فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها: مواعظ القرآن، قال في البقرة {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة: 231] يعني مواعظ القرآن وفي النساء {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة} يعني المواعظ، ومثلها في آل عمران وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم، ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيًّا} [مريم: 12] وفي لقمان {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} [لقمان: 12] يعني الفهم والعلم وفي الأنعام {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم} [الأنعام: 89] وثالثها: الحكمة بمعنى النبوّة في النساء {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبراهيم الكتاب والحكمة} [النساء: 54] يعني النبوّة، وفي ص {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 20] يعني النبوّة، وفي البقرة {وآتاه الله الملك والحكمة} [البقرة: 251] ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة} [النحل: 125] وفي هذه الآية: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم، ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم، قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلا، فقال: {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير، والبرهان العقلي أيضًا يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار، متناهية المدة، والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها، والسعادة الحاصلة منها، وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مرّ في تفسير قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا} [البقرة: 31] وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها: إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية، ومداد هذا المعنى على قوله صلى الله عليه وسلم: «تخلقوا بأخلاق الله تعالى». واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول: إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله: {رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا} [الشعراء: 83] وهو الحكمة النظرية {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [الشعراء: 83] الحكمة العملية، ونادى موسى عليه السلام فقال: {إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ} وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {فاعبدنى} وهو الحكمة العملية، وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال: {إِنّى عَبْدُ الله} [مريم: 30] الآية، وكل ذلك للحكمة النظرية، ثم قال: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّا} [مريم: 31] وهو الحكمة العملية، وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله} [محمد: 19] وهو الحكمة النظرية، ثم قال: {واستغفر لِذَنبِكَ} [غافر: 55] [محمد: 19] وهو الحكمة العملية، وقال في جميع الأنبياء {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ} [النحل: 2] وهو الحكمة النظرية: ثم قال: {فاتقون} وهو الحكمة العملية، والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين، قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم، وهي كالنحلة من النحل، ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي، وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ويقال: أمر حكيم، أي محكم، وهو فعيل بمعنى مفعول، قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم، فلذلك قيل: نزلت الحكمة على ألسنة العرب، وعقول اليونان، وأيدي الصينيين.
وهي مشتقة من الحُكْم وهو المنع لأنّها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال، قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} [هود: 1]، ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس، حَكَمَة.
ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعدًا إلى ذلك، من سلامة عقله واعتدال قواه، حتى يكون قابلًا لفهم الحقائق منقادًا إلى الحق إذا لاح له، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العُتاة، فإذا انضمّ إلى ذلك توجّهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيرًا ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير.
وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب.
والحكمة قسمت أقسامًا مختلفةَ الموضوع اختلافًا باختلاف العصور والأقاليم.
ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين، وعند أهل الصين البوذيين، وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت، وعند القبط في حكمة الكهنة.
ثم انتقلت حكمة هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان وهُذّبت وصحّحت وفرّعت وقسّمت عندهم إلى قسمين: حكمة عملية، وحكمة نظرية.
فأما الحكمة العملية فهي المتعلّقة بما يصدر من أعمال الناس، وهي تنحصر في تهذيب النفس، وتهذيب العائلة، وتهذيب الأمة.
والأول علم الأخلاق، وهو التخلّق بصفات العلوّ الإلهيّ بحسب الطاقة البشرية، فيما يصدر عنه كمال في الإنسان.
والثاني علم تدبير المنزل.
والثالث علم السياسة المدنية والشرعية.
وأما الحكمَة النظرية في الباحثة عن الأمور التي تعلّم وليست من الأعمال، وإنّما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال، وهي ثلاثة علوم:
علم يلقّب بالأسفل وهو الطبيعيّ، وعلم يلقّب بالأوسط وهو الرياضيّ، وعلم يلقّب بالأعلى وهو الإلهيّ.
فالطبيعيّ يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواصّ والكون والفساد، ويندرج تحته حوادث الجوّ وطبقات الأرض والنَبات والحيوان والإنسان، ويندرج فيه الطبّ والكيمياء والنجوم.
والرياضيّ الحساب والهندسة والهيأة والموسيقى، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة الماكينية وجرّ الأثقال.
وأما الإلهيّ فهو خمسة أقسام: معاني الموجودات، وأصول ومبادئ وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة، وإثبات واجب الوجود وصفاتِه، وإثبات الأرواح والمجرّدات، وإثبات الوحي والرسالة، وقد بَيّن ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا.
فأمّا المتأخّرون من حكماء الغرب فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة وهو ما يسمّى عند اليونان بالإلهيّات.
والمهمّ من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول:
أحدها معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق، ويسمّى عند اليونان العلم الإلهيّ أو ما وراء الطبيعة.
الثاني ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان، وهو علم الأخلاق.
الثالث تهذيب العائلة، وهو المسمّى عند اليونان علم تدبير المنزل.
الرابع تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمّى علم السياسة المدنية، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية.
ودعوةُ الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من شعب هذه الحكمة.
وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مرادًا بها ما فيه صلاح النفوس، من النبوءة والهدى والإرشاد.
وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة، وكليات جامعة لجماع الآداب.
وذكر الله تعالى في كتابه حكمة لقمان ووصاياه في قوله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12] الآيات.
وقد كانت لشعراء العرب عناية بإبداع الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال، كما فعل زُهير في الأبيات التي أولها:
رأيت المنايا خبط عشواء

والتي افتتحها بمَنْ ومَنْ في معلقته.
وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان عليه السلام وأمْثاله، فكان العرب ينقلون منها أقوالًا.
وفي صحيح البخاري في باب الحياء من كتاب الأدب أنّ عمران بن حُصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخياء لا يأتي إلاّ بخير، فقال بُشير بن كعب العدوي: مَكتوب في الحكمة إنّ من الحياء وقارًا وإنّ من الحياء سكينة، فقال له عمران: أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّثني عن صحيفتك.
والحكيم هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته، وفي الغرض الذي تتعلّق به حكمته.
وعلوم الحكمة هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان، ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء العقول من أنظارهم المتفرّعة على أصول الهدى الأول.
وقد مهّد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيّلات والضلالات.
بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين، ثم درسها حكماء اليونان فهذّبوا وأبدعوا، وميّزوا علم الحكمة عن غيره، وتوخّوا الحق ما استطاعوا فأزالوا أوهامًا عظيمة وأبقوا كثيرًا.
وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية.
والأولى يونانية والثانية لإيطاليا اليونانية.
وعنهما أخذ أفلاطون، واشتهر أصحابه بالإشراقيين، ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسططاليس وهذّب طريقته ووسّع العلوم، وسُمّيت أتباعه بالمشَّائين، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معوّلة على أصوله إلى يومنا هذا. اهـ.

.قال القرطبي:

يقال: إن من أُعطيَ الحكمة والقرآن فقد أُعطي أفضل ما أُعطي من جمع علم كتب الأوّلين من الصحف وغيرها؛ لأنه قال لأُولئك: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
وسمّى هذا خيرًا كثيرًا؛ لأن هذا هو جوامع الكلم.
وقال بعض الحكماء: من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه، ولا يتواضع لأهل الدنيا لأجل دنياهم؛ فإنما أُعطي أفضلَ ما أُعطي أصحاب الدنيا؛ لأن الله تعالى سَمَّى الدنيا متاعًا قليلًا فقال: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] وسَمّى العلم والقرآن خيرًا كثيرًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا} وهو الذي شاء الله إيتاءه الحكمة.
والخيرُ الكثير منجّر إليه من سداد الرأي والهدي الإلهي، ومن تفاريع قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوغّل في فهمها واستحضار مهمها؛ لأنّنا إذا تتبّعنا ما يحلّ بالناس من المصائب نجد معظمها من جرّاء الجهالة والضلالة وأفن الرأي.
وبعكس ذلك نجد ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات منجّرا من المعارف والعلم بالحقائق، ولو أنّنا علمنا الحقائق كلّها لاجتنبنا كل ما نراه موقعًا في البؤس والشقاء. اهـ.