فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اختلفوا في أن المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية: التطوع، أو الواجب، أو مجموعهما.
فالقول الأول: وهو قول الأكثرين: أن المراد منه صدقة التطوع، قالوا: لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل، والإظهار في الزكاة أفضل، وفيه بحثان:

.البحث الأول: في أن الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه، أو إظهاره:

فلنذكر أولًا الوجوه الدالة على إخفاءه أفضل.
فالأول: أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله مسمع ولا مراء ولا منان» والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة والمعطى في ملأ من الناس يطلب الرياء، والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما، وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء، واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ، فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى، وبعضهم يلقيه في طريق الفقير، وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي، وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم، وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره، والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة، لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة معًا وليس في معرفة المتوسط الرياء وثانيها: أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم، فكان ذلك يشق على النفس، فوجب أن يكون ذلك أكثر ثوابًا وثالثها: قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر» وقال أيضًا «إن العبد ليعمل عملًا في السر يكتبه الله له سرًا فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء» وفي الحديث المشهور «سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه» وقال صلى الله عليه وسلم: «صدقة السر تطفيء غضب الرب».
ورابعها: أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه، والإخفاء لا يتضمن ذلك، فوجب أن يكون الإخفاء أولى، وبيان تلك المضار من وجوه:
الأول: أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره، وربما لا يرضى الفقير بذلك.
والثاني: أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال، والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، وهو قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف تَعْرِفُهُم بسيماهم لاَ يَسْئَلُونَ الناس إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
والثالث: أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة، ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها، فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة والرابع: أن في إظهار الإعطاء إذلالًا للآخذ وإهانة له وإذلال المؤمن غير جائز والخامس: أن الصدقة جارية مجرى الهدية، وقال عليه الصلاة والسلام: «من أهدى إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها» وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئًا إلى شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى.
وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة، فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها، صار ذلك سببًا لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات، فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع، والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل، وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السر أفضل من العلانية، والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به» قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق، والقلب ينكر ذلك ويدفعه، فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفًا على العلانية، ثم إن لله عبادًا راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة، وذهبت عنهم وساوس النفس، لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى؛ فإذا عمل عملًا علانية لم يحتج أن يجاهد، لأن شهوة النفس قد بطلت، ومنازعة النفس قد اضمحلت، فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تامًا وفوق التمام، ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن، وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة، فقال: {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] ومدح أمة موسى عليه السلام فقال: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] ومدح أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] ثم أبهم المنكر فقال: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله.
فإن قيل: إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
والجواب: من وجهين:
الأول: لا نسلم قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الاخفاء خير من الخيرات، وطاعة من جملة الطاعات، فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيرًا وطاعة، لا أن المقصود منه بيان الترجيح.
والوجه الثاني: سلمنا أن المراد منه الترجيح، لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء، فالأفضل هو الإخفاء، فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء.

.البحث الثاني: أن الإظهار في إعطاء الزكاة الواجبة أفضل:

ويدل عليه وجوه الأول: أن الله تعالى أمر الأئمة بتوجيه السعاة لطلب الزكاة، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها وثانيها: أن في إظهارها نفي التهمة، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة فإذا اختلف حكم فرض الصلاة ونفلها في الإظهار والإخفاء لنفي التهمة، فكذا في الزكاة وثالثها: أن إظهارها يتضمن المسارعة إلى أمر الله تعالى وتكليفه، وإخفاءها يوهم ترك الالتفات إلى أداء الواجب فكان الإظهار أولى، هذا كله في بيان قول من قال المراد بالصدقات المذكورة في هذه الآية صدقة التطوع فقط.
القول الثاني: وهو قول الحسن البصري أن اللفظ متناول للواجب والمندوب، وأجاب عن قول من قال: الإظهار في الواجب أولى من وجوه:
الأول: أن إظهار زكاة الأموال توجب إظهار قدر المال، وربما كان ذلك سببًا للضرر، بأن يطمع الظلمة في ماله، أو بكثرة حساده، وإذا كان الأفضل له إخفاء ماله لزم منه لا محالة أن يكون إخفاء الزكاة أولى والثاني: أن هذه الآية إنما نزلت في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ما كانوا متهمين في ترك الزكاة فلا جرم كان إخفاء الزكاة أولى لهم لأنه أبعد عن الرياء والسمعة أما الآن فلما حصلت التهمة كان الإظهار أولى بسبب حصول التهمة الثالث: أن لا نسلم دلالة قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ} على الترجيح وقد سبق بيانه. اهـ.
وقال الفخر:
أما قوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فالإخفاء نقيض الإظهار وقوله: {فَهُوَ} كناية عن الإخفاء، لأن الفعل يدل على المصدر، أي الإخفاء خير لكم، وقد ذكرنا أن قوله: {خَيْرٌ لَّكُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه أنه في نفسه خير من الخيرات، كما يقال: الثريد خير وأن يكون المراد منه الترجيح، وإنما شرط تعالى في كون الإخفاء أفضل أن تؤتوها الفقراء لأن عند الإخفاء الأقرب أن يعدل بالزكاة عن الفقراء، إلى الأحباب والأصدقاء الذين لا يكونون مستحقين للزكاة، ولذلك شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء، والمقصود بعث المتصدق على أن يتحرى موضع الصدقة، فيصير عالمًا بالفقراء، فيميزهم عن غيرهم، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة. اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة».
والأصل أن الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال: نعم، الحديد. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابنُ آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من شماله».
وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ قال: «سر إلى فقير، أو جهد من مقِل». رواه أحمد.
ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي ذر فذكره. وزاد: ثم نزع بهذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} الآية.
وفي الحديث المروي: «صدقة السر تطفئ غضب الرب، عز وجل».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب، أخبرنا موسى بن عمير، عن عامر الشعبي في قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم} قال: أنزلت في أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فأما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر؟». قال: خلفت لهم نصف مالي، وأما أبو بكر فجاء بماله كلّه يكاد أن يخفيه من نفسه، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟». فقال: عدة الله وعدةُ رسوله. فبكى عمر، رضي الله عنه، وقال: بأبي أنت يا أبا بكر، والله ما اسْتَبَقْنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا. اهـ.

.قال أبو حيان:

وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي، وفي قوله: وتؤتوها الفقراء طباق معنوى، لأنه لا يؤتي الصدقات إلاَّ الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الصدقاتِ الأغنياءُ.
وفي هذه الآية دلالة على أن الصدقة حق للفقير، وفيها دلالة على أنه يجوز لرب المال أن يفرق الصدق بنفسه. اهـ.