قبله شيء، فإن قيل فعدمه قبله أو قبله عدمه؟ نقول قولنا ليس قبله شيء أعم من قولك قبله عدمه، لأنا إذا قلنا ليس قبل آدم حيوان بألف رأس، صدقنا ولا يستلزم ذلك صدق قولنا آدم قبل حيوان بألف رأس أو حيوان بألف رأس بعد آدم، لانتفاء ذلك الحيوان أولًا وآخرًا وعدم دخوله في الوجود أزلًا وأبدًا، فكذلك ما قلنا، فإن قيل هذا لا يصح، لأن الله تعالى شيء موجود وهو قبل العالم، نقول قولنا ليس قبل المتجدد الأول شيء معناه ليس قبله شيء بالزمان، وأما الله تعالى فليس قبله بالزمان إذ كان الله ولا زمان، والزمان وجد مع المتجدد الأول، فإن قيل فما معنى وجود الله قبل كل شيء غيره؟ نقول معناه كان الله ولم يكن شيء غيره لا يقال ما ذكرتم إثبات شيء بشيء ولا يثبت ذلك الشيء إلا بما ترومون إثباته، فإن بداية الزمان غرضكم وهو مبني على المتجدد الأول والنزاع في المتجدد، فإن عند الخصم ليس في الوجود متجدد أول بل قبل كل متجدد، لأنا نقول نحن ما ذكرنا ذلك دليلًا، وإنما ذكرناه بيانًا لعدم الإلزام، وأنه لا يرد علينا شيء إذا قلنا بالحدوث ونهاية الأبعاد واللزم والإلزام، فيسلم الكلام الأول، ثم يلزم ويقول: ألست تقول إن لنا متجددًا أولًا فكذلك قل له عدم، فنقول لا بل ليس قبله أمر بالزمان، فيكون ذلك نفيًا عامًا، وإنما يكون ذلك لانتفاء الزمان، كما ذكرنا في المثال، إذا علمت هذا فصار الزمان تارة موجودًا مع عرض وأخرى موجودًا بعد عرض، لأن يومنا هذا وغيره من الأيام كلها صارت متميزة بالمتجدد الأول، والمتجدد الأول له زمان هو معه، إذا عرفت أن الزمان والمكان أمرهما مشكل بالنسبة إلى بعض الأفهام والأمر الخفي يعرف بالوصف والإضافة، فإنك إذا قلت غلام لم يعرف، فإذا وصفته أو أضفته وقلت غلام صغير أو كبير، وأبيض أو أسود قرب من الفهم، وكذلك إذا قلت غلام زيد قرب، ولم يكن بد من معرفة الزمان، ولا يعرف الشيء إلا بما يختص به، فإنك إذا قلت في الإنسان حيوان موجود بعدته عن الفهم، وإذا قلت حيوان طويل القامة قربته منه، ففي الزمان كان يجب أن يعرف بما يختص به لأن الفعل الماضي والمستقبل والحال يختص بأزمنة، والمصدر له زمان مطلق، فلو قلت زمان الخروج تميز عن زمان الدخول وغيره، فإذا قلت يوم خرج أفاد ما أفاد قولك يوم الخروج مع زيادة هو أنه تميز عن يوم يخرج والإضافة إلى ما هو أشد تمييزًا أولى، كما أنك إذا قلت غلام رجل ميزته عن غلام امرأة، وإذا قلت غلام زيد زدت عليه في الإفادة وكان أحسن، كذلك قولنا يوم خرج لتعريف ذلك اليوم خير من قولك يوم الخروج، فظهر من هذا البحث أن الزمان يضاف إلى الفعل وغيره لا يضاف لاختصاص الفعل بالزمان دون غيره إلا المكان في قوله اجلس حيث يجلس، فإن حيث يضاف إلى الجمل لمشابهة ظرف المكان لظرف الزمان، وأما الجمل فهي إنما يصح بواسطة تضمنها الفعل، فلا يقال يوم زيد أخوك، ويقال يوم زيد فيه خارج.