فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ ابن كثير وأبو يحيى وشبل: {ألِتناهم} من ألِت بكسر اللام. وقرأ الأعرج: {ألتناهم} على وزن أفعلناهم. وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود: {لتناهم} من لات، وهي قراءة ابن مصرف. ورواها القواس عن ابن كثير، وتحتمل قراءة من قرأ: {أَلَتناهم} بالفتح أن تكون من ألات، فإنه قال: ألات يليت إلاتة. ولات يليت ليتًا. وآلت يولت إيلاتًا، وألت يألت. وولت يلت ولتًا. وكلها بمعنى نقص ومعنى هذه الآية: أن الله يلحق المقصر بالمحسن، ولا ينقص المحسن من أجره شيئًا وهذا تأويل ابن عباس وابن جبير والجمهور، ويحتمل قوله تعالى: {وما ألتناهم من عملهم من شيء} بأن يريد من عملهم المحسن والقبيح، ويكون الضمير في {عملهم} عائد على الأبناء، وهذا تأويل ابن زيد، ويحسن هذا الاحتمال قوله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين}، والرهين المرتهن، وفي هذه الألفاظ وعيد.
وحكى أبو حاتم عن الأعمش أنه قرأ: {وما لَتناهم} بغير ألف وفتح اللام. قال أبو حاتم: لا تجوز هذه القراءة على وجه من الوجوه. وأمددت الشي: إذا سربت إليه شيئًا آخر يكثره أو يكثر لديه. وقوله: {مما يشتهون} إشارة إلى ما روي من أن المنعم إذا اشتهى لحمًا نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يخزن ولا يتكلف فيه الذبح والسلخ والطبخ. وبالجملة: لا كلفة في الجنة، و: {يتنازعون} معناه: يتعاطون، ومنه قول الأخطل: البسيط:
نازعته طيب الراح الشمول وقد ** صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

والكأس: الإناء وفيه الشراب. ولا يقال في فارغ كأس، قاله الزجاج.
وقرأ جمهور من السبعة وغيرهم {لا لغوٌ} بالرفع {ولا تأثيمٌ} كذلك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن: {لا لغوَ ولا تأثيمَ} بالنصب على التبرية وعلى الوجهين. فقوله: {فيها} هو في موضع الخبر، وأغنى خبر الأولين عن ذكر خبر الثاني. واللغو: السقط من القول. والتأثيم: يلحق خمر الدنيا في نفس شربها وفي الأفعال التي تكون من شرابها، وذلك كله مرتفع في الآخرة. و: {اللؤلؤ المكنون} أجمل اللؤلؤ لأن الصون والكن يحسنه. وقال ابن جبير: أراد أنه الذي في الصدف لم تنله الأيدي، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان الغلمان كاللؤلؤ المكنون، فكيف المخدومون؟ قال: «هم كالقمر ليلة البدر». ثم وصف عنهم أنهم في جملة تنعمهم يتساءلون عن أحوالهم وما قال كل أحد منهم، وأنهم يتذكرون حال الدنيا وخشيتهم فيها عذاب الآخرة. وحكى الطبري عن ابن عباس قال: تساؤلهم إذا بعثوا في النفخة الثانية. والإشفاق أشد الخشية ورقة القلب.
وقرأ أبو حيوة: {ووقّانا} بشد القاف.
وقراءة الجمهور بتخفيفها. وأمال عيسى الثقفي: {ووقَانا} بتخفيف القاف.
و: {السموم} الحار. قال الرماني: هو الذي يبلغ مسام الإنسان، وهو النار في هذه الآية. وقد يقال في حر الشمس وفي الريح سموم. وقال الحسن: {السموم} اسم من أسماء جهنم و: {ندعوه} يحتمل أن يريد نعبده، ويحسن هذا على قراءة من قرأ: {أنه} بفتح الألف. وهي قراءة نافع. بخلاف والكسائي وأبي جعفر والحسن وأبي نوفل أي من أجل أنه. وقرأ باقي السبعة والأعرج وجماعة {أنه} على القطع والاستئناف، ويحسن مع هذه القراءة أن يكون {ندعوه} بمعنى نعبده. أو بمعنى الدعاء نفسه، ومن رأى: {ندعوه} بمعنى الدعاء نفسه فيحتمل أن يجعل قوله: {أنه} بالفتح هو نفس الدعاء الذي كان في الدنيا. و: {البر} هو الذي يبر ويحسن، ومنه قول ذي الرمة: البسيط:
جاءت من البيض زعر لا لباس لها ** إلا الدهاس وأم برة وأب

. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}.
هذه السورة مكية.
ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة، إذ في آخر تلك: {فإن للذين ظلموا ذنوبًا مثل ذنوب أصحابهم} وقال هنا: {إن عذاب ربك لواقع}.
الطور: الجبل، والظاهر أنه اسم جنس، لا جبل معين، وفي الشأم جبل يسمى الطور، وهو طور سيناء.
فقال نوف البكالي: إنه الذي أقسم الله به لفضله على الجبال.
قيل: وهو الذي كلم الله عليه موسى، عليه الصلاة والسلام.
والكتاب المسطور: القرآن، أو المنتسخ من اللوح المحفوظ، أو التوراة، أو هي الإنجيل والزبور، أو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق، أو الصحف التي تعطى يوم القيامة بالإيمان والشمائل، أقوال آخرها للفراء، ولا ينبغي أن يحمل شيء منها على التعيين، إنما تورد على الاحتمال.
وقرأ أبو السمال: في رِق، بكسر الراء، {منشور}: أي مبسوط.
وقيل: مفتوح لا ختم عليه.
وقيل: منشور لائح.
وعن ابن عباس: منشور ما بين المشرق والمغرب.
{والبيت المعمور}، قال علي وابن عباس وعكرمة: هو بيت في السماء مسامت الكعبة يقال له الضراح، والضريح أيضًا، وهو الذي ذكر في حديث الإسراء، قال جبريل: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك.
وسأل ابن الكوا عليًا، رضي الله تعالى عنه فقال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضراح.
وقال الحسن: البيت المعمور: الكعبة، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز من الناس أتمه الله بالملائكة.
{والسقف المرفوع}: السماء، قال ابن عباس: هو العرش، وهو سقف الجنة.
{والبحر المسجور}، قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش: هو البحر الموقد نارًا.
وروي أن البحر هو جهنم.
وقال قتادة: البحر المسجور: المملوء، وهذا معروف من اللغة، ورجحه الطبري بوجود ماء البحر كذلك، ولا ينافي ما قاله مجاهد، لأن سجرت التنور معناه: ملأته بما يحترق.
وقال ابن عباس: المسجور: الذي ذهب ماؤه.
وروى ذو الرمة الشاعر، عن ابن عباس قال: خرجت أمة لتستقي، فقالت: إن الحوض مسجور: أي فارغ، وليس لذي الرمة حديث إلا هذا، فيكون من الأضداد.
ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة.
وقال ابن عباس أيضًا: المسجور: المحبوس، ومنه ساجور الكلب: وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه، ولولا أن البحر يمسك، لفاض على الأرض.
وقال الربيع: المسجور: المختلط العذب بالملح.
وقيل: المفجور، ويدل عليه: {وإذا البحار فجرت} والجمهور: على أن البحر المقسم به هو بحر الدنيا، ويؤيده: {وإذا البحار سجرت} وعن علي وابن عمر: أنه في السماء تحت العرش فيه ماء غليظ يقال له بحر الحياة، يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحًا، فينبتون في قبورهم.
وقال قتيبة بن سعيد: هو جهنم، وسماها بحرًا لسعتها وتموجها.
كما جاء في الفرس: وإن وجدناه لبحرًا.
قيل: ويحتمل أن تكون الجملة في القسم بالطور والبحر والبيت، لكونها أماكن خلوة مع الله تعالى، خاطب منها ربهم رسله.
فالطور، قال فيه موسى: {أرني أنظر أليك} والبيت المعمور لمحمد صلى الله عليه وسلم، والبحر المسجور ليونس، قال: {لا إله إلا أنت سبحانك} فشرفت هذه الأماكن بهذه الأسباب.
والقسم بكتاب مسطور، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم مع الله في هذه الأماكن كلام.
واقترانه بالطور دل على ذلك.
والقسم بالسقف المرفوع لبيان رفعة البيت المعمور. انتهى.
ونكر وكتاب، لأنه شامل لكل كتاب أنزله الله شمول البدل، ويحتمل أن يكون شمول العموم، كقوله: {علمت نفس ما أحضرت} وكونه في رق، يدل على ثبوته، وأنه لا يتخطى الرؤوس.
ووصفه بمنشور يدل على وضوحه، فليس كالكتاب المطوي الذي لا يعلم ما انطوى عليه، والمنشور يعلم ما فيه، ولا يمنع من مطالعة ما تضمنه؛ والواو الأولى واو القسم، وما بعدها للعطف.
والجملة المقسم عليها هي قوله: {إن عذاب ربك لواقع}.
وفي إضافة العذاب لقوله: {ربك} لطيفة، إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد.
فبالإضافة إلى الرب، وإضافته لكاف الخطاب أمان له صلى الله عليه وسلم؛ وإن العذاب لواقع هو بمن كذابه، ولواقع على الشدة، وهو أدل عليها من لكائن.
ألا ترى إلى قوله: {إذا وقعت الواقعة} وقوله: {وهو واقع بهم} كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حل به؟ وعن جبير بن مطعم: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب: {والطور} إلى {إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع}، فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفًا من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب.
وقرأ زيد بن علي: واقع بغير لام.
قال قتادة: يريد عذاب الآخرة للكفار، أي لواقع بالكفار.
ومن غريب ما يحكى أن شخصًا رأى في النوم في كفه مكتوبًا خمس واوات، فعبر له بخير، فسأل ابن سيرين، فقال: تهيأ لما لا يسر، فقال له: من أين أخذت هذا؟ فقال: من قوله تعالى: {والطور} إلى {إن عذاب ربك لواقع}، فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص.
وانتصب يوم بدافع، قاله الحوفي، وقال مكي: لا يعمل فيه واقع، ولم يذكر دليل المنع.
وقيل: هو منصوب بقوله: {لواقع}، وينبغي أن يكون {ماله من دافع} على هذا جملة اعتراض بين العامل والمعمول.
قال ابن عباس: {تمور}: تضطرب.
وقال أيضًا: تشقق.
وقال الضحاك: يموج بعضها في بعض.
وقال مجاهد: تدور.
{وتسير الجبال سيرًا}، هذا في أول الأمر، ثم تنسف حتى تصير آخرًا.
{كالعهن المنفوش} {فويل}: عطف على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده، والخوض: التخبط في الباطل، وغلب استعماله في الاندفاع في الباطل.
{يوم يدعون}، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعًا على وجوههم وزجًا في أقفيتهم.
وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيد بن علي: يدعون، بسكون الدال وفتح العين: من الدعاء، أي يقال لهم: هلموا إلى النار، وادخلوها {دعًا}: مدعوعين، يقال لهم: {هذه النار}.
لما قيل لهم ذلك، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار، وهي: إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال، فأمرهم بصليها على جهة التقريع.
ثم قيل لهم على قطع رجائهم: {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم}: عذابكم حتم، فسواء صبركم وجزعكم لابد من جزاء أعمالكم، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: {أفسحر هذا}، يعني كنتم تقولون للوحي: هذا سحر.
{أفسحر هذا}، يريد: أهذا المصداق أيضًا سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى.
{أم أنتم لا تبصرون}: كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه، كما كنتم عميًا عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم.
فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: {إنما تجزون ما كنتم تعملون}؟ قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير.
فأما الصبر على العذاب، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع. انتهى.
وسحر: خبر مقدم، وهذا: مبتدأ، وسواء: مبتدأ، والخبر محذوف، أي الصبر والجزع.
وقال أبو البقاء: خبر مبتدأ محذوف، أي صبركم وتركه سواء.
ولما ذكر حال الكفار، ذكر حال المؤمنين، ليقع الترهيب والترغيب، وهو إخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين، أخبروا بذلك.
ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار، إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم، والأول أظهر.
وقرأ الجمهور: فكهين، نصبًا على الحال، والخبر في {جنات نعيم}.
وقرأ خالد: بالرفع على أنه خبر إن، وفي جنات متعلق به.
ومن أجاز تعداد الخبر، أجاز أن يكونا خبرين.
{ووقاهم} معطوف على {في جنات}، إذ المعنى: استقروا في جنات، أو على {آتاهم}، وما مصدرية، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم.
وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال، ومن شرط قد في الماضي، قال: هي هنا مضمرة، أي وقد وقاهم.
وقرأ أبو حيوة: ووقاهم، بتشديد القاف.
{كلوا واشربوا} على إضمار القول: أي يقال لهم: {هنيئًا}.
قال الزمخشري: أكلًا وشربًا هنيئًا، أو طعامًا وشرابًا هنيئًا، وهو الذي لا تنغيص فيه.
ويجوز أن يكون مثله في قوله:
هنيئًا مريئًا غير داء مخامر ** لعزة من أعراضنا ما استحلت

أعني: صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعًا به ما استحلت، كما يرتفع بالفعل، كأنه قيل: هنا عزة المستحل من أعراضنا.
وكذلك معنى هنيئًا ههنا: هنأكم الأكل والشرب، أو هنأكم ما كنتم تعملون، أي جزاء ما كنتم تعملون، والباء مزيدة كما في: {كفى بالله}، والباء متعلقة بكلوا واشربوا، إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. انتهى.
وتقدم لنا الكلام مشبعًا على {هنيئًا} في سورة النساء.
وأما تجويزه زيادة الباء، فليست زيادتها مقيسة في الفاعل، إلا في فاعل كفى على خلاف فيها؛ فتجويز زيادتها في الفاعل هنا لا يسوغ.
وأما قوله: إن الباء تتعلق بكلوا واشربوا، فلا يصح إلا على الأعمال، فهي تتعلق بأحدهما.
وانتصب {متكئين} على الحال.