فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)}.
{واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}.
عطف على جملة {فذرهم حتى يلاقوا يومهم} [الطور: 45] الخ، وما بينهما اعتراض وكان مفتتح السورة خطابًا للنبيء صلى الله عليه وسلم ابتداء من قوله تعالى: {إن عذاب ربك لواقع} [الطور: 7] المسوق مساق التسلية له، وكان في معظم ما في السورة من الأخبار ما يخالطه في نفسه صلى الله عليه وسلم من الكدر والأسف على ضلال قومه وبعدهم عما جاءهم به من الهدى ختمَت السورة بأمره بالصبر تسلية له وبأمره بالتسبيح وحمدِ الله شكرًا له على تفضيله بالرسالة.
والمراد بـ {حكم ربك} ما حكم به وقدره من انتفاء إجابَة بعضهم ومن إبطاء إجابة أكثرهم.
فاللام في قوله: {لحكم ربك} يجوز أن تكون بمعنى (على) فيكون لتعدية فعل {اصبر} كقوله تعالى: {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10].
ويجوز فيها معنى (إلى) أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم فيكون في معنى قوله: {واصبر حتى يحكم اللَّه} [يونس: 109] ويجوز أن تكون للتعليل فيكون {لحكم ربك} هو ما حكَم به من إرساله إلى الناس، أي اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك.
فلللام في هذا المكان موقع جامع لا يفيد غيرُ اللام مثلَه.
والتفريع في قوله: {فإنك بأعيننا} تفريع العلة على المعلول {اصبر} لأنك بأعيننا، أي بمحل العناية والكلاءة منا، نحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك فنحن نجازيك على ما تلقاه ونحرسك من شرهم وننتقم لك منهم، وقد وفى بهذا كله التمثيلُ في قوله: {فإنك بأعيننا}، فإن الباء للإِلصاق المجَازي، أي لا نغفل عنك، يقال: هو بمرأى مني ومسمع، أي لا يخفى عليّ شأنه.
وذكر العين تمثيل لشدة الملاحظة وهذا التمثيل كناية عن لازم الملاحظة من النصر والجزاء والحفظ.
وقد آذن بذلك قوله: {لحكم ربك} دون أن يقول: واصبر لحكمنا، أو لحكم الله، فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب.
وجمعُ الأعين: إما مبالغة في التمثيل كأنَّ الملاحظة بأعين عديدة كقوله: {واصنع الفلك بأعيننا} [هود: 37] وهو من قبيل {والسماء بنيناها بأييد} [الذاريات: 47].
ولك أن تجعل الجمع باعتبار تعدد متعلَّقات الملاحظة فملاحظةٌ للذب عنه، وملاحظة لتوجيه الثواب ورفع الدرجة، وملاحظة لجزاء أعدائه بما يستحقونه، وملاحظة لنصره عليهم بعموم الإيمان به، وهذا الجمع على نحو قوله تعالى في قصة نوح: {وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا} [القمر: 13، 14] لأن عناية الله بأهل السفينة تتعلّق بإجرائها وتجنيب الغرق عنها وسلامة ركابها واختيار الوقت لإِرسائها وسلامة الركاب في هبوطهم، وذلك خلاف قوله في قصة موسى {ولتصنع على عيني} [طه: 39] فإنه تعلق واحد بمشي أخته إلى آل فرعون وقولها: {هل أدلكم على من يكفله} [طه: 40].
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اليل فَسَبِّحْهُ وإدبار النجوم}.
التسبيح: التنزيه، والمراد ما يدل عليه من قول، وأشهر ذلك هو قول: (سبحان الله) وما يرادفه من الألفاظ، ولذلك كثر إطلاق التسبيح وما يشتق منه على الصلوات في آيات كثيرة وآثار.
والباء في قوله: {بحمد ربك} للمصاحبة جمعًا بين تعظيم الله بالتنزيه عن النقائص وبين الثناء عليه بأوصاف الكمال.
و {حين تقوم} وقت الهبوب من النوم، وهو وقت استقبال أعمال اليوم وعنده تتجدد الأسباب التي من أجلها أُمر بالصبر والتسبيح والحمد.
فالتسبيح مراد به: الصلاة، والقيام: جعل وقت للصلوات: إمّا للنوافل، وإما لصلاة الفريضة وهي الصبح.
وقيل: التسبيح قوله: (سبحان الله)، والقيام: الاستعداد للصلاة أو الهبوب من النوم.
وروي ذلك عن عوف بن مالك وابن زيد والضحاك على تقارب بين أقوالهم، أي يقول القائم: (سبحان الله وبحمده) أو يقول: (سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك ولا إله غيرك).
وعن عوف بن مالك وابن مسعود وجماعة: أن المراد بالقيام القيام من المجلس لما روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من جلس مجلسًا فكثر فيه لَغَظُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» ولم يذكر أنه قرأ هذه الآية.
و {من الليل} أي زمنًا هو بعض الليل، فيشمل وقت النهي للنوم وفيه تتوارد على الإنسان ذكريات مهماته، ويشمل وقت التهجد في الليل.
وقوله: {فسبحه} اكتفاء، أي واحمده.
وانتصب {وإدبار النجوم} على الظرفية لأنه على تقدير: ووقت إدبار النجوم.
والإِدبار: رجوع الشيء من حيث جاء لأنه ينقلب إلى جهة الدُبر، أي الظهر.
وإدبار النجوم: سقوط طوالعها، فإطلاق الإِدبار هنا مجاز في المفارقة والمزايلة، أي عند احتجاب النجوم.
وفي الحديث: «إذا أقبل الليل من هاهنا (الإِشارة إلى المشرق) وأدْبر النهار من هاهنا (الإِشارة إلى جهة المغرب) فقد أفطر الصائم».
وسقوط طوالعها التي تطلع: أنها تسقط في جهة المغرب عند الفجر إذا أضاء عليها ابتداء ظهور شعاع الشمس، فإدبار النجوم: وقت السحر، وهو وقت يستوفي فيه الإِنسان حظه من النوم، ويبقى فيه ميل إلى استصحاب الدَّعَة، فأمر بالتسبيح فيه ليفصل بين النوم المحتاج إليه وبين التناوم الناشىء عن التكاسل، ثم إن وجد في نفسه بعد التسبيح حاجة إلى غفوة من النوم اضطجع قليلًا إلى أن يحين وقت صلاة الصبح، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع بعد صلاة الفجر حتى يأتيه المؤذن بصلاة الصبح.
والنجوم: جمع نجم وهو الكوكب الذي يضيء في الليل غير القمر، وتقدم عند قوله تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم} في سورة النحل (12).
والآية تشير إلى أوقات الرغائب من النوافل وهي صلاة الفجر والأشفاع بعد العشاء وقيام آخر الليل.
وقيل: إشارت إلى الصلوات الخمس بوجه الإِجمال وبيّنتهُ السنة. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)}.
لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين، أمره بالتذكير، إنذارًا للكافر، وتبشيرًا للمؤمن، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات، وكان للجن بهما ملابسة للإنس.
وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط.
وقال الزمخشري: {فذكر} فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون، ولا تبال به، فإنه قول باطل متناقض.
فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله؛ وما أنت، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل، أحد هذين. انتهى.
وقال الحوفي: {بنعمة ربك} متعلق بما دل عليه الكلام، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها، والتقدير: ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن.
قال أبو البقاء: الباء في موضع الحال، والعامل في بكاهن أو مجنون، والتقدير: ما أنت كاهنًا ولا مجنونًا ملتبسًا بنعمة ربك. انتهى.
وتكون حالًا لازمة لا منتقلة، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسًا بنعمة ربه.
وقيل: {بنعمة ربك} مقسم بها، كأنه قيل: ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر، كما تقول: ما زيد والله بقائم.
ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه، ذكر نوعًا آخر مما كانوا يقولونه.
روي أن قريشًا اجتمعت في دار الندوة، وكثرت آراؤهم فيه صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائل منهم، وهم بنو عبد الدار، قاله الضحاك: تربصوا به ريب المنون، فإنه شاعر سيهلك، كما هلك زهير والنابغة والأعشى، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك.
وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك، إذ كان فيهم شعراء، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم: هو شاعر، حجدًا الآيات الله بعد استيقانها.
وقرأ زيد بن علي: يتربص بالياء مبنيًا للمفعول به، {ريب}: مرفوع، وريب المنون: حوادث الدهر، فإنه لا يدوم على حال، قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها ** تطلق يومًا أو يموت حليلها

وقال الهندي:
أمن المنون وريبها تتوجع ** والدهر ليس بمعتب من يجزع

{قل تربصوا}: هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم، كما تتربصون هلاكي.
{أم تأمرهم أحلامهم}: عقولهم بهذا، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون، وهو قول متناقض، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي.
وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله، أي لم يصحبها التوفيق.
{أم تأمرهم}، قيل: أم بمعنى الهمزة، أي أتأمرهم؟ وقدرها مجاهد ببل، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة.
{أم هم قوم طاغون}: أي مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق.
وقرأ مجاهد: بل هم، مكان: {أم هم}، وكون الأحلام آمرة مجازًا لما أدت إلى ذلك، جعلت آمرة كقوله: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا} وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال: كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف.
تقوله: اختلقه من قبل نفسه، كما قال: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} وقال ابن عطية: تقوله معناه: قال عن الغير أنه قاله، فهو عبارة عن كذب مخصوص. انتهى.
{بل لا يؤمنون}: أي لكفرهم وعنادهم، ثم عجزهم بقوله تعالى: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين}: أي مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله، فليقولوا هم مثله، إذ هو واحد منهم، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقول.
فقرأ الجحدري وأبو السمّال: {بحديث مثله}، على الإضافة: أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أميًا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحدًا منهم، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة، فليأت بمثل ما أتى به، ولن يقدر على ذلك أبدًا.
{أم خلقوا من غير شيء}: أي من غير شيء حي كالجماد، فهم لا يؤمرون ولا ينهون، كما هي الجمادات عليه، قاله الطبري.
وقيل: {من غير شيء}: أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون، وهذا كما تقول: فعلت كذا وكذا من غير علة: أي لغير علة، فمن للسبب، وفي القول الأول لابتداء الغاية.
وقال الزمخشري: {أم خلقوا}: أم أحدثوا؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم؛ {من غير شيء}: من غير مقدر، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق؟ {بل لا يوقنون}: أي إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السموات والأرض؟ قالوا: الله، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون.
أم خلقوا من غير رب ولا خالق؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم؟ {أم هم الخالقون} لأنفسهم، فلا يعبدون الله، ولا يأتمرون بأوامره، ولا ينتهون عن مناهيه.
والقسمان باطلان، وهم يعترفون بذلك، فدل على بطلانهم.
وقال ابن عطية: ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون؟ ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرًا يؤديهم إلى اليقين.
{أم عندهم خزائن ربك}، قال الزمخشري: خزائن الرزق، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا، أو: أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ {أم هم المسيطرون}: الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم.
وقال ابن عطية: أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى.
وقال الزهراوي: وقيل يريد بالخزائن: العلم، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط.
وقال الرماني: خزائنه تعالى: مقدوراته. انتهى.
والمسيطر، قال ابن عباس: المسلط القاهر.
وقرأ الجمهور: المصيطرون بالصاد؛ وهشام وقنبل وحفص: بخلاف عنه بالسين، وهو الأصل؛ ومن أبدلها صادًا، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلف عن حمزة، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي.
{أم لهم سلم} منصوب إلى السماء، {يستمعون فيه}: أي عليه أو منه، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض، وقدره الزمخشري: صاعدين فيه، ومفعول يستمعون محذوف تقديره: الخبر بصحة ما يدعونه، وقدره الزمخشري: ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون.
{بسلطان مبين}: أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم، {أم تسألهم أجرًا} على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه، {فهم} من ذلك المغرم الثقيل اللام {مثقلون}، فاقتضى زهدهم في اتباعك.
{أم عندهم الغيب}: أي اللوح المحفوظ، {فهم يكتبون}: أي يثبتون ذلك للناس شرع، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم.
وقيل: المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم الذي يتربصون به، ويكتبون بمعنى: يحكمون.
وقال ابن عباس: يعني أم عندهم اللوح المحفوظ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون.