فصل: مطلب الآية المدنية ومعنى الكبائر والصغائر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد ثبت في ذلك المقام الذي تحار به العقول وتزل به الأقدام وتشخص فيه الابصار، ولهذا فقد وصفه ربه بالقوة والسكينة في ذلك المقام بقوله جل قوله: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} أي ما جاوز بصره غير ما أمر بالنظر اليه وهو المعنى بقوله مقسما {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} التي هي أكبر آية وأعظمها وأجلها وهي رؤية ذاته المقدسة التي لا يضاهيها آية وتصغر دونها كل آية قال الأبوصيري:
أرآى من الآيات أكبر آية ** ما زاغ حاشا أن يزيغ المبرأ

قال ابن عباس رضي اللّه عنهما رآه بفؤاده وقال الحسن وأنس وعكرمة رآه بعينه حقيقة وسنذكر ما جاء في الأحاديث الواردة بالرؤية القلبية والعينية هنا وما جاء في حق جبريل أيضا، روي عن مسروق أنه قال «قلت لعائشة يا أماه هل رأى محمد ربه؟ فقالت لقد قفّ شعري (أي قام من الفزع مثل اقشعر جلدي واشمأزت نفسي عند سماع مالا ينبغي) مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن بها فقد كذب، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت {لا تدركه الأبصار} الآية 102 من الانعام في ج 2 وقرأت {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} الآية 56 من سورة الشورى في ج 2 أيضا، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وقرأت {وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَدًا} الآية الأخرى من سورة لقمان 24 ومن حدثك أنه كتم أمرا فقد كذب ثم قرأت {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية 70 من المائدة في ج 3 ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين» أخرجاه في الصحيحين، وروى مسروق بن الأجدع قال «قلت لعائشة فأين قوله: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ} إلخ قالت ذلك جبريل كان يأتيه في صورة الرجل وأنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسدّ الأفق»، أخرجاه في الصحيحين.
وروى مسلم عن ابي هريرة «{ولقد رآه نزلة أخرى} قال رأى جبريل»، وروى مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال «{لقد رأى من آيات ربه الكبرى}، قال رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» وفي رواية مسلم عن مسروق قال «كنت متكئا عند عائشة فقالت يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على اللّه الفرية قلت ماهن قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على اللّه الفرية، فجئت فقلت يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل اللّه تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} الآية 43 من سورة التكوير، المارة {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} الآية المارة؟ فقالت انها أول هذه الآية سئل عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض»، الحديث.
وروى مسلم عن أبي ذر قال «سألت رسول اللّه هل رأيت ربك؟ قال نور أنى أراه! وفي رواية نورانيّ أراه» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء.
وروى البخاري عن عبد اللّه بن مسعود قال «{لقد رأى من آيات ربه الكبرى} الآية قال لقد رأى رفرفا أخضر سدّ أفق السماء».
وجاء في الصحيحين من حديث المعراج عن شريك ابن عبد اللّه بن ابي بحر عن أنس «ودَنا الجبار ذي العزّة فَتَدَلَّى حتى كان قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» وهي رواية أبي سلمة عن ابن عباس، وروى مسلم عن ابن عباس «{ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} الآيتين قال رآه بفؤاده مرتين».
وأخرج أحمد عن ابن عباس انه قال: قال رسول اللّه «رأيت ربي»، ذكره محمد الصالحي الشامي في الآيات البينات وصححه وهو تلميذ الحافظ السيوطي.
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال «إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده».
وجاء عن ابن عباس أتعجبون ان تكون الخلّة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد؟! وعن عكرمة قال سئل ابن عباس هل رأى محمد ربه، قال نعم، وكان الحسن يحلف بأن محمدا رأى ربه.
هذا وقد بلغت الرؤية حد الإجماع، وكلام ابن عباس لا يكون إلا بالسماع من رسول اللّه ولا يشك فيه أحد، كيف لا وهو خير الأئمة وعالمها المرجوع اليه في المعضلات وقد راجعه ابن عمر فأخبره أنه رآه، وهذا إثبات والإثبات مقدم على النفي، على أن عائشة رضي اللّه عنها لم تقله عن رسول اللّه وإنما قالته متأولة الآيات التي ذكرتها من قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ} و{لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ} والصحابي إذا خالفه مثله لا يكون قوله حجة ولو كان معها شيء عن رسول اللّه لذكرته فضلا عن انها عند نزول هذه السورة وسورة الاسراء كانت صغيرة دون سن التمييز، وليست هي بأعلم من ابن عباس، على أن الإدراك الوارد بالآية معناه الإحاطة واللّه تعالى لا يحيط بعلمه أحد ولا يحاط به، وإذا ورد النفي بنفي الإحاطة لا يلزم نفي الرؤية بغير إحاطة، واللّه تعالى يرى بلا كيفية ولا احاطة فلو كانت الرؤية غير جائزة لما طلبها موسى، أو يلزم مع الرؤية وجود الكلام ليصح الاحتجاج بآية (وَما كانَ لِبَشَرٍ) بل تجرز من غير كلام، فارتفع الاحتجاج بها على أن ما من عموم إلا وخصّ منه البعض، فيمكن أن يقال: نفي الرؤية عام في حق البشر في الدنيا مخصوص بسيدنا محمد عليه السلام فيها ثابت بما تقدم من الأدلة، ولهذا فإن ثبوت الرؤية لسيدنا محمد ثابتة قاله كعب واحمد ابن حنبل وابو الحسن الأشعري وجعفر بن محمد ومحمد بن كعب والقاضي عياض والشيخ محي الدين النووي وغيرهم من أكابر السلف والخلف فمن أنكرها فجزاؤه حرمانها واعلم أن في جملة ما زاغ البصر إلخ أخبار من اللّه تعالى عن حسن أدبه صلى الله عليه وسلم لدى الحضرة الإلهية وعن اعتدال قلبه المقدس في الإقبال اليه بكلية والإعراض عن سواه وعدم الالتفات إلى ما في السموات والأرض وما فيهما، وتركه وراء ظهره، وفيه دلالة على أنه كان معتدل القوى لم تشغله حاسة عن حاسة حال تلقى ما ورد عليه من مقام الروح والقلب المشير اليه قوله: {قابَ قَوْسَيْنِ} لذلك كان ثابتا في مقام تجلي الإله صارفا قواه العشرة لما يرد عليه من تلك الحضرة مستظلا بهيبته فلم يتخلف بصره عن بصيرته بل استقام معها حالة التجلي لئلا يتجاوز حده بالسبق لها كما أن البراق لم يتجاوز حافره غاية نظره صلى الله عليه وسلم حالة السير به من مكة إلى البيت المقدس، وهذه غاية في الأدب ونهاية في التأدب قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ} أعلمتم {اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ} أسماء أصنام انتقوها من أسماء اللّه، الآله والعزيز والمنان وقيل انها في الأصل اللآت مأخوذة من لوى لأنهم يلوون عليها بعبادتهم وهي صنم من الحجارة يشبه الإنسان ولذلك قال بعضهم انه كان رجلا يلت السويق للحجاج وكان صنما لثقيف، والعزى تأنيث الأعز شجرة كانت لغطفان فقطعها خالد بن الوليد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وقال عند قطعها مرتجزا:
يا عز كفرانك لا سبحانك ** اني رأيت اللّه قد أهانك

ومناة كانت صنما في مكة أو بقديد لخزاعة وهذيل وقيل لثقيف، وكانوا يستمطرون عندها تبركا بها، وقيل بيت بالمشلل تعبده بنو كعب وسميت مناة لأن دماء النسائك تمنى عندها، وهي عبارة عن صخرة يعظمونها فعاب اللّه عليهم ذلك على طريق الاستفهام توبيخا وتقريعا، أي أخبرونا عن هذه الأشياء التي تعبدونها هل لها من القدرة والعظمة شيء وكانوا يسمونها والملائكة بنات اللّه ويزعمون أنها تشفع لهم مع ما هم عليه من وأد البنات واستحلال المحرمات والكفر ثم وصف مناة بقوله: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} المتأخرة أو أن في الكلام تقديما وتأخيرا أي أفرأيتم اللات والعزى الأخرى ومناة الثالثة، ثمّ أنكر عليهم ما ينسبونه اليه تعالى عنه.
{ألكم} أيها الكفرة {الذَّكَرُ} تختصون به {وَلَهُ} جل شأنه {الْأُنْثى} مع أنكم تكرهونها قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ} الآية 59، وقوله: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} إلخ الآية 63 من سورة النحل في ج 2.
{تِلْكَ} القسمة التي قسمتموها بينكم وبين ربكم {إِذًا} بعد اختياركم الأحسن {قِسْمَةٌ ضِيزى} عوجاء جائرة لم ترضوها لأنفسكم فكيف ترضونها لربكم {إِنْ هِيَ} ما الأصنام المذكورة بشيء البتة {إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ} عفوا من تلقاه أنفسكم ودعيتموها آلهة افتراء على اللّه وهي ليست بشيء يستحق الذكر {ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} حجة أو برهان بما تزعمون من آلهيتها {إِنْ} ما {يَتَّبِعُونَ} في ذلك الاتخاذ {إِلَّا الظَّنَّ} والوهم الذي لا حقيقة له {و} ما يتبعون في ذلك الا {ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ} وتزينه لهم وتشهيهم بعبادة الأوثان وأتباع الشيطان {وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى} بكتابه المنزل على رسوله بأن الأصنام ليست بآلهة ولا أهلا للعبادة وأن العبادة لا تكون الا اللّه الذي يخذل من يعبد غيره، ويقهر من يكذب آياته فلم يرتدعوا ولم ينتهوا عن ذلك، قال تعالى منّددا صنيعهم ذلك بقوله: {أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى} استفهام على طريق الإنكار أي أيظن الكافر ان له ما يتمناه ويشتهيه من كل ما يصوره عقله، كلا ليس له ذلك بل لا يكون الا ما يريده اللّه {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى} كليهما وما فيهما ولا يقع فيهما إلا ما يشاء اللّه ليس لأحد فيها دخل ولا شيء البتة، ثم قال ردا على ما يزعمون من شفاعته أصنامهم {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا} لأحد ما لأنهم لا يشفعون {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ} الشفاعة له ومن يؤهله للتشفع {وَيَرْضى} له أن يكون شافعا فكيف إذن تشفع أصنامهم لهم وهم ليسوا بشيء {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ويجحدون كونها ووجودها {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى} بقولهم أنهم بنات اللّه ولم يقل تسمية الإناث لأن المراد الجنس وهو أليق لمناسبة رؤس الآي وما يسمونه بالروى في النظم {وَما لَهُمْ بِهِ} أي الذين يقولونه {مِنْ عِلْمٍ} يحتجون به في تلك التسمية والعبادة {إِنْ} ما {يَتَّبِعُونَ} في عبادتهم وتسميتهم {إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} أبدا لأنه ناشىء عن التقليد والوهم والتخمين، والشيء لا تدرك حقيقته إلا باليقين، فاذا كان هذا مبلغ علمم {فَأَعْرِضْ} أترك يا حبيبي وصدّ {عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا} الذي أنزلناه عليك لانهم أعرضوا عنه وتولوا عن الايمان به {وَلَمْ يُرِدْ} كل منهم {إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا} لإنها بغيتهم ولا همّ لهم بالآخرة لانهم لم يؤمنوا بها {ذلِكَ} ظنهم واختيارهم هو {مَبْلَغُهُمْ} وغاية مطلبهم ونهاية ما توصلت اليه عقولهم {مِنَ الْعِلْمِ} الذي لا يحيط ببعضه عقلاؤهم لقلة إدراكهم وشدة توغلهم في الدنيا {إِنَّ رَبَّكَ} يا سيد الرسل {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} السوي وطريقه المستقيم الذي يجب أن يسلك دون غيره من السبل المضلة {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى} اليه فيجازى كلا بعمله {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} وما بينهما وما فيهما وما تحتهما وفوقهما ملكا وعبيدا.
وهذه الجملة معترضة بين ما قبلها وبين قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا} من السوء {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} أي الجزاء الحسن وفي الجنة أيضا لقاء عملهم الحسن، لأن اللّه تعالى لم يخلق الجنة والنار إلا ليكافيء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

.مطلب الآية المدنية ومعنى الكبائر والصغائر:

وهذه الآية المدنية المستثناة في هذه السورة قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ} منها المستوجبة للحد الشرعي {إلا اللّمم} صغائر الذنوب، وهذا استثناء منطقع، لأن اللّمم ليس من الكبائر والفواحش، فهو كالقبلة والنظرة والغمزة والشتم بغير اذن وما ضاهى ذلك، وسبب نزولها قول المشركين ان المسلمين بالأمس كانوا يعملون ما نعمل والآن يعيبوننا به.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن اللّه عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج، يصدق ذلك أو يكذبه».
ولمسلم قال «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه».
فهذه الأولى كلها لمم، والأخير من الكبائر والفواحش، فالكبيرة كل شيء نهى اللّه ورسوله عنه أو أوعد عليه بنار أو غضب أو عذاب أو عقاب أو لعنة أو حد، والصغيرة كل ما لم يذكر اللّه ورسوله عليه حدّا في الدنيا أو عذابا في الآخرة فيدخل في الكبائر، من غيّر معالم الأرض ومن تزوج امرأة للتحليل، والواشمة والموشومة وكل ما اقترن بلعن من حضرة الرسول كمن أمسك امرأة محصنة ليزني بها غيره، أو قادها للزنى أو أمسك مسلما لمن يقتله، ومن دل الكفار على عورة المسلمين وفضح لهم عددهم وعددهم ومن كذب على إنسان كذبة أدت إلى قتله أو تعطيل عضو منه أو تعذيبه، لأن حد الكبيرة كل شيء كبر وعظم مما يعد ذنبا وكان فعله قصدا، فدلالة المسلم الكفار على مواقع المسلمين مع علمه أنهم سيستأصلونهم أعظم من الفرار عند الزحف، والكذب الموجب للقتل وأخذ المرأة للزنا والمسلم للقتل اكبر من أكل الربى وأكل مال اليتيم وشرب الخمر المعدودة من الكبائر المترتب عليها حد شرعي، وليعلم أن اكبر الكبائر الشرك باللّه ثم القتل بغير حق ثم الزنا واللواط ثم شهادة الزور ثم السحر ثم قذف المحصنات ثم عقوق الوالدين، إذ عدها رسول اللّه من الموبقات أي المهلكات ثم كل ما يدخل تحت الحد وما اقترن باللعن إلخ ما تقدم، والصغيرة ما سوى ذلك على أنها إذا فعلت تهاونا واستخفافا أو اعتيد على ارتكابها جرأة تنقلب كبيرة، ولهذا أبلغوا عدد الكبائر إلى سبعين وبعضهم إلى سبعمائة كما في كتاب الزواجر المستقصى لأنواعها فراجعه، وعلى هذا إذا لم تقترن الفعلة بشيء مما ذكر من الوعيد وغيره وما يقع من فلتات اللسان وشهوات النفس في غير ما نصّ عليه وما ينشيء من فترة مراقبة التقوى فليس من الكبائر بل من الصغائر وهي أقرب للمغفرة ويوشك أن يكفرها الصوم والصلاة والصدقة، وقد يغفرها اللّه عفوا نكرما منه ويكاد أن يجعلها حسنات إذا اقترنت بالندم والاستغفار راجع الآية 71 من سورة الفرقان الآتية وكذلك الكبائر إذا أعقبها بتوبة خالصة وعمل صالح من صوم أو صلاة أو صدقة فيوشك أن يقلبها اللّه له صغائر ويغفرها.
أما ما يتعلق فيه حق الغير من الكبائر والصغائر فلا بد من إرجاع ما أخذ لأهله وإرضائه واستعفائه، وإن لم يقدر على شيء من ذلك فيعود إلى مشيئة اللّه ويسعها قوله: {إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ} لمن تاب وأتاب وحسنت نيته وقد يغفر بدون شيء من ذلك لمن شاء عدا الشرك راجع الآية 48 من سورة النساء في ج 3 وإذا أراد أن يطمئن على نفسه من عذاب اللّه وقبول توبته فليجتهد برد المظالم لأهلها أو ورثتهم أو يتصدق بها على الفقراء وينوي ثوابها إليهم، هذا واللّه تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} أيها المؤمنون وأعلم بما تفعلونه قبل خلقكم {إِذْ أَنْشَأَكُمْ} براكم من النطفة وخلق أباكم آدم {مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ} أي وهو أعلم بأحوالكم حالة كونكم {أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ} وما أنتم صائرون اليه بعد فاعملوا خيرا لدينكم ودنياكم وآخرتكم {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} وتمدحوها بالطهارة من الذنوب فانه يعلم كل نفس وما هي صائرة اليه وما تصنعه في الدنيا وما تناله في الآخرة، فلا تفضلوا أنفسكم على غيركم في الحالة التي أنتم فيها لأنكم لا تعلمون العاقبة واللّه وحده {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى} منكم ومن أذنب فأكتفوا بعلمه عن علم الناس وجزائه عن جزائهم وثنائه عن ثنائهم.
روى البخاري ومسلم عن خارجة بن زمعة بن ثابت «أن أم العلاء امرأة من الأنصار كانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا ابن صفعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي غسل وكفن في أثوابه وصلى عليه رسول اللّه، فقلت رحمة اللّه عليك أبا السائب فشهادتي عليك قد أكرمك اللّه فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن اللّه أكرمه؟ فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه فمن يكرمه اللّه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين واللّه اني لارجو له الخير، واللّه لا أدري وأنا رسول اللّه ما يفعل بي. قالت فو اللّه لا أزكى بعده أحدا قالت: ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري، فجئت رسول اللّه فذكرت له ذلك، فقال: ذلك عمله» وهذه الآية نزلت في أناس من المدينة يعملون أعمالا حسنة ثم يتبرمون بها، وهي عامة في كل من يتصف بذلك، هذا وقد سبق أن بينا أن الآيات المستثناة من السور إذا طويتها وقرأت ما بعدها تبعا لما قبلها يستقيم المعنى والنظم وهذه كذلك، إلا أنه لا يجوز بوجه من الوجوه إسقاط حرف واحد من القرآن أو تغيره عن محله، حتى ان العلماء كرّهت ان يقرأ المصلي آية أو سورة ثم يترك التي تليها ويقرأ ما بعدها، كما كرهوا أن يقرأ القرآن على عكس ترتيبه قال تعالى: