فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذه صورة مجملة للإنسان يوم القيامة، ولموقفه من الموجودات في هذا اليوم..
فهو كائن سابح في عالم علوىّ، قد يبلغ في سبحه هذا، مدارج الكواكب والنجوم، ثم هو في هذا العلو السحيق يملك بصرا حديدا كاشفا لا يمكن تصوره..
ومن هذا الأفق العالي، وبهذا البصر الحديد النافذ، ينظر الإنسان إلى هذه الأرض التي كان يعيش فيها.. فيرى الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء..
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} (48: إبراهيم) إنه تبدل يقع في إحساس الإنسان نفسه، وفى معطيات بصره..
إنه يرى البحار وكأنها قد فجّرت، وفاضت مياهها.. إنه يرى البحر كله، وقد اشتمل على الكرة الأرضية وأحاط بها..
وإنه يرى الجبال وكأنها قد سيّرت، وهى في حقيقتها سائرة لا تتوقف، في دورتها مع دورة الأرض حول نفسها، كما يقول اللّه تعالى: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب} (88: النمل).. ويراها وكأنها وقد نسفت، وزايلت مواضعها من الأرض، شأن من ينظر إلى الأرض من علو شاهق، فتبدو له وكأنها سطح مستو لا أغوار فيه، ولا نجود.. ويراها من هذا العلو وكأنها العهن المنفوش، أشبه بذرات متطايرة فوق سطح الأرض.. ويراها، ويرى الأرض معها كرة معلقة في الفضاء، قد اندمج بعضهما في بعض، فصارا كيانا واحدا: {لا تَرى فِيها عِوَجًا وَلا أَمْتًا} (107: طه)..
{وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة} (14: الحاقة)..
هكذا تبدو الجبال، على صور شتى، بين الصغر والكبر، وبين الظهور والخفاء، حسب الأفق الذي يشرف منه الإنسان عليها يومئذ.
ولقد أحسن الشاعر (شوقى) غاية الإحسان، في تصوير الطائرة، وهى تنطلق مصعّدة في السماء، وكلما ارتفعت كان لها في موقع البصر صورة، على غير سابقتها أو لا حقتها.. يقول شوقى:
ثم تسامت فكانت أعقبا ** فنسورا فصقورا فحماما

أمّا السماء وعوالمها، فإنه يقع عليها من التبدل والتحول، في نظر الإنسان، ما وقع له في العالم الأرضى من تحول وتبدل..
إنه يرى السماء، التي- كانت تبدو له في دنياه سقفا صفيقا مصمتا- يراها، وقد فتحت فكانت أبوابا، وكانت فروجا، وإذا سقفها هذا قد بدا واهيا، لا يحول بينه وبين اختراق أجوائها إلى غير حدود..
{وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ}.
. {وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا}.
. {إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ}..
تلك هي السماء، كما يراها الإنسان، ويختبر تصعيده فيها.. أما هي في حقيقتها فهى هى، لم تتبدل، ولم تتحول..!
وحال أخرى من السماء، يجدها الإنسان في هذا اليوم، وهى ما جاء في قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ}.
. فهذه حال من السماء يجدها الإنسان، حين يرتفع إلى مواقع النجوم منها، فيجد لذلك مسّ حرارة هذه النجوم، ويشهد منها هذا الغليان والفوران المتأجج في كيانها..
إذ النجوم في حقيقتها عوالم من لظى يأكل بعضه بعضا..
أما النجوم والكواكب، فإنه يراها- كذلك- في أحوال شتى، حسب موقعه منها.. فيرى النجوم وقد انكدرت وطمست، واختفى ضوءها.. حيث أن هذا الضوء الذي نراه للنجوم، إنما هو من أثر هذا الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من محيط هذا الغلاف لم يقع على بصره هذا الضوء اللامع الذي نراه لها..
كذلك يرى الكواكب، التي كان يراها في العالم الأرضى على مستوى واحد، متجاورة كما تتجاور حيات العقد- يراها متناثرة، كل واحد منها عالم يدور في فلك، بينه وبين النجوم الأخرى آماد بعيدة، تقدر مسافاتها بالألوف والملايين من السنين الضوئية!.
والشمس- وهى نجم من تلك النجوم- تبدو كرة ملتهبة، لا شعاع فيها، لأن هذا الشعاع الذي نراه منها، هو- كما قلنا- أثر من الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من دائرة هذا الغلاف لم يكن لهذه الأشعة وجود في مرأى العين..
أما قوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}- فهو أيضا أثر من آثار خروج الإنسان يوم القيامة من عالم الأرض.. حيث يرى الشمس شمسا، والقمر قمرا، في حال واحدة، لا يحكم رؤيته لهما، ليل أو نهار..
هذه وقفة قصيرة غاية القصر مع تلك المشاهد التي يراها الإنسان يوم القيامة، من عوالم الوجود.. ولو أننا ذهبنا نتقصّى وجوه النظر المختلفة، لخرج بنا ذلك عن المنهج الذي التزمناه، في هذا التفسير لكتاب اللّه..
بقيت كلمة لابد منها في التعقيب على هذا البحث، وهى، الإجابة على هذا السؤال:
هل يكون البعث بالأجساد، أو الأرواح؟.
وهذه قضية كثرت فيها الأقوال وتضاربت الآراء، ولا نحسب أن إجابتنا على هذا السؤال بالذي يحسم الأمر، ويرفع الخلاف فيها، بل إنه ربما وسّع من شقة الخلاف، وأضاف إلى المقولات المتخالفة مقولة! ومع هذا، فإن إمساكنا عن القول في هذه القضية، لا يخفف من حدة الخلاف فيها، ولا يمسك ذوى الآراء عن الخوض في تلك القضية، التي هي وسواس كل خاطر، وامتدا كل نظر إلى الحياة، وما وراء الحياة.
فنقول إننا نرجح الرأى القائل بأن البعث يكون بالأرواح لا بالأجسام..
ولنا في قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ}، وقوله سبحانه: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ}- لنا في هذا شاهد نلمح منه صورة الحياة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وهى أنها حياة أشبه بحياة الطير، حيث ينطلق الناس في العوالم العليا، إلى حيث الكواكب والنجوم..
والأرواح الإنسانية التي نلمحها من الآبتين الكريمتين، ليست أرواحا مجردة، بل هي أرواح، تلبس أجسادا شفافة، هي قوالب روحانية، على هيئات بشرية يعيش فيها الناس.. وهى ما يسمى بالنفس، التي هي وسط بين الروح، والجسد..
قوله تعالى: {هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ}.
فى الإشارة إلى النار، دعوة لأهلها إلى ورودها، ونزولهم ضيوفا عليها، ليطعموا مما تقدّمه لهم من زاد عتيد تلقاهم به، وتغاديهم وتراوحهم بصنوفه وأكوانه..!!
وفى الدعوة إلى هذا المكروه، مزيد من الاستهزاء والإيلام لهؤلاء الأشقياء، الذين يساقون إلى هذا العذاب الأليم.. مثل قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، وقوله تعالى: {أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ}؟
هو عرض على أسماع هؤلاء المجرمين المكذبين باليوم الآخر- لتلك المقولات الهازئة الساخرة التي كانوا يقولونها عن البعث، والحساب، والجزاء.. وكان من مقولاتهم تلك، اتهام النبي بالكذب، وبالسحر، وأن ما يحدثهم به عن اليوم الآخر ليس إلا من قبيل الشعوذة والخداع!..
فهم يسألون هذا السؤال التقريعيّ، الذي لا يجدون له جوابا إلا الإبلاس والوجوم، وإلا الحسرة القاتلة، والنّدم الأسود الكئيب!..
{أَفَسِحْرٌ هذا} أي أهذا العذاب الذي، تساقون إليه، والذي كان يتلوه عليهم من آيات اللّه- أسحر هو؟
وإنه لأسلوب من أساليب العقاب، أن يوقف المجرم على جسم جريمته، وأن يواجه بها، وأن يذكر بها حالا بعد حال، وخاصة إذا كان بين يدى السلطان القاهر الذي يأخذه بجريمته ويوقّع عليه الجزاء الذي يستحقه، فإن جريمته هي التي ساقته إلى هذا البلاء الذي هو فيه، وإنها لهى العدوّ الذي ألقاه في التهلكة!.
وفى قوله تعالى: {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} هو زيادة في إبلامهم بأن ينظروا في هذا العذاب، وأن يملأوا عيونهم منه، قبل أن يذوقوه بأجسامهم، ويلبسوه ثيابا تقطّع لهم من تلك النار الموقدة أمام أعينهم..
قوله تعالى: {اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هو دعوة أخرى لهؤلاء المكذبين، إلى تذوق ما في هذه النار التي دعوا إليها، ونزلوا بساحتها، وإنه لا شيء هناك إلا نارا تشوى الوجوه، وتهرى الأجسام، وإلا مهلا يغلى في البطون كغلى الحميم..
فليأخذوا ما تقدّم لهم النّار من ضيافة نكدة، وليصبروا على تجرّع هذه الغصص، أولا يصبروا، فإنه لا مفرّ لهم من أن يشربوا من هذه الكأس التي لا تنضب، ولا معدل لهم عنها، صبروا أولم يصبروا..
فالأمر بالنسبة إليهم سواء.. إنهم في قيد العذاب: {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} (24: فصلت). اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)}.
يجوز أن يتعلق {يوم تمور السماء} بقوله: {لواقع} [الذاريات: 7] على أنه ظرف له فيكون قوله: {فويل يومئذٍ للمكذبين} تفريعًا على الجملة كلها ويكون العذاب عذاب الآخرة.
ويجوز أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {إن عذاب ربك لواقع} [الذاريات: 7]، فيكون {يوم} متعلقًا بالكون الذي بين المبتدأ والخبر في قوله: {فويل يومئذٍ للمكذبين} وقدم الظرف على عامله للاهتمام، فلما قدم الظرف اكتسب معنى الشرطية وهو استعمال متبع في الظروف والمجرورات التي تُقدم على عواملها فلذلك قرنت الجملة بعده بالفاء على تقدير: إن حَلَّ ذلك اليوم فويل للمكذبين.
وقوله: {يومئذٍ} على هذا الوجه أريد به التأكيد للظرف فحصل تحقيق الخبر بطريقين طريق المجازاة، وطريق التأكيد في قوله: {يوم تمور السماء مورًا} الآية، تصريح بيوم البعث بعد أن أشير إليه تضمنًا بقوله: {إن عذاب ربك لواقع} فحصل بذلك تأكيده أيضًا.
والمور بفتح الميم وسكون الواو: التحرك باضطراب، ومور السماء هو اضطراب أجسامها من الكواكب واختلال نظامها وذلك عند انقرأض عالم الحياة الدنيا.
وسيْر الجبال: انتقالها من مواضعها بالزلازل التي تحدث عند انقرأض عالم الدنيا، قال تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} إلى قوله: {يومئذٍ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم} [الزلزلة: 1 6].
وتأكيد فعلي {تمور} و{تسير} بمصدري {مَوْرًا} و{سَيْرًا} لرفع احتمال المجاز، أي هو مور حقيقي وتنقل حقيقي.
والويل: سوء الحال البالغ منتهى السوء، وتقدم عند قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} في سورة البقرة (79) وتقدم قريبًا في آخر الذاريات.
والمعنى: فويل يومئذٍ للذين يكذبون الآن.
وحذف متعلق للمكذبين لعلمه من المقام، أي الذين يكذبون بما جاءهم به الرسول من توحيد الله والبعث والجزاء والقرآن فاسم الفاعل في زمن الحال.
والخوض: الاندفاع في الكلام الباطل والكذب.
والمراد خوضهم في تكذيبهم بالقرآن مثل ما حكى الله عنهم: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] وهو المراد بقوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: 68].
و {في} للظرفية المجازية وهي الملابسة الشديدة كملابسة الظرف للمظروف، أي الذين تمكن منهم الخوض حتى كأنه أحاط بهم.
و {يلعبون} حاليّة.
واللعب: الاستهزاء، قال تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أباللَّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} [التوبة: 65].
{يوم يدعون} بدل من {يوم تمور السماء مورًا} وهو بدل اشتمال.
والدعّ: الدفع العنيف، وذلك إهانة لهم وغلظة عليهم، أي يوم يساقون إلى نار جهنم سَوقًا بدفع، وفيه تمثيل حالهم بأنهم خائفون متقهقرون فتدفعهم الملائكة الموكلون بإزجائهم إلى النار.
وتأكيد {يدعون} بـ {دعًّا} لتوصل إلى إفادة تعظيمه بتنكيره.
وجملة {هذه النار} إلى آخرها مقول قول محذوف دل عليه السياق.
والقول المحذوف يقدر بما هو حال من ضمير {يدعون}.
وتقديره: يقال لهم، أو مقولا لهم، والقائل هم الملائكة الموكلون بإيصالهم إلى جهنم.
والإِشارة بكلمة {هذه} الذي هو للمشار إليه القريب المؤنث تومىء إلى أنهم بلغوها وهم على شفاها، والمقصود بالإِشارة التوطئة لمَا سيرد بعدها من قوله: {التي كنتم بها تكذبون} إلى {لا تبصرون}.
والموصول وصلته في قوله: {التي كنتم بها تكذبون} لتنبيه المخاطبين على فساد رأيهم إذ كذبوا بالحشر والعقاب فرأوا ذلك عيانًا.
وفرع على هذا التنبيه تنبيه آخر على ضلالهم في الدنيا بقوله: {أفسحر هذا} إذ كانوا حين يسمعون الإِنذار يوم البعث والجزاء يقولون: هذا سحر، وإذا عرض عليهم القرآن قالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، فللمناسبة بين ما في صلة الموصول من معنى التوقيف على خطئهم وبين التهكّم عليهم بما كانوا يقولونه دخلت فاء التفريع وهو من جملة ما يقال لهم المحكي بالقول المقدر.
و {أم} منقطعة، والاستفهام الذي تقتضيه {أم} بعدها مستعمل في التوبيخ والتهكم.
والتقدير: بل أأنتم لا تبصرون.
ومعنى {لا تبصرون}: لا تبصرون المرئيات كما هي في الواقع فلعلكم تزعمون أنكم لا ترون نارًا كما كنتم في الدنيا تقولون: {بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5] أي فلا نراك، وتقولون {إنما سكرت أبصارنا} [الحجر: 15].
وجيء بالمسند إليه مخبرًا عنه بخبر فعلي منفي لإِفادة تقوّي الحكم، فلذلك لم يقل: أم لا تبصرون، لأنه لا يفيد تقويًا، ولا: أم لا تبصرون أنتم، لأن مجيء الضمير المنفصل بعد الضمير المتصل يفيد تقرير المسند إليه المحكوم عليه بخلاف تقديم المسند إليه فإنه يفيد تأكيد الحكم وتقويته وهو أشد توكيدًا، وكل ذلك في طريقة التهكم.
وجملة {اصلوها} مستأنفة هي بمنزلة النتيجة المترقبة من التوبيخ والتغليظ السابقين، أي ادخلوها فاصطلوا بنارها يقال: صلي النار يصلاها، إذا قاسى حرها.
والأمر في {اصلوها} إمّا مكنًّى به عن الدخول لأن الدخول لها يستلزم الاحتراق بنارها، وإما مستعمل مجازًا في التنكيل.