فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {أم يقولون شاعر} الآية، روي أن قريشًا اجتمعت في دار الندوة فكثرت آراؤهم في محمد صلى الله عليه وسلم حتى قال قائل منهم: {تربصوا به ريب المنون} فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى وغيرهم، فافترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية في ذلك، والتربص: الانتظار ومنه قول الشاعر: الطويل:
تربص بها ريب المنون لعلها ** تطلق يومًا أو يموت حليلها

وأنشد الطبري: الطويل:
لعلها سيهلك عنها زوجها أو ستجنح

وقوله تعالى: {قل تربصوا} وعيد في صيغة أمر، و: {المنون} من أسماء الموت، وبه فسر ابن عباس، ومن أسماء الدهر أيضًا، وبه فسر مجاهد وقال الأصمعي: {المنون} واحد لا جمع له وقال الأخفش: هو جمع لا واحد له.
قال القاضي أبو محمد: والريب هنا: الحوادث والمصائب، لأنها تريب من نزلت به ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ابنته فاطمة حين ذكر أن عليًا يتزوج بنت أبي جهل: «إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها». يقال أراب وراب، ومنه: الطويل:
فقد رابني منها الغداة سفورها

وقوله الآخر: المتقارب:
وقد رابني قولها يا هناه

وأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتوعدهم بقوله: {قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} وقوله تعالى: {بهذا} يحتمل أن يشير إلى هذه المقالة: هو شاعر، ويحتمل أن يشير إلى ما هم عليه من الكفر وعبادة الأصنام. والأحلام: العقول. و: {أم} المتكررة في هذه الآية قدرها بعض النحاة بألف الاستفهام، وقدرها مجاهد بـ (بل). والنظر المحرر في ذلك أن منها ما يتقدر ببل، والهمزة على حد قول سيبويه في قولهم: إنها لا بل أم شاء، ومنها ما هي معادلة، وذلك قوله: {أم هم قوم طاغون}.
وقرأ مجاهد: {بل هم قوم طاغون} وهو معنى قراءة الناس، إلا أن العبارة ب {أم} خرجت مخرج التوقيف والتوبيخ. وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال: ما في سورة (الطور) من {أم} كله استفهام وليست بعطف. و: {تقوله} معناه: قال عن الغير إنه قاله. فهي عبارة عن كذب مخصوص. ثم عجزهم تعالى بقوله: {فليأتوا بحديث مثله} والمماثلة المطلوبة منهم هي في النظم والرصف والإيجاز.
واختلف الناس هل كانت العرب قادرة على الإتيان بمثل القرآن قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، فقال شداد: يسمون أهل الصرفة كانت قادرة وصرفت، وقال الجمهور: لم تكن قط قادرة ولا في قدرة البشر أن يأتي بمثله.
لأن البشر لا يفارق النسيان والسهو والجهل والله تعالى محيط علمه بكل شيء. فإذا ترتبت اللفظة في القرآن، علم بالإحاطة التي يصلح أن تليها ويحسن معها المعنى وذلك متعذر في البشر، والهاء في {مثله} عائدة على القرآن.
وقرأ الجحدري {بحديثِ مثلِه} بإضافة الحديث إلى مثل. فالهاء على هذا عائدة على محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء} قال الطبري معناه: أم خلقوا خلق الجماد من غير حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كما هي الجمادات عليه. وقال آخرون معناه: خلقوا لغير علة ولا لغير عقاب ولا ثواب. فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون. وهذا كما تقول: فعلت كذا وكذا من غير علة، أي لغير علة. ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم: أهم الذين خلقوا الأشياء؟ فهم لذلك يتكبرون، ثم خصص من الأشياء {السماوات والأرض} لعظمها وشرفها في المخلوقات، ثم حكم عليهم بأنهم {لا يوقنون} ولا ينظرون نظرًا يؤديهم إلى اليقين.
قوله تعالى: {أم عندهم خزائن ربك} بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء عن الله في جميع الأمور، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله كلها. قال الزهراوي وقيل يريد بـ (الخزائن): العلم، وهذا قول حسن إذا تأمل وبسط. وقال الرماني: خزائنه تعالى: مقدوراته، و: (المصيطر) المسلط القاهر، وبذلك فسر ابن عباس وأصله السين، ولكن كتبه بعض الناس. وقرأه بالصاد مراعاة للطاء ليتناسب النطق. وحكى أبو عبيدة: تسيطرت علي إذا اتخذتني خولًا. والسلم: السبب الذي يصعد به كان ما كان من خشب أو بناء أو حبال. ومنه قول ابن مقبل: البسيط:
لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا ** تبنى له في السماوات السلاليم

وحكى الرماني قال: لا يقال سلم لما يبنى من الأدراج، وإنما السلم المشبك، وبيت الشعر يرد عليه، والمعنى: ألهم {سلم} إلى السماء {يستمعون فيه} أي عليه ومنه، وهذه حروف يسد بعضها مسد بعض، والمعنى: يستمعون الخبر بصحة ما يدعونه فليأتوا بالحجة المبينة في ذلك وقوله تعالى: {أم له البنات} الآية، معناه: أم هم أهل الفضيلة علينا فيلزم لذلك انتخاؤهم وتكبرهم، ثم قال تعالى: {أم تسألهم} يا محمد على الإيمان بالله وشرعه أجرة يثقلهم غرمها فهم لذلك يكرهون الدخول فيما يوجب غرامتهم ثم قال تعالى: {أم عندهم} علم {الغيب} فهم يبينون ذلك للناس سننًا وشرعًا يكتبونه وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم. وقيل المعنى: فهم يعلمون متى يموت محمد الذي يتربصون به، و: {يكتبون} بمعنى يحكمون، وقال ابن عباس: يعني أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون به. ثم قال تعالى: {أم يريدون كيدًا} بك وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنهم {هم المكيدون}، أي المغلوبون، فسمى غلبتهم {كيدًا} إذ كانت عقوبة الكيد. ثم قال تعالى: {أم لهم إله غير الله} يعصمهم ويمنعهم منهم ويدفع في صدر إهلاكهم. ثم نزه تعالى نفسه {عما يشركون} به من الأصنام والأوثان، وهذه الأشياء التي وقفهم تعالى عليها حصرت جميع المعاني التي توجب الانتخاء والتكبر والبعد من الائتمار، فوقفهم تعالى عليها أي ليست لهم ولا بقي شيء يوجب ذلك إلا أنهم قوم طاغون. وهذه صفة فيها تكسبهم وإيثارهم فيتعلق بذلك عقابهم. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{إِنَّ المتقين في جنات وَنَعِيمٍ} أي فِي آية جناتٍ وأيِّ نعيمٍ عَلى أنَّ التنوينَ للتفخيمِ أوْ في جناتٍ ونعيمٍ مخصوصةٍ بالمتقينَ عَلى أنَّه للتنويعِ {فاكهين} ناعمينَ متلذذينَ {بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} وَقرئ {فكهينَ} و{فاكهونَ} على أنَّه الخبرُ والظرفُ لغوٌ متعلقٌ بالخبرِ أوْ خبرٌ آخرُ {ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} عطفٌ عَلى آتاهُم عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ أوْ عَلى خبرِ إنَّ، أوْ حالٌ بإضمارِ قَدْ إمَّا منَ المستكن في الخبرِ أو في الحال وإمَّا من فاعلِ أَتي أوْ منْ مفعولِه أو منهُما، وإظهارُ الربِّ في موقعِ الإضمارِ مضافًا إلى ضميرِهم للتشريفِ والتعليلِ {كُلُواْ واشربوا} أيْ يقال لَهُم كُلوا واشربُوا أكلًا وشربًا {هَنِيئًَا} أوْ طعامًا وشرابًا هنيئًا وهُو الذَّي لا تنغيضَ فيهِ {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بسببِه أو بمقابلتِه، وقيلَ: الباءُ زائدةٌ ومَا فاعلُ هنيئًا أيْ هَناكُم مَا كنتُم تعملونَ أي جزاؤُه {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} مصطّفةٍ {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} وقرئ {بحورِ عينٍ} على إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه بالتأويلِ المشهورِ وقرئ {بعينٍ عينٍ}، والباءُ معَ أن التزويجَ مما يتعدى إلى مفعولينِ لما فيهِ من مَعْنى الوصلِ والإلصاقِ أو للسببيةِ إذْ المَعْنى صيَّرناهُم أزواجًا بسببِهن فإنَّ الزوجيةَ لا تتحققُ بدونِ انضمامِهن إليهمْ وقوله تعالى: {والذين ءامَنُواْ} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ حالِ طائفةٍ من أهلِ الجنةِ إثرَ بيانِ حالِ الكُلِّ وهُم الذينَ شاركتْهم ذريتُهم في الإيمانِ وهُوَ مبتدأٌ خبرُه ألحقنا بِهم وقوله تعالى: {واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم} عطفٌ على آمنُوا وقيل: اعتراضٌ وقوله تعالى: {بإيمان} متعلقٌ بالاتّباعِ أيْ اتبعتْهم ذريتُهم بإيمانٍ في الجُملةِ قاصرٍ عن رتبةِ إيمانِ الآباءِ، واعتبارُ هذا القيدِ للإيذانِ بثبوتِ الحكمِ في الإيمانِ الكامل أصالةً لا إلحاقًا وقرئ {ذرياتُهم} للمبالغةِ في الكثرةِ وذِرياتهم بكسرِ الذالِ وقرئ {وأتبعناهُم ذرياتِهم} أي جعلناهُم تابعينَ لهم في الإيمانِ وقرئ {أتبعْتُهم} {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} أيْ في الدرجةِ كَما رُوي أنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسلام قال: «إنَّه تعالى يرفعُ ذريةَ المؤمنِ في درجتهِ وإنْ كانُوا دونَهُ لتقرَّ بهم عينُه ثم تلاَ هذهِ الآيةَ» {وَمَا ألتناهم} وما نقصنَا الآباءَ بهذَا الإلحاقِ {مّنْ عَمَلِهِم} منْ ثوابِ عملهم {مِن شَىْء} بأنْ أعطينَا بعضَ مثوباتِهم أبناءَهُم فتنقصَ مثوبتُهم وتنحطَّ درجتُهم وإنما رفعناهُم إلى منزلتِهم بمحضِ التفضلِ والإحسانِ وقرئ {ألِتْنَاهُم} بكسرِ اللامِ من ألِتَ يألَتُ كعِلم يعلمَ والأولُ كضرَبَ يضرِبُ ولِتناهُم منْ لاَت يليتُ وآلتناهُم من آلَتَ يُؤُلِتُ ووَلَتْناهُم منْ وَلَتْ يَلِتُ والكلُّ بمَعْنى واحدٍ.
هَذا وقدْ قيلَ الموصولُ معطوفٌ على حُورٍ، والمَعْنى قرنَّاهُم بالحورِ وبالذينَ آمنُوا أيْ بالرفقاءِ والجلساءِ منُهم فيتمتعونَ تارةً بملاعبة الحُورِ وأُخرى بؤانسةِ الإخوانِ المؤمنينَ.
وقوله تعالى واتبعتُهم عطفٌ على زوجناهُم وقوله تعالى بإيمانٍ متعلقٌ بما بعدَهُ أي بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ ألحقنا بدرجاتِهم ذريَّتهم وإنْ كانُوا لا يستأهلونَها تفضلًا عليهم وعلى آبائِهم ليتِمَّ سرورُهم ويكملَ نعيمُهم أو بسببِ إيمانٍ دانِي المنزلةِ وهو إيمانُ الذريةِ كأنه قيلَ: بشيءٍ من الإيمانِ لا يؤهلُهم لدرجةِ الآباءِ ألحقناهُم بهمْ {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} قيلَ: هو فعيلٌ بمَعْنى مفعولٍ والمَعْنى كلُّ امرىءٍ مرهونٌ عندَ الله تعالى بالعملِ الصالحِ فإنْ عمِلَه فكَّه وإلا أهلكه وقيلَ: بمعنى الفاعلِ والمَعْنى كلُّ امرىءِ بما كسبَ راهنٌ أيْ دائمٌ ثابتٌ وهَذا أنسبُ بالمقامِ فإن الدوامَ يقتضِي عدمَ المفارقةِ بينَ المرءِ وعمله ومن ضرورتِه أنْ لا ينقصَ من ثوابِ الآباءِ شيءٌ فالجملةُ تعليلٌ لما قَبْلها.
{وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ}.
وزدناهُم عَلى ما كانَ لَهُم منْ مبادِي التنعمِ وقتًا فوقتًا ما يشتهونَ من فنونِ النعماءِ وألوانِ الآلاءِ {يتنازعون فِيهَا} أي يتعاطَون فيها هُم وجلساؤُهم بكمالِ رغبةٍ واشتياقٍ كما ينبىءُ عنه التعبيرُ عن ذلكَ بالتنازع {كَأْسًا} أي خمرًا تسميةً لَها باسمِ محلِّها {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} أيْ في شُربها حيثُ لا يتكلمونَ في أثناءِ الشربِ بلغوِ الحديثِ وسقَطِ الكلامِ {وَلاَ تَأْثِيمٌ} ولا يفعلونَ ما يؤثمُ به فاعلُه أي ينسبُ إلى الإثمِ لو فعَلُه في دارِ التكليفِ كما هو ديدنُ المنادمينَ في الدُّنيا وإنما يتكلمونَ بالحِكمِ وأحاسنِ الكلامِ ويفعلونَ ما يفعلُه الكرامُ، وقرئ {لا لغوَ فيها ولا تأثيمَ} بالفتح {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي بالكأسِ {غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي مماليكُ مخصوصونَ بهم وقيلَ: هم أولادُهم الذين سبقوهُم {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} مصونٌ في الصَّدفِ من بياضِهم وصفائِهم أو مخزونٌ لأنه لا يخزنُ إلا الثمينُ الغالِي القيمةِ. قيلَ لقَتَادة: هذا الخادمُ فكيفَ المخدومُ؟ فقال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيدهِ إنَّ فضلَ المخدومِ على الخادمِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ». وعنه عليه الصَّلاةُ والسلام: إنْ «أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً منْ يُنادي الخادمَ من خدامِه فيجيبُهُ ألفٌ ببابِه لبيكَ لبيكَ» {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} أيْ يسألُ كلُّ بعضٍ منهم بعضًا آخرَ عنْ أحوالِه وأعمالِه فيكونُ كلُّ بعضٍ سائلًا ومسؤولًا لا أنه يسألُ بعضٌ معينٌ منهم بعضًا آخرَ معينًا.
{قالواْ} أي المسؤولونَ وهم كلُّ واحدٍ في الحقيقةِ {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أي في الدُّنيا {فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أرقاءَ القلوبِ خائفينَ من عصيانِ الله تعالى معتنين بطاعتِه أو وجلين من العاقبةِ {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا} بالرحمةِ أو التوفيقِ للحقِّ {ووقانا عَذَابَ السموم} عذابَ النارِ النافذةِ في المسامِّ نفوذَ السمومِ وقرئ {ووقَّانا} بالتشديدِ {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} أيْ نعبدُه أو نسألُه الوقايةَ {إِنَّهُ هُوَ البر} المحسنُ {الرحيم} الكثيرُ الرحمةِ الذي إذا عُبدَ أثابَ وإذا سُئلَ أجابَ وقرئ {أنَّه} بالفتحِ بمَعْنى لأَنَّه {فَذَكّرْ} فاثبُت على ما أنتَ عليهِ من التذكيرِ لما أُنزلَ إليك من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ ولا تكترثْ بما يقولونَ مما لا خيرَ فيه من الأباطيل.
{فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ} بحمدِه وإنعامِه بصدقِ النبوةِ ورجاحةِ العقلِ {بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ} كما يقولونَ قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون {أَمْ يَقولونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} وهو ما يقلقُ النفوسَ ويشخصُ بَها من حوادثِ الدهرِ وقيلَ: المنونُ الموتُ وهو في الأصلِ فَعُولٌ مَنَّه مَه إذا قطَعُه لأنَّ الموتَ قطوعٌ أي بلَ أيقولونَ ننتظرُ به نوائبَ الدهرِ {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين} أتربصُ هلاككُم كما تتربصونَ هلاكيَ وفيه عِدةٌ كريمةٌ بإهلاكِهم {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم} أي عقولهم {بهذا} أي بهذا التناقضِ في المقال فإن الكاهنَ يكونُ ذا فطنةٍ ودقةٍ نظرِ في الأمورِ والمجنونَ مُغطى عقلُه مختلٌّ فكرُهُ والشاعرَ ذُو كلامٍ موزونٍ متسقٍ مخيلٍ فكيفَ يجتمعُ أوصافُ هؤلاءِ في واحدٍ. وأمرُ الأحلامِ بذلكَ مجازٌ عن أدائِها إليهِ {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} مجاوزونَ الحدودَ في المكابرةِ والعنادِ لا يحومونَ حولَ الرشدِ والسَّدادِ، ولذلك يقولونَ ما يقولونَ من الأكاذيبِ الخارجةِ عن دائرةِ العقول والظنونِ وقرئ {بَلْ هُمْ} {أَمْ يَقولونَ تَقولهُ} أي اختلقَهُ من تلقاءِ نفسِه {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} فلكفرهم وعنادِهم يرمونَ بهذه الأباطيل التي لا يخفى على أحدٍ بطلانُها، كيف لا وما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا واحدٌ من العربِ فكيف أتى بما عجزَ عنه كافةٌ الأممِ من العربِ والعجمِ.
{فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ} مثلِ القرآن في النعوتِ التي استقلَّ بها من حيثُ النظمُ ومن حيثُ المَعْنى {إِن كَانُواْ صادقين} فيما زعمُوا فإنَّ صدقَهم في ذلكَ يستدعي قدرتَهم على الإتيانِ بمثله بقضيةِ مشاركتِهم لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام في البشريةِ والعربيةِ مع ما بهم من طولِ الممارسةِ للخطبِ والأشعارِ وكثرةِ المزاولةِ لأساليبِ النظمِ والنثرِ والمبالغةِ في حفظِ الوقائعِ والأيامِ، ولا ريبَ في إن القدرةَ على الشيءِ منْ موجباتِ الإتيانِ به ودواعِي الأمرِ بذلكَ {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء} أي أمْ أُحدِثُوا وقُدِّروا هذا التقديرَ البديعَ من غيرِ محدِثٍ ومقدّرٍ؟ وقيل: أم خُلقوا من أجلِ لا شيءٍ من عبادةٍ وجزاءٍ {أَمْ هُمُ الخالقون} لأنفسِهم فلذلك لا يعبدون الله سبحانه {أَمْ خَلَقُواْ السموات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أي إذا سئلوا منْ خلقكم وخلق السمواتِ والأرضَ قالوا الله وهم غيرُ موقنينَ بما قالوا وإلا لما أعرضُوا عن عبادتِه {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ} أي خزائنُ رزقِه ورحمتِه حتى يرزُقوا النبوةَ من شاءُوا ويُمسكوها عمَّن شاءُوا، أو عندَهم خزائنُ علمِه وحكمتِه حتى يختارُوا لها من اقتضتِ الحكمةُ اختيارَهُ {أَمْ هُمُ المسيطرون} أي الغالبونَ على الأمورِ يدبرونَها كيفما شاءُوا حتى يدبروا أمرَ الربوبيةِ ويبنوا الأمورَ على إرادتِهم ومشيئتِهم، وقرئ {المصيطرونَ} بالصادِ لمكانِ الطاءِ {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} منصوبٌ إلى السماءِ {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} صاعدينَ إلى كلامِ الملائكةِ وما يوحَى إليهم من علمِ الغيبِ حتى يعلمُوا ما هو كائنٌ من الأمورِ التي يتقولونَ فيها رجمًا بالغيبِ ويعلقونَ بها أطماعَهُم الفارغةَ {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ} بحجةٍ واضحةٍ تصدّق استماعَه.
{أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} تسفيهٌ لهم وتركيكٌ لعقولهم وإيذانٌ بأنَّ من هذا رأيُه لا يكادُ يعدُّ من العقلاءِ فضلًا عن الترقِّي إلى عالمِ الملكوتِ والتطلعِ على الأسرارِ الغيبيةِ. والالتفاتُ إلى الخطابِ لتشديدِ ما في أمِ المنقطعةِ من الإنكارِ والتوبيخِ.
{أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا} رجوعٌ إلى خطابِه عليهِ الصَّلاةُ والسلام وإعراضٌ عنْهُم أي بلْ أتسألُهم أجرًا على تبليغِ الرسالةِ {فَهُمُ} لذلكَ {مّن مَّغْرَمٍ} من التزامِ غرامةٍ فادحةٍ {مُّثْقَلُونَ} محمّلونَ الثقلَ فلذلكَ لا يتبعونكَ.
{أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي اللوحُ المحفوظُ المُثبَتُ فيه الغيوبُ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه حتَّى يتكلمُوا في ذلكَ بنفىٍ أو إثباتٍ {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} هو كيدُهم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم في دارِ الندوةِ {فالذين كَفَرُواْ} هم المذكورونَ، ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهم بما في حيزِ الصلةِ من الكفرِ وتعليلِ الحكمِ به، أو جميعُ الكفرةِ وهم داخلونَ فيهم دخولًا أوليًا {هُمُ المكيدون} أي هُم الذينَ يحيقُ بهم كيدُهم أو يعودُ عليهم وبالُه لا مَنْ أرادُوا أنْ يكيدُوه وهو ما أصابَهُم يومَ بدرٍ أو هُم المغلوبونَ في الكيدِ من كايدتُه فكِدتُه {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله} يعينُهم ويحرسُهم من عذابِه {سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أيْ عن إشراكِهم أو عن شركِة ما يُشركونَهُ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي: