فصل: تفسير الآية رقم (270):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (270):

قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان السياق سابقًا ولاحقًا للإنفاق علم أن التقدير: فما جمعتم من شيء فإن الله مطالبكم في وضعه وجمعه بوجه الحكمة ومحاسبكم على ذلك، فعطف عليه حثًّا على الإسرار بالنفقة في الخير والوفاء بالنذر وتحذيرًا من الإنفاق في المعصية ولو على أدق الوجوه بأنه يعلم ذلك كله ويجازي عليه قوله: {وما أنفقتم من نفقة} أي في وجه من الوجوه، فدخل فيه جميع التوسعات المشروعات عند النكاح والختان والولادة واتخاذ المسكن وفي الدعوات للإخوان وغير ذلك.
ولما كان الإنسان كثيرًا ما يخشى فوات أمر فينذر إن حصل بنفقة في وجه خير ونحو ذلك ولكن ربما ظن أن الترغيب في الإنفاق خاص بما ندب الله إليه ابتداء لا بما ألزمه الإنسان نفسه قال: {أو نذرتم من نذر} وإدخال من لتأكيد الاستغراق.
قال الحرالي: والنذر إبرام العدة بخير يستقبل فعله أو يرتقب له ما يلتزم به وهو أدنى الإنفاق لاسيما إذا كان على وجه الاشتراط، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما يستخرج به من البخيل» انتهى.
{فإن الله} عظم الأمر بهذا الاسم الأعظم {يعلمه} ذكر الضمير لأنه مع وضوح عوده إلى المتقدم أشد تعظيمًا للنذر لما قد يتوهم فيه من النقص عن مندوب الشرع فتحروا في طيب ذلك والوفاء به وجميع ما يدخل فيه من الأوامر والنواهي تحري من يطلب إرضاء ملك عظيم بما يهدي إليه ويعرضه عليه، فما تصرفتم فيه بالحكمة من إنفاق أو غيره فالله سبحانه وتعالى يجازيكم عليه على حسب ما ذكر لكم من التضعيف، ومن فعل منكم شيئًا منه على غير وجه الحكمة فهو ظالم واضع للشيء في غير موضعه فهو مردود عليه ومعاقب به وما له من ناصر، هكذا كان الأصل ولكنه سبحانه وتعالى عم وعلق الحكم بالوصف فقال: {وما للظالمين} أي الواضعين للشيء في غير موضعه {من أنصار} قال الحرالي: ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر فيجد له نصيرًا ولا يجد الظالم بوضع القهر موضع البر ناصرًا، وفيه استغراق نفي بما تعرب عنه كلمة من- انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال، ثم حث أولًا: بقوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] وثانيًا: بقوله: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} [البقرة: 268] حث عليه ثالثًا: بقوله: {وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال أبو حيان:

{وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فان الله يعلمه} ظاهره العموم في كل صدقة في سبيل الله، أو سبيل الشيطان، وكذلك النذر عام في طاعة الله أو معصيته، وأتى بالمميز في قوله: من نفقة، و: من نذر، وإن كان مفهومًا من قوله: وما أنفقتم، ومن قوله: أو نذرتم، من نذر، لتأكيد اندراج القليل والكثير في ذلك، ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، وقيل: تختص النفقة بالزكاة لعطف الواجب عليه وهو النذر. اهـ.

.قال الفخر:

في قوله: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} على اختصاره، يفيد الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، وبيانه من وجوه أحدها: أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نيّة الرياء والسمعة.
وثانيها: أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات، كما قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
وثالثها: أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئًا منها، ولا يشتبه عليه شيء منها. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

{فان الله يعلمه} قال مجاهد: يُحصيه، وقال الزجاج: يجازى عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فإن الله يعلمه} كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يَشُك فيه السامعون، فأريد لازم معناه، وإنّما كان لازمًا له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلاّ عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء. اهـ.

.قال الفخر:

إنما قال: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} ولم يقل: يعلمها، لوجهين الأول: أن الضمير عائد إلى الأخير، كقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} وهذا قول الأخفش، والثاني: أن الكتابة عادت إلى ما في قوله: {وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ} لأنها اسم كقوله: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة: 231]. اهـ.

.قال القرطبي:

ووحّد الضمير وقد ذكر شيئين، فقال النحاس: التقدير {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ} فإن الله يعلمها، {أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} ثم حذف.
ويجوز أن يكون التقدير: وما أنفقتم فإن الله يعلمه وتعود الهاء على ما كما أنشد سيبويه لامرئ القيس:
فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها ** لِما نَسَجَتْها من جَنُوبٍ وشَمأَلِ

ويكون {أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ} معطوفًا عليه.
قال ابن عطيّة: ووحّد الضمير في يعلمه وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذُكر أو نُصّ.
قلت: وهذا حسن: فإن الضمير قد يراد به جميع المذكور وإن كَثُر. اهـ.

.قال الفخر:

النذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه يقال: نذر ينذر، وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده، وأنذرت القوم إنذارًا بالتخويف، وفي الشريعة على ضربين: مفسر وغير مفسر، فالمفسر أن يقول: لله عليّ عتق رقبة، ولله علي حج، فههنا يلزم الوفاء به، ولا يجزيه غيره وغير المفسر أن يقول: نذرت لله أن لا أفعل كذا ثم يفعله، أو يقول: لله علي نذر من غير تسمية فيلزم فيه كفارة يمين، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر نذرًا وسمى فعليه ما سمى، ومن نذر نذرًا ولم يسم فعليه كفارة يمين». اهـ.

.قال ابن عاشور:

النذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك، ويكون مطلَقًا ومعلَّقًا على شيء.
وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية، فقد نذر عبدُ المطلب أنّه إن رُزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قربانًا للكعبة، وكان ابنُه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين، وأكرِم بها مزيةً، ونذرت نُتَيلةُ زوج عبد المطلب لما افتقدت ابنها العباسَ وهو صغير أنّها إن وجدته لتَكْسُوَنّ الكعبة الديباج ففعلت.
وهي أول من كسا الكعبة الديباج.
وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال: «يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال أوْفِ بنذرك».
وفي الأمم السالفة كان النذر، وقد حكى الله عن امرأة عمران {إنّي نذرت لك ما في بطني محرّرا} [آل عمران: 35].
والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقًا أم معلّقًا، لأنّ الآية أطلقت، ولأنّ قوله: {فإن الله يعلمه} مراد به الوعد بالثواب.
وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ النذر لا يُقدِّم شيئًا ولا يؤخّر، ولا يردّ شيئًا ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قُدر له، ولكنّه يُستخرج به من البَخيل».
ومَساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر. وقد مدح الله عباده فقال: {يوفون بالنذر} [الإنسان: 7]. وفي الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من نَذر أن يطيعَ الله فليُطِعْه ومن نذر أن يعصِيَ الله فلا يْعْصِه». اهـ.

.قال الفخر:

إنه وعيد شديد للظالمين، وهو قسمان، أما ظلمه نفسه فذاك حاصل في كل المعاصي، وأما ظلمه غيره فبأن لا ينفق أو يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غيره، أو يكون نيته في الإنفاق على المستحق الرياء والسمعة، أو يفسدها بالمعاصي، وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظلم على الغير، بل من باب الظلم على النفس. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله: {فإن الله يعلمه}، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع، وإن منعوا صدقة التطوُّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة.
والأنصار جمع نصير، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق، ويقسي عليهم قلوب عباده، ويلقي عليهم الكراهية من الناس. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وما للظالمين من أنصار} ظاهره العموم، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله، وقال مقاتل: هم المشركون.
وقال أبو سليمان الدمشقي: هم المنفقون بالمن والأذى والرياء، والمبذورن في المعصية.
وقيل: المنفقو الحرام. اهـ.

.قال الفخر:

المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة عن أهل الكبائر، قالوا: لأن ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه فلو اندفعت العقوبة عنهم بشفاعة الشفعاء لكان أولئك أنصارًا لهم وذلك يبطل قوله تعالى: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}.
واعلم أن العرف لا يسمي الشفيع ناصرًا، بدليل قوله تعالى: {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48] ففرق تعالى بين الشفيع والناصر فلا يلزم من نفي الأنصار نفي الشفعاء.
والجواب الثاني: ليس لمجموع الظالمين أنصار، فلم قلتم ليس لبعض الظالمين أنصار.
فإن قيل: لفظ الظالمين ولفظ الأنصار جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد، فكان المعنى: ليس لأحد من الظالمين أحد من الأنصار.
قلنا: لا نسلم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد.
والجواب الثالث: أن هذا الدليل النافي للشفاعة عام في حق الكل، وفي كل الأوقات، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات، والخاص مقدم على العام والله أعلم.
والجواب الرابع: ما بينا أن اللفظ العام لا يكون قاطعًا في الاستغراق، بل ظاهرًا على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنيًا، والمسألة ليست ظنية، فكان التمسك بها ساقطًا. اهـ.