فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} {ما} نافية و{كذب الفؤاد} فعل وفاعل وقد قرئ {كذب} بالتشديد أيضا و{ما} موصولة مفعول به لأن {كذب} فعل يتعدى إلى مفعول قال الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ** غلس الظلام من ارباب خيالا

وقيل لا يتعدى فيكون نصب ما على إسقاط الخافض أي فيما رآه. وزعم صاحب المنجد أن كذب قد يتعدى إلى اثنين قال: وقد يتعدى إلى مفعولين فيقال كذبه الحديث إذا نقل الكذب وقال خلاف الواقع فإذا شدّد اقتصر على مفعول واحد ولم أجد فيما بين يدي من كتب اللغة ما يؤيد ذلك، أما كذبه الحديث فالحديث نصب بنزع الخافض على الأصح، هذا ويجوز أن تكون {ما} مصدرية وهي مع مدخولها في موضع نصب لأنه مفعول {كذب} والمعنى أنه ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير بل صدقه الفؤاد رؤيته.

.البلاغة:

1- في قوله: {ثم دنا فتدلى} فن القلب وهو من المقلوب الذي تقدم فيه ما يوضّحه التأخر وتأخر ما يوضّحه التقديم أي تدلى فدنا لأنه تدلى للدنو ودنا بالتدلي.
2- في قوله: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} فن الإبهام وقد تقدم القول فيه وهو كثير شائع في القرآن كأنه أعظم من أن يحيط به بيان، فأبهم الأمر الذي أوحاه إلى عبده وجعله عاما وذلك أبلغ لأن السامع يذهب وهمه فيه كل مذهب، وجميل قول دريد بن الصمة:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ** فلما علاه قال للباطل أبعد

وقول أبو نواس:
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ** وأسمت سرح اللحظ حين أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ** فإذا عصارة كل ذلك أثام

فقوله: (وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه) من المليح النادر، ومثله قول الآخر في وصف الخمر:
مضى بها ما مضى من عقل شاربها ** وفي الزجاجة باق يطلب الباقي

3- في قوله تعالى: {والنجم} إلى قوله: {أو أدنى}، جرس ساحر أخّاذ في تقطيع لفظي عجيب يصوّران موضوعا جليلا ببراعة معجزة، فقد بدأت الآية الكريمة بالقسم بالنجم الذي كان بعض العرب يحلّونه محلّ الإله ولكن القسم ليس بالإله المزعوم فحسب بل به حين يهوي ويسقط من عليائه التي خدعت بعض السذّج وضعاف العقول فجعلوا منه إلها غير اللّه، فهذا السقوط يجرح الألوهية، وقد أورده القرآن الكريم مع القسم تتميما له لأن له أبعادا معنوية خارقة، ثم نفت الآية الكريمة عن الرسول العربي صفة الضلال التي اتهمه بها الجاحدون أولئك الذين بلغ الضلال منهم أن عبدوا النجم الذي ليست له مناعة ضد السقوط، ونصّت الآية في تنزيه القرآن الذي نزل على الرسول الأمين عن الهوى والعاطفة وقال فيه: إنه وحي من اللّه الخالق القوي الذي أمر الرسول بحمل رسالة القرآن فصدع بالأمر ونهض يبشّر قومه بهداه وينذرهم في تنكرهم لرشاده ولم يكن هذا الوحي في ذلك يدعو إلى التشكّك أو التشكيك بل كان والرسول الكريم أقرب ما يكون إلى ربه سبحانه وتعالى، أنه كان على بعد ما بين طرفي القوس والعرب يعرفون قصر المسافة بينهما حقّ المعرفة لأن القوس تعيش بين أيديهم وتصحبهم طول الوقت.

.[سورة النجم: الآيات 12- 18]:

{أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)}.

.اللغة:

{أَفَتُمارُونَهُ} من المماراة والمراء أي الملاحاة والمجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه.
{سِدْرَةِ الْمُنْتَهى} شجرة نبق في منتهى الجنة تأوي إليها أرواح الشهداء، وقد اختلف في سبب تسميتها على ثمانية أقوال تفصيلها في المطوّلات.

.الإعراب:

{أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى} الهمزة للاستفهام الإنكاري وتمارونه فعل وفاعل ومفعول به و{على ما يرى} متعلقان بتمارونه وكان من حقه أن يتعدّى بفي كقولك جادلته في كذا وإنما ضمن معنى الغلبة فعدّي تعديتها، وجملة {يرى} صلة الموصول ويجوز أن تكون ما مصدرية.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} الواو للحال واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{رآه} فعل وفاعل مستتر ومفعول به و{نزلة} يجوز إعرابها ظرفا للزمان أي مرة أخرى لأن مصدر النزلة بمثابة المرة منها ويجوز إعرابها حالا نصبت نصب المصدر الواقع موقع الحال ويجوز إعرابها مفعولا مطلقا على أنه مصدر مؤكد وإلى ذلك ذهب أبو البقاء وقدّره مرة أخرى أو رؤية أخرى وإلى الأول ذهب الزمخشري وأجاز أبو حيان الأوجه الثلاثة ولم يعمد إلى الترجيح، و{أخرى} نعت لنزلة.
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى} الظرف متعلق برآه أو حال من الفاعل أو المفعول أو منهما معا و{سدرة} مضاف إليه و{المنتهى} مضاف إلى {سدرة}.
{عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى} الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم و{جنة المأوى} مبتدأ مؤخر والجملة حال من {سدرة المنتهى}.
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى} الظرف متعلق برآه وجملة {يغشى السدرة} في محل جر بإضافة الظرف إليها و{السدرة} مفعول به و{ما} اسم موصول فاعل {يغشى} وفيه الإبهام المتقدم ذكره.
{ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى} {ما} نافية و{زاغ البصر} فعله ماض وفاعل {وما طغى} عطف على {ما زاغ} أي ما مال بصره عن مرئيه ولا جاوزه تلك الليلة.
{لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{رأى} فعل ماض وفاعله مستتر و{من آيات ربه} حال مقدّمة على المفعول و{الكبرى} مفعول {رأى} والتقدير لقد رأى الآيات الكبرى حال كونها من جملة آيات ربه ويحتمل أن تكون {الكبرى} صفة {آيات ربه} لا مفعولا به ويكون المرئي محذوفا لتضخيم الأمر وتعظيمه كأنه قال: لقد رأى من آيات ربه الكبرى أمورا عظاما لا يحيط بها الوصف، والحذف في مثل هذا أبلغ وأهول لأن فيه تفخيما لآيات اللّه الكبرى وأن فيها ما رآه وفيها ما لم يره وهو على الوجه الأول يكون مقتضاه أنه رأى جميع الآيات الكبرى على الشمول والعموم مع أن آيات اللّه مما لا يحيط أحد بجملتها.

.[سورة النجم: الآيات 19- 25]:

{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25)}.

.اللغة:

{اللَّاتَ} جاء في القاموس ما يلي: و{اللاتّ} مشددة التاء صنم وقرأ بها ابن عباس وعكرمة وجماعة، سمي بالذي كان يلت عنده السويق بالسمن ثم خفف، وجاء في البحر قوله: {اللات} صنم كانت العرب تعظمه قال قتادة كان بالطائف وقال أبو عبيدة وغيره كان في الكعبة وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ قال ابن عطية وقول قتادة أرجح ويؤيده قول الشاعر:
وفرّت ثقيف إلى لاتها ** بمنقلب الخائب الخاسر

والتاء في اللات قيل أصلية لام الكلمة كالباء من باب وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة ليت موجودة فإن وجدت مادة من ل وت جاز أن تكون منقلبة من واو وقيل التاء للتأنيث ووزنها فعلة من لوى قيل لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة أو يلتوون عليها أي يطوفون حذفت لامها وقرأ الجمهور {اللات} خفيفة التاء وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بشدّها قال ابن عباس كان هذا رجلا بسوق عكاظ يلت السمن والسويق عند صخرة.
{الْعُزَّى} فعلى من العز وهي تأنيث الأعز كالفضلى والأفضل وهي اسم صنم وقيل شجرة كانت تعبد وعبارة الكشاف: والعزى كانت لغطفان وهي سمرة وأصلها تأنيث الأعز وبعث إليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويليها واضعة يدها على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهي تقول:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت اللّه قد أهانك

ورجع فأخبر رسول اللّه فقال عليه السلام «تلك العزى ولن تعبد أبدا» وجاء في القاموس والعزى العزيزة وتأنيث الأعز، وصنم أو سمرة عبدتها غطفان أول من اتخذها ظالم بن أسعد فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال بنى عليها بيتا وسمّاه بسا وكانوا يسمعون فيها الصوت فبعث إليها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة.
{مَناةَ} صخرة كانت لهذيل وخزاعة وعن ابن عباس لثقيف واشتقاقها من منى يمنى أي صبّ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها.
{ضِيزى} جائرة من ضازه يضيزه إذا ضامه وجار عليه وعلى هذا فتحتمل وجهين أحدهما أن تكون صفة على فعلى بضمّ الفاء وإنما كسرت الفاء لتصحّ الياء كبيض، فإن قيل: وأي ضرورة تدعو إلى أن يقدّر أصلها ضم الفاء ولم لا قيل فعلى بالكسر؟ فالجواب أن سيبويه حكى أنه لم يرد في الصفات فعلى بكسر الفاء وإنما ورد بضمها نحو حبلى وأنثى وربا وما أشبهه إلا أن غيره حكى في الصفات ذلك حكى ثعلب: ميتة حيكى ورجل كيسى وحكى غيره امرأة عزهى وامرأة سعلى.
وهذا لا ينقض على سيبويه لأن سيبويه يقول في حيكى وكيسى كقوله في {ضيزى} لتصحّ الياء وأما عزهى وسعلى فالمشهور فيهما عزهاة وسعلاة والوجه الثاني أن تكون مصدرا كذكرى قال الكسائي: يقال ضاز يضيز ضيزى كذكر يذكر ذكرى وقرئ {ضئزى} بهمزة ساكنة ومعنى ضأزه يضأزه: نقصه ظلما وجورا وهو قريب من الأول، وفي المختار ضاز في الحكم جار وضازه فيه نقصه وبخسه وبابهما باع، وسيأتي مزيد بحث عن هذه الكلمة في باب البلاغة.

.الإعراب:

{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى} الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء حرف عطف لترتيب الرؤية على ما ذكر من شئونه تعالى المنافية لها غاية المنافاة والتقدير: أعقيب ما سمعتم من آثار كماله ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت أطباق الثرى أرأيتم هذه الأصنام مع غاية حقارتها وفسولتها شركاء للّه تعالى. ورأيتم فعل وفاعل و{اللات} مفعوله {والعزى} {ومناة} معطوفتان على {اللات} و{الثالثة الأخرى} صفتان الأولى صفة للتين قبلها والثانية صفة ذم للثالثة، وستأتي أسرار هذه الصفات في باب البلاغة، ومفعول رأيتم الثاني محذوف تقديره قادرة على شيء ويجوز أن تكون من رؤية العين فلا تحتاج إلى مفعول ثان.
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى} الهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا ولكم خبر مقدم و{الذكر} مبتدأ مؤخر {وله الأنثى} عطف على لكم الذكر.
{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزى} {تلك} مبتدأ والإشارة إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية و{إذن} بمعنى الجواب والجزاء والمعنى إذ جعلتم له البنات ولكم البنين و{قسمة} خبر و{ضيزى} صفة لقسمة.
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} {إن} نافية و{هي} مبتدأ و{إلا} أداة حصر و{أسماء} خبر هي و{سميتموها} فعل وفاعل ومفعول به ثان والأول محذوف تقديره أصناما و{أنتم} تأكيد للفاعل ليصحّ عطف {وآباؤكم} عليه على حدّ قول صاحب الخلاصة:
وإن على ضمير رفع متصل ** عطفت فافصل بالضمير المنفصل

وجملة {سميتموها} صفة لأسماء وكذلك جملة {ما أنزل} وما نافية و{أنزل اللّه} فعل وفاعل و{بها} حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطان و{من} حرف جر زائد و{سلطان} مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى} {إن} نافية و{يتبعون} فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل و{إلا} أداة حصر و{الظن} مفعول {يتبعون} والواو حرف عطف {وما} موصول معطوف على الظن ولك أن تجعلها مصدرية والواو حالية أو اعتراضية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{جاءهم} فعل ماض ومفعول به مقدّم و{من ربهم} متعلقان بجاءهم و{الهدى} فاعل {جاءهم} والجملة إما حالية من فاعل {يتبعون} أو معترضة لا محل لها، والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم وتحقيرا لشأنهم.
{أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى} {أم} منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار و{للإنسان} خبر مقدم و{ما} مبتدأ مؤخر وجملة {تمنى} صلة ما أي الذي تمنّاه وترجّاه في الأصنام.
{فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى} الفاء عاطفة على مقدّر مفهوم من معنى أم أي ليس الأمر كذلك وللّه خبر مقدم و{الآخرة} مبتدأ مؤخر {والأولى} عطف على {الآخرة}.

.البلاغة:

1- في قوله تعالى: {ومناة الثالثة الأخرى} أسرار مدهشة تحتاج إلى كثير من الفطنة والدقة لاستخراج ما تنطوي عليه من جمال آسر، فقد وصف {مناة} بقوله: {الثالثة} لأنها أقل بالرتبة من {اللات والعزّى} فقد كانت عندهم دونهما في المنزلة، أما الوصف بقوله: {الأخرى} فإنها تقوّي هذا المعنى وتزيد في وضاعتها وإلا لقال الأخريات، وقد فطن الزمخشري إلى هذا السر الدقيق فقال و{الأخرى} ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله تعالى: {وقالت أخراهم لأولاهم} أي وضعاؤهم لرؤسائهم، وأشرافهم وهذه النكتة تنساق بنا إلى بحث طريف عن الأخرى فهي تأنيث آخر ولا شك أنه في الأصل من التأخر الوجودي إلا أن العرب عدلت به عن الاستعمال في التأخير الوجودي إلى الاستعمال حيث يتقدم ذكر مغاير لا غير حتى سلبته دلالته على المعنى الأصلي بخلاف آخر وآخره على وزن فاعل وفاعلة فإنّ إشعارهما بالتأخير الوجودي ثابت لم يغيّر ومن ثم عدلوا عن أن يقولوا ربيع الآخر على وزن الأفعل وجمادى الأخرى إلى الآخر على وزن فاعل وجمادى الآخرة على وزن فاعلة لأنهم أرادوا أن يفهموا التأخير الوجودي لأن الأفعل والفعلى من هذا الاشتقاق مسلوب الدلالة على غرضهم فعدلوا عنها إلى الآخر والآخرة والتزموا ذلك فيهما.
2- وفي قوله: {تلك إذن قسمة ضيزى} فن عجيب أيضا فقد يتساءل الجاهلون عن السر في استعمال كلمة ضيزى وهي وحشية غير مأنوسة، وسنورد ما أورده ابن الأثير في مثله السائر ثم نردفه بما استخرجناه نحن قال ابن الأثير: وحضر عندي في بعض الأيام رجل متفلسف فجرى ذكر القرآن الكريم فأخذت في وصفه وذكر ما اشتملت عليه ألفاظه ومعانيه من الفصاحة والبلاغة فقال ذلك الرجل وأيّ فصاحة هناك وهو يقول: {تلك إذن قسمة ضيزى}؟ فهل في لفظة {ضيزى} من الحسن ما يوصف فقلت له: اعلم أن لاستعمال الألفاظ أسرارا لم تقف عليها أنت ولا أئمتك مثل ابن سينا والفارابي ولا من أضلّهم مثل أرسطاطاليس وأفلاطون وهذه اللفظة التي أنكرتها في القرآن وهي لفظة {ضيزى} فإنها في موضعها لا يسدّ غيرها مسدّها، ألا ترى أن السورة كلها التي هي سورة النجم مسجوعة على حرف الياء فقال تعالى: {والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى} وكذلك إلى آخر السورة فلما ذكر الأصنام وقسمة الأولاد وما كان يزعمه الكفّار قال: {ألكم الذّكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى}، فجاءت هذه اللفظة على الحرف المسجوع الذي جاءت السورة جميعها عليه وغيرها لا يسدّ مسدّها في مكانها وإذا نزلنا معك أيّها المعاند على ما تريد قلنا: إن غير هذه اللفظة أحسن منها ولكنها في هذا الموضع لا ترد ملائمة لأخواتها ولا مناسبة لأنها تكون خارجة عن حرف السورة، وسأبيّن ذلك فأقول: إذا جئنا بلفظة في معنى هذه اللفظة قلنا قسمة جائرة أو ظالمة ولا شك أن جائرة أو ظالمة أحسن من ضيزى إلا أنّا إذا نظمنا الكلام فقلنا: ألكم الذّكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ظالمة لم يكن النظم كالنظم الأول وصار الكلام كالشيء المعوز الذي يحتاج إلى تمام وهذا لا يخفى على من له ذوق ومعرفة بنظم الكلام فلما سمع ذلك الرجل ما أوردته عليه ربا لسانه في فمه إفحاما، ولم يكن عنده في ذلك شيء سوى العناد.