فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما هجرتك حتى قلت معلنة ** لا ناقة لي في هذا ولا جمل

وقوله: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأسًَا}: أي يتعاطون، ويتناول بعضهم من بعض كأسًا أي خمرًا، فالتنازع يطلق لقة على كل تعاط وتناول، فكل قوم يعطي بعضهم بعضًا شيئًا ويناوله إياه، فهم يتنازعونه كتنازع كؤوس الشراب والكلام، وهذا المعنى معروف في كلام العرب.
ومنه في الشراب قول الأخطل:
وشارب مبرح بالكأس نادمني ** لا بالحصور ولا فيها بسوار

نازعته طيب الراح الشمور وقد ** صاح الدجاج وحانت وقعة السار

فقوله: نازعته طيب الراح: أي ناولته كؤوس الخمر وناولينها، ومنه في الكلام قول امرئ القيس:
ولما تنازعنا الحديث وأسمحت ** هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

والكأس تطلق على غناء الخمر، ولا تكاد العرب تطلب الكأس إلا على الإناء المملوء، وهي مؤنثة وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأثِيمٌ} يعني أن خمر الجنة التي يتعاطاها المؤمنون، فيها ومخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا، فخمر الآخرة لا لغو فيها، واللغة كل كلام ساقط لا خير فيثه، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الخبيث والهذيان، لأنها لا تؤثر في عقولهم بخلاف خمر الدنيا، فغنهم يشربوها سكروا وطاشت عقولهم، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان، وكل ذلك من اللغو.
والتأثيم: هو ما ينسب به فاعله إلى الإثم، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها، لأنها مباحة له، فنعم بلذتها كما قال تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثمًا بخلاف خمر الدنيا، فشاربها يأثم بشربها ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كاقتل والزنا والقذف.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا، جاء موضحًا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: 45- 47] وقوله: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ}: أي ليس فيها غول يغتال العقول، فيذهبها كخمر الدنيا.
{وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنَزفُونَ}: أي لا يسكرون، وكقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ} [الواقعة: 17- 19]: وقوله: {لاَّ يَصَدَّعُونَ} أي لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها.
وقد أوضحنا معنى هذه الآيات في صفة خمر الآخرة، وبينا أنها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا. وذكرنا الشواهد العربية في ذلك في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} [المائدة: 90] الآية.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة يطوف عليهم غلمان جمع غلام، أي خدم لهم، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {قالواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53].
ولم يبين هنا ما يطوفون عليهم به، وذكر هنا حسنهم بقوله: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} في أصدافه، لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه، وقيل: مكنون أي مخزون لنفاسته، لأن النفيس هو الذي يخزن ويكن.
وبين تعالى في الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} [الواقعة: 17- 18]. وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين، وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71]. وقوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ وَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 15- 16].
والظاهر أن الفاعل المحذوف في قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِم} في آية الزخرف والإنسان المذكورتين هو الغلمان المذكورون في الطور والواقعة، وذكر بعض صفات هؤلاء الغلمان في الإنسان في قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} [الإنسان: 19].
{قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضًا، وأن المسؤول عنهم يقول للسائل: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ}، أي في دار الدنيا {في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي خائفين من عذاب الله، ونحن بين أهلنا أحياء فمنَّ الله علينا أي أكرمنا، وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا، ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة عذاب السموم، والسموم النار ولفحها ووهجها، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام، والجمع سمائم. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
أنامل لم تضرب على البهم بالضحى ** بهن ووجه لم تلحه السمائم

وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد، ومنه قول الراجز:
اليوم يوم بارد سمومه ** من جزع اليوم فلا ألومه

الفاء في قوله: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}، تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا، سبب للسلامة منه في الآخرة، يفهم من دليل خطابه، أعني مفهوم مخالفته أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها جاء موضحًا في غير هذا الموضع. فذكر تعالى أن السرور في الدنيا وعدم الخوف من الله سبب العذاب يوم القيامة، وذلك في قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ويصلى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} الآية.
وقد تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله: {إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الإنشقاق: 13] علة لقوله: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ويصلى سَعِيرًا} [الإنشقاق: 12- 13].
والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف، ويؤيد ذلك قوله بعده: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الإنشقاق: 14] لأن معناه، ظن ألن يرجع إلى الله حيًا يوم القيامة، ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقًا في أهله خوفًا من العذاب، لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء، وكون لن يحور، بمعنى لن يرجع معروف في كلام العرب، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي:
أليلتنا بذي حسم أنيري ** إذا أنت النقضيت فلا تحوري

فقوله: فلا تحوري، أي فلا ترجعي.
وقول لبيد بن ربيعة العامري:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ** يجور رمادًا بعد ما هو ساطع

أي يرجع رمادًا، وقيل: يصير، والمعنى واحد. وقوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم وَكَانُواْ يِقولونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}.
[الواقعة: 41- 47] الآية، لأن تنعمهم في الدنيا المكور في قول {مُتْرَفِينَ}، وإنكارهم للبعث المذكور في قوله: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} الآية. دليل على عدم إشفاقهم في الدنيا، وهو علة كونهم في سموم وحميم.
وقد قدمنا قريبًا أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، فقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}، الآية. علة لقوله: {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} الآية.
وقد ذكر جل وعلا أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه، قال تعالى في المعارج {والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27- 29]- إلى قوله: {أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج: 35]، وذكر ذلك من صفات أهل الجنة في قوله تعالى: {إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون: 57]- إلى قوله- {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]، وقد قال تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون فِي جَنَّاتِ النعيم} [الواقعة: 10- 12].
وقوله في آية الواقعة المذكورة: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم}، أي يديمون ويعزمون على الذنب الكبير، كالشرك وإنكار البعث، وقيل المراد بالحنث: حنثهم في اليمين الفاجرة كما في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوت} [النحل: 38]. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في البر والبر:
وقد ورد في القرآن على أَربعة عشر وجهًا:
الأَوّل:- أَعنى البَرّ- بالفتح- خمس.
الأَوّل: بمعنى الحَقّ- جَلّ اسمه وعلا- {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}.
الثَّانى: بمعنى الصّحراءِ ضدّ البَحْر: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}.
{وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ}.
الثالث: في مدح يحيى بن زكريا {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ}.
الرّابع: في المسيح عيسى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}.
الخامس: في ساكنى مَلَكوت السّماءِ: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ}.
وأَما البِرّ- بالكسر- فأَربعة:
الأَوّل بمعنى البارّ: {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أي البارّ.
الثانى: بمعنى الخير: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}.
الثَّالث: بمعنى الطَّاعة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ}.
الرّابع: بمعنى تصديق اليمين: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ}.
وقد جاءَ بمعنى صلة الرّحم {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} أي تصلوا أَرحامكم.
والأَبرار مذكور في خمسة مواضع:
الأَوّل: في صفة الأَخيار، في جوار الغفَّار: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}.
الثانى: في صفة نظارتهم على غُرَف دار القرار: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ}.
الثالث: في مجلس أُنْسهم، وجاورة المصطفى، وصحابته الأَخيار: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}.
الرّابع: في تقريرهم في قُبّة القُرْبَة من الله الكريم الستَّار: {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}.
الخامس: في مرافقة بعضم بعضًا يوم الرحيل إِلى دار القرار {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ}.
وأَصل الكلمة ومادّتها- أَعنى (ب ر ر)- موضوعة (لخلاف البحر)، وتُصوّر منه التوسّع، فاشتُقّ منه البِرّ أي التوسّع في فعل الخير.
وينسب ذلك تارة إِلى الله تعالى في نحو {إِنَّه هُو البرُّ الرَّحيمُ}، وإِلى العبد تارة، فيقال: برّ العبدُ ربّه، أي توسّع في طاعته.
فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعةُ.
وذلك ضربان: ضرب في الاعتقاد، وضرب في الأَعمال.
وقد اشتمل عليهما قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} الآية (وعلى هذا ما روى أَنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البرّ فتلا هذه الآية) فإِن الآية متضمّنة للاعتقاد، ولأَعمال الفرائض، والنَّوافل.
وبِرّ الوالدين: التَّوسُّع في الإِحسان إِليهما.
ويستعمل البِرّ في الصدق لكونه بعضَ الخير.
ويقال: برّ في قوله، وفى يمينه، وحَجّ مبرورُ: مقبول.
وجمع البارّ أَبرار، وبَرَرة.
وخصّ الملائكة بالبَرَرة من حيث إِنَّه أَبلغ من الأَبرار؛ فإِنه جمع بَرّ.
والأَبرار جمع بَارٍّ، وبرٌّ أَبلغ من بارّ؛ كما أَنَّ عَدْلًا أَبلغ من عادل.
والبُرّ معروف وتسميته بذلك لكونه أَوسع ما يُحتاج إِليه في الغذاءِ. اهـ.

.تفسير الآيات (29- 34):

قوله تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقولونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقولونَ تَقولهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا مع تشويقه إلى الجنة والأعمال الموصله إليها وعظًا يرقق القلوب ويجلي الكروب، سبب عنه قوله: {فذكر} أي جدد التذكير بمثل هذا لكل من يرجو خيره ودم على ذلك، وسماه تذكيرًا لأنه مما يعلمه الإنسان إذا أمعن النظر من نفسه أو من الآفاق، وعلل التذكير بقوله: {فما أنت} أي وأنت أشرف الناس عنصرًا وأكملهم نفسًا وأزكاهم خلائق هم بها معترفون لك قبل النبوة {بنعمت ربك} أي بسبب ما أنعم به عليك المحسن إليك من هذا الناموس الأعظم بعد تأهيلك له بما هيأك به من رجاحة العقل وعلو الهمة وكرم الفعال وجود الكف وطهارة الأخلاق وشرف النسب، وأكد النفي بقوله: {بكاهن} أي تقول كلامًا- مع كونه سجعًا متكلفًا- أكثره فارغ وتحكم على المغيبات بما يقع خلاف بعضه.
ولما كان للكاهن والمجنون اتصال بالجن، أتبع ذلك قوله: {ولا مجنون} أي تقول كلامًا لا نظام له مع الإخبار ببعض المغيبات، فلا يفترك قولهم هذا عن التذكير فإنه قول باطل لا تلحقك به معرة أصلًا؛ وعما قليل يكون عيبًا لهم لا يغسله عنهم إلا اتباعهم لك، فمن اتبعك منهم غسل عاره، ومن استمر على عناده استمر تبابه وخساره.
ولما كانت نسبته صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من هذا القرآن الآمر بالحكمة إلى أنه أتى به عن الجن الذين طبعهم الفساد مما لا ينبغي أن يتخيله أحد فضلًا أن يقوله له صلى الله عليه وسلم، ولا يكاد يصدق أن أحدًا يرميه به، فكان في طيه سؤال تقريع وتوبيخ، نبه على ذلك بالعطف على ما تقديره: أيقولون هذا القول البعيد من أقوال أهل العقول: {أم يقولون} ما هو أعجب في مجرد قوله فضلًا عن تكريره، فأم معادلة للاستفهام قبلها لا مقطوعة، وكذا جميع ما بعدها وهو معنى ما نقله البغوي عن الخليل أنه قال: ما في سورة الطور من ذكر {أم} كله استفهام وليس بعطف.
{شاعر} يقول كلامًا موزونًا بالقصد، يلزمه التكلف لذلك فيغلب إلزام الوزن قائله حتى يجعل اللفظ هو الأصل ويجعل المعنى تابعًا له، فيأتي كثير من كلامه ناقص المعاني هلهل النسج مغلوبًا فيه على أمره معترفًا إذا وقف عليه بتقصيره متعذرًا مما زانه بهزعم من أوزانه، وساق سبحانه هذا وكذا ما بعده من الأقسام على طريق الاستفهام مع أن نسبتها إليهم محققة، تنبيهًا على أن مثل هذا لا يقوله عاقل، وإن قاله أحد لم يكد الناقل عنه يصدق: {نتربص} أي ننتظر {به ريب المنون} أي حوادث الدهر من الموت وغيره القاطعة، من المن وهو القطع.