فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا ونظم الآيات من قوله تعالى: {أَمْ يَقولونَ شَاعِرٌ} إلى قوله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله} [الطور: 30 43] الخ فيه غرابة ولم أر أحدًا كشف عن لثامه ك (صاحب الكشف) جزاه الله تعالى خيرًا، ولغاية حسنه وكونه مما لا مزيد عليه أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار مّا، فأقول: قال: أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى: {بَلْ قالواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] أحدهما: أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه، والثاني: أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاءًا لتكذيبهم بالمنبىء والنبأ والمنبأ به، فالمتعين هو الثاني، ووجهه والله تعالى أعلم أن قوله: {فَذَكّرْ} [الطور: 29] معناه إذ ثبت كون العذاب واقعًا وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفًا في هذه الدار، ومنزلة ورفعة في دار القرار، ومن قوله تعالى: {فَمَا أَنتَ} إلى قوله سبحانه: {هُمُ المكيدون} [الطور: 29 42] تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي، وقوله سبحانه: {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ} [الطور: 29] الخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولًا على فساد آرائهم ويجعله دستورًا في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأيًا وأرجحهم عقلًا وأبينهم آيًا منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إمامًا متبعًا عندهم فأين الكهانة من الجنون، ثم ترقى مضربًا إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقدمًا قيل: أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم، وقوله تعالى: {قُلْ تَرَبَّصُواْ} [الطور: 31] من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولًا تلويحًا بقوله تعالى: {بِنِعْمَةِ رَبّكَ} وثانيًا تصريحًا بقوله جل وعلا: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم} [الطور: 32] كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة، ثم قيل: لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز وجل فقد باء بغضبه، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراءًا وعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر في الأحقاف ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته، ثم قد يكون شعره حكمًا ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار، والتدرج عن الشعر هاهنا عكس التدرج إليه في الأنبياء لأن بناء الكلام هاهنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل: إن افتراءه لا يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءآت كثيرة، وأين هذا من ذاك؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الإضراب في الرد فقيل: {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} [الطور: 33] وعقب بقوله تعالى: {فَلْيَأْتُواْ} [الطور: 34] ثم من لا يؤمن أشد إنكارًا له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما، ثم الشعر، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السموات والأرض وما بينهما فهو ينسبه إلى الافتراء حيث لم يرسله، ثم أضرب صريحًا عنه بقوله تعالى: {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} [الطور: 36] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بما زن، فكأنه قيل: مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارًا لتماديهم في العناد، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لابد أن يكون مفتريًا غير صالح للنبوة في زعمهم، فالأول: لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث أن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته، والثاني: يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريًا ألبتة، وأدمح فيه إنكارهم للمعاد، ونسبتهم إياه صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضًا خاصة إلى الافتراء، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} [الطور: 41] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضًا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى: {أَمْ هُمُ المسيطرون} [الطور: 37] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبين فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل: لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم، وقيل: بل {لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ} [الطور: 83] وذيل بقوله تعالى: {أَمْ لَهُ البنات} [الطور: 39] إشعارًا بأن من جعل خالقه أدون حالًا منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما، ثم قيل: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْرًا} [الطور: 40] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرًا مالًا، أو جاهًا، أو ذكرًا، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث، ثم قيل: {أَمْ عِندَهُمُ الغيب} [الطور: 41] على معنى بل أعندهم اللوم فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضًا إدماجًا عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} [الطور: 38] فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز إلى الأخير، ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاءًا لحق الإعجاز، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضًا لأن العلم أشمل موردًا من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث أنهم لم يرسلوه، وهذا من تلك الحيثية، ومن حيث أنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضًا مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصدًا أوليًا، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الاخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدًا فهم ينصبون لك الحبائل قولا وفعلًا لا يقفون على هذه المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولا وفعلًا وحجة وسيفًا، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله} [الطور: 43] فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إليه غيره، ومنه يظهر أن حمل {الذين كفروا} [الطور: 42] على المريدين به كيدًا أظهر في هذا المساق انتهى، وكأن ما بعد تأكيدًا لأمر طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية، ويعلم مما ذكره لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة أن {أَمْ} في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية، والإضراب هاهنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء، وكثير من المفسرين، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم.
ومما ذكروه من باب الإشارة في بعض الآيات: {والطور} [الطور: 1] إشارة إلى قالب الإنسان {وكتاب مُّسْطُورٍ} [الطور: 2] إشارة إلى سره {فِى رَقّ مَّنْشُورٍ} إشارة إلى قلبه {البيت المعمور} [الطور: 4] إشارة إلى روحه {والسقف المرفوع} [الطور: 5] إشارة إلى صفته {والبحر المسجور} [الطور: 6] إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر، وقيل: الطور إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك والكتاب المسطور في الرق المنشور إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائف الآفاق {والبيت المعمور} إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص {والسقف المرفوع} إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة {والبحر المسجور} إشارة إلى بحث القدرة المملوء من أنواع المقدورات التي لا تتناهى، وقيل: إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون، ووصفه بالمسجور إما لأنه مملوء منهم، وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عز وجل، وقيل: غير ذلك {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الذي هُمْ فِيهِ خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور: 11، 12] أي يخوضون في غمران البحر اللجي الدنيوي ويلعبون فيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الاكدار المتحلين بالأنوار إذ أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك {فاكهين بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ} مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر {ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} [الطور: 18] وهو عذاب الحجاب {كُلُواْ} من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية {واشربوا} [الطور: 19] من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] أي مقام العبودية {وَمِنَ الليل فَسَبّحْهُ} أي عند نزول السكينة عليك {وإدبار النجوم} [الطور: 94] أي عند ظهور نور شمس الوجه، وتسبيحه سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقولوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)}.
عطف على جملة {أم يقولون شاعر} [الطور: 30] وما بعدها من الجمل الحالية لأقوالهم بمناسبة اشتراك معانيها مع ما في هذه الجملة في تصوير بهتانهم ومكابرتهم الدالة على أنهم أهل البهتان فلو أُرُوا كسفًا ساقطًا من السماء وقيل لهم: هذا كسف نازل كابروا وقالوا هو سحاب مركوم.
فيجوز أن يكون {كِسْفًا} تلويحًا إلى ما حكاه الله عنهم في سورة الإِسراء (90 92) {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا} إلى قوله: {أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا} وظاهر ما حكاه الطبري عن ابن زيد أن هذه الآية نزلت بسبب قولهم ذلك، وإذ قد كان الكلام على سبيل الغرض فلا توقف على ذلك.
والمعنى: إن يروا كسفًا من السماء مما سألوا أن يكون آية على صدقك لا يذعنوا ولا يؤمنوا ولا يتركوا البهتان بل يقولوا: هذا سحاب، وهذا المعنى مروي عن قتادة.
وهو من قبيل قوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} [الحجر: 14، 15].
والكِسف بكسر الكاف: القطعة، ويقال: كسفة.
وقد تقدم في سورة الإِسراء.
و {من السماء} صفة ل {كسفًا}، و{من} تبعيضية، أي قطعة من أجزاء السماء مثل القطع التي تسقط من الشهب.
والمركوم: المجموع بعضه فوق بعض يقال: ركمه ركمًا، وهو السحاب الممطر قال تعالى: {ثم يجعله ركامًا} [النور: 43].
والمعنى: أن يقع ذلك في المستقبل يقولوا سحاب، وهذا لا يتقضي أنه يقع لأن أداة الشرط إنما تقتضي تعليق وقوع جوابها على وقوع فعلها لو وقع.
ووقع {سحاب مركوم} خبرًا عن مبتدأ محذوف، وتقديره: هو سحاب وهذا سحاب.
والمقصود: أنهم يقولون ذلك عنادًا مع تحققهم أنه ليس سحابًا.
ولكون المقصود أن العناد شيمتهم فرع عليه أن أمر الله رسول صلى الله عليه وسلم بأن يتركهم، أي يترك عرض الآيات عليهم، أي أن لا يسأل الله إظهار ما اقترحوه من الآيات لأنهم لا يقترحون ذلك طلبًا للحجة ولكنهم يكابرون، قال تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97].
وليس المراد ترك دعوتهم وعرض القرآن عليهم.
ويجوز أن يكون الأمر في قوله: {فذرهم} مستعملًا في تهديدهم لأنهم يسمعونه حين يقرأ عليهم القرآن كما يقال للذي لا يرعوي عن غيه: دعه فإنه لا يقلع.
وأفادت الغاية أنه يتركهم إلى الأبد لأنهم بعد أن يصعقوا لا تُعاد محاجتهم بالأدلة والآيات.
وقرأ الجمهور {يلاقوا}.
وقرأه أبو جعفر {يَلْقوا} بدون ألف بعد اللام.
واليوم الذي فيه يصعقون هو يوم البعث الذي يصعق عنده من في السماوات ومن في الأرض.
وإضافة اليوم إلى ضميرهم لأنهم اشتهروا بإنكاره وعرفوا بالذين لا يؤمنون بالآخرة.
وهذا نظير النسب في قول أهل أصول الدين: فلان قدري، يريدون أنه لا يؤمن بالقدر.
فالمعنى بنسبته إلى القدر أنه يخوض في شأنه، أو لأنه اليوم الذي أوعدوه، فالإِضافة لأدنى ملابسة.
ونظيره قوله تعالى: {وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون} [الأنبياء: 103].
والصعق: الإِغماء من خوف أو هلع قال تعالى: {وخر موسى صعقًا} [الأعراف: 143]، وأصله مشتق من الصاعقة لأن المصاب بها يُغمى عليه أو يموت، يقال: صَعِق، بفتح فكسر، وصُعِق بضم وكسر.
وقرأه الجمهور {يصعقون} بفتح المثناة التحتية، وقرأه ابن عامر وعاصم بضم المثناة.
وذلك هو يوم الحشر قال تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه} [الزمر: 68]، وملاقاتهم لليوم مستعارة لوقوعه، شُبه اليوم وهو الزمان بشخص غائب على طريقة المكنية وإثباتُ الملاقاة إليه تخييل.
والملاقاة مستعارة أيضًا للحلول فيه، والإتيان بالموصول للتنبيه على خطئهم في إنكاره.
و {يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئًا} بدل من {يومهم} [الطور: 45] وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى مُعرب.
والإِغناء: جعل الغير غنيًا، أي غير محتاج إلى ما تقوم به حاجياته، وإذا قيل: أغنى عنه.
كان معناه: أنه قام مقامه في دفع حاجة كان حقه أن يقوم بها، ويتوسع فيه بحذف مفعوله لظهوره من المقام.
والمراد هنا لا يغني عنهم شيئًا عن العذاب المفهوم من إضافة {يوم} إلى ضميرهم ومن الصلة في قوله: {الذي فيه يصعقون}.
و {كيدهم} من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما يكيدون به وهو المشار إليه بقوله: {أم يريدون كيدًا} [الطور: 42]، أي لا يستطيعون كيدًا يومئذٍ كما كانوا في الدنيا.
فالمعنى: لا كيد لهم فيغني عنهم على طريقة قول امرىء القيس:
على لاَحِبٍ لا يُهتدَى بمناره

أي لا منار له فيهتدي به.
وهذا ينفي عنهم التخلص بوسائل من فعلهم، وعطف عليه {ولا هم ينصرون} لنفي أن يتخلصوا من العذاب بفعل من يخلصهم وينصرهم فانتفى نوعا الوسائل المنجية.
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)}.
جملة معترضة والواو اعتراضية، أي وإن لهم عذابًا في الدنيا قبل عذاب الآخرة، وهو عذاب الجوع في سني القحط، وعذاب السيف يوم بدر.
وفي قوله: {للذين ظلموا} إظهار في مقام الإِضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: وإن لهم عذابًا جريًا على أسلوب قوله: {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} [الطور: 45] فخولف مقتضى الظاهر لإِفادة علة استحقاقهم العذاب في الدنيا بأنها الإِشراك بالله.
وكلمة {دون} أصلها المكان المنفصل عن شيء انفصالًا قريبًا، وكثر إطلاقه على الأقل، يقال: هو في الشرف دونَ فلان، وعلى السابق لأنه أقرب حلولًا من المسبوق، وعلى معنى (غير).
و {دون} في هذه الآية صالحة للثلاثة الأخيرة، إذ المراد عذابٌ في الدنيا وهو أقل من عذاب الآخرة قال تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} [السجدة: 21] وهو أسبق من عذاب الآخرة لقوله تعالى: {دون العذاب الأكبر}، وهو مغاير له كما هو بيّن.
ولكون هذا العذاب مستبعدًا عندهم وهم يرون أنفسهم في نعمَة مستمرة كما قال تعالى: {ليقولن هذا لي} [فصلت: 50] أُكد الخبر بـ {إنّ} فالتأكيد مراعى فيه شكهم حين يسمعون القرآن، كما دل عليه تعقيبه بقوله: {ولكن أكثرهم لا يعلمون}.
والاستدراك الذي أفادته (لكنَّ) راجع إلى مفاد التأكيد، أي هو واقع لا محالة ولكن أكثرهم لا يعلمون وقوعه، أي لا يخطر ببالهم وقوعه، وذلك من بطرهم وزهوهم ومفعول {لا يعلمون} محذوف اختصارًا للعمل به وأسند عدم العلم إلى أكثرهم دون جميعهم لأن فيهم أهْل رأي ونظر يتوقعون حلول الشر إذا كانوا في خير.
والظلم: الشرك قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] وهو الغالب في إطلاقه في القرآن.