فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروى مسلم والنسائي هذا الحديث عن جابر ببعض المغايرة حيث روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قضى صلاة الكسوف قال لأصحابه: «ما من شيء توعدونه إلّا قد رأيته في صلاتي هذه. لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجرّ قصبه في النار كان يسرق الحاجّ بمحجنه فإن فطن له قال إنما تعلّق بمحجني وإن غفل عنه ذهب به وحتّى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض حتى ماتت جوعا. ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت مقامي هذا، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه. ثم بدا لي أن لا أفعل فما من شيء توعدونه إلّا قد رأيته في صلاتي هذه». وروى الشيخان والنسائي عن أسماء حديثا فيه مشهد روحاني آخر في اليقظة قالت: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حمد اللّه وأثنى عليه ثم قال ما من شيء لم أكن أريته إلّا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال. يقال ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن فيقول هو محمد رسول اللّه جاءنا بالبينات والهدى فأجبناه واتبعناه هو محمد ثلاثا فيقال نم صالحا فقد علمنا إن كنت لموقنا به وأما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته». وبين هذه الأحاديث التي يتبادر أن من الحكمة التي توخاها النبي صلى الله عليه وسلم في قصة فيها ما رآه من رؤاه المنامية كما هو ملموح فيها قصد الإنذار والترهيب والبشرى والترغيب والحث على الأعمال الصالحة والتزام ما أمر اللّه والتحذير من المخالفة والانحراف نحو ما نهى اللّه عنه من أفعال وتصرفات وبين ما ذكرته بعض الأحاديث عن مشاهدات النبي صلى الله عليه وسلم في إسرائه وبخاصة في معراجه من تماثل عجيب يدعم فيما يتبادر لنا فأرجحناه من أنه مشهد روحاني إن لم يكن رؤيا منامية قصها على أصحابه متوخيا ما ذكرناه من إنذار وترهيب وترغيب وحث وتحذير، ويسوغ القول إن هناك التباسا في الروايات أو من الرواة بسبب بعد الحادث الذي وقع في أواسط العهد المكي، واللّه أعلم.
ونريد أن تحسن الظن في ذكاء الذين انتقدوا ترجيحنا في الطبعة الأولى بأن المعراج ومشاهده مشاهد روحانية إن لم تكن رؤيا منامية فلا نود لهم أن يكونوا قد ظنوا أننا في ما رجحناه ننكر قدرة اللّه على خرق النواميس. فاعترافنا بقدرة اللّه الشاملة ومعجزاته للنبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء وما في ملكوت اللّه وعلمه من عجائب مذهلة يقصر العقل الإنساني عن إدراكها لا يحتاج إلى تكرار وتوكيد في هذه المناسبة. غير أن ترجيحنا إنما كان بسبب الأحاديث المتضاربة في كون المعراج بالروح أو الجسد واليقظة أو المنام ومكان الانطلاق أولا وما روي في صدد كون آيات النجم التي تتخذ قرينة عليه هي في مشهد جبريل عليه السلام ثانيا، والتماثل العجيب بين كثير من المشاهد التي وردت في أحاديث المعراج والمنامات النبوية التي قصها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ثالثا، وكون الرؤيا المنامية أو المشهد الروحاني هما اللذان يتحملان دون اليقظة والجسد معنى انتقاد الزمان والمكان ورؤية المشاهد العجيبة المذهلة الدنيوية والأخروية والسماوية والأرضية والسابقة والحاضرة واللاحقة إلى آخر الحياة في لمحة أو لحظة رابعا. واللّه تعالى أعلم.
ونحن إذ نرجح أن المعراج رؤيا منامية أو مشهد روحاني مماثل لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في مناماته التي قص فيها على أصحابه ما رآه فيها من مشاهد ونبههم إلى ما فيها من عبر ونذر نقرر أن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق. وأن ما يمكن أن يكون قصه على أصحابه مما شاء اللّه تعالى أن يجليه له من مشاهد متنوعة في السماء والأرض وأن يبلغه إياه من أوامر ونواه وأن يريه إياه من مصائر الأتقياء، والمنحرفين هو حق ومن جملة ذلك كيفية فرض الخمسين صلاة ثم تخفيفها بالمراجعة إلى خمس. ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه زار على رأس المؤمنين المسجد الحرام فاعتبر ذلك أمرا ربانيا ورحل مع المؤمنين إلى مكة بسبيل تنفيذه. وأيده اللّه فيما رآه ووصفه بأنه حق كما جاء في آية سورة الفتح هذه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} واللّه تعالى أعلم.
تعليق على ما ورد في كتب التفسير في سياق بعض هذه الآيات من مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل:
ومما يعرض له المفسرون في سياق بعض هذه الآيات والتي قبلها مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل. وقد أوردوا في صدد ذلك أحاديث عديدة ومثبتة ونافية ومؤولة. وفي بعضها تضارب أيضا. منها حديث رواه مسلم عن ابن عباس في معنى {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13)} [النجم: 11- 13] أنه قال: «إنّ محمدا رأى ربّه مرتين بفؤاده» وحديث رواه مسلم عن أبي ذرّ قال: «سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربّك فقال نور. إني أراه. وفي رواية رأيت نورا». وحديث عن عكرمة جاء فيه: «إنه سمع ابن عباس يقول إن محمدا رأى ربّه فقال له أليس اللّه يقول لا تدركه الأبصار؟ فقال له: ويحك إذا تجلّى بنوره، وإنه أريه مرتين». وحديث رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال: قالوا يا رسول اللّه هل رأيت ربّك؟ قال: رأيته بفؤادي مرتين. ثم قرأ: {ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى} النجم [11] وقد روى هذا الحديث أيضا ابن جرير بطرقه.
وحديث رواه ابن أبي حاتم عن أبي ذر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربّه بقلبه ولم يره بعينه». وحديث رواه الإمام أحمد عن مسروق وروى صيغة قريبة له الشيخان والترمذي.
وقد جاء في هذه الصيغة: قال مسروق كنت متكئا عند عائشة فقالت ثلاث من تكلّم بواحدة منهنّ فقد أعظم على اللّه الفرية. من زعم أن محمدا رأى ربّه فقد أعظم على اللّه الفرية واللّه يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ} الأنعام. {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} الشورى [51] فقلت يا أمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني أليس يقول اللّه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} النجم [13] و{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} التكوير [23].
قالت: أنا أول من سأل رسول اللّه قال: «إنما ذاك جبريل ما رأيته في الصورة التي خلق فيها غير هاتين المرتين رأيته مهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض. إلخ». والحديث الذي أوردناه قبل قليل عن الإمام أحمد عن ابن عباس والذي يبدأ بجملة: «أتاني ربّي الليلة في أحسن صورة أحسب يعني في النوم» ثم الزيادات الواردة في الصيغة التي رواها الطبري عن ابن عباس والتي أوردناها آنفا أيضا. وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود في سياق تفسير {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14)} النجم [13- 14] قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاديل من الدر والياقوت».
ويمكن أن يستخلص من هذه الأحاديث أن الضمير في {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى} مصروف على الأرجح إلى جبريل كما هو الشأن في {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى} النجم وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رأى جبريل وإنه لم ير ربه بعينه الباصرة في يقظته وأن ذلك ممتنع.
ونصوص كثير من الأحاديث التي أوردناها هنا تقوي رجحان انقطاع الصلة بين آيات سورة النجم التي نحن في صددها وحادث المعراج وتسوغ القول إنه أقحم عليها إقحاما وإن خبره إنما كان في الأحاديث المروية في صدده. كما أنها تدعم ما قلناه في نهاية التعليق السابق في صدد ماهيته، واللّه أعلم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
قوله تعالى: {عندها جنة المأوى}.
والمأوى مفعل من أوى يأوي إذا انضم إلى المكان وصار إليه واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة وقال مقاتل والكلبي هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وقال كعب جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزر بن حبيش هي جنة من الجنان والصحيح أنه اسم من أسماء الجنة كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال في النار فإن الجحيم هي المأوى وقال ومأواكم النار. اهـ.

.فوائد لغوية إعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في البصيرة:
وهى قوّة القلب المدركة.
ويقال لها: بَصَر أَيضًا: قال الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} وجمع البصر أَبصار، وجمع البصيرة بصائر.
ولا يكاد يقال للجارحة الناظرة بصيرة؛ إِنما هي بَصَرٌ؛ نحو {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} ويقال للقوّة التي فيها أَيضًا: بَصَر.
ويقال منه: أَبصرت، ومن الأَوّل: أَبصرته، وبَصُرت به.
وقلَّما يقال في الحاسّة إِذا لم تضامّه رُؤية القلب: بَصُرت.
ومنه {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} أي على معرفة وتحقُّق.
وقوله: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} أي عليه من جوارحه بصيرة، فتبصّره وتشهد عليه يوم القيامة.
قال الأخفش: جعله في نفسه بصيرة؛ كما يقال: فلان جُود وكرم.
فهاهنا أَيضا كذلك؛ لأَنَّ الإنسان ببديهة عقله يعلم أَن ما يقرّبه إِلى الله هو السّعادة، وما يبعده عن طاعته الشقاوة.
وتأْنيث البصير لأَنَّ المراد بالإِنسان هنا جوارحه.
وقيل: الهاءُ للمبالغة؛ كعلاَّمة، وزاوية.
والضَّرير يقال له: البصير، على سبيل العكس.
والصّواب أَنه قيل له ذلك لمالَه من قوّة بصيرة القلب.
وقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} حمله كثير من المتكلِّمين على الجارحة.
وقيل: في ذلك إِشارة إِلى ذلك، وإِلى الأَذهان، والأَفهام.
والباصرة: الجارحة الناظرة.
{وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} قيل معناه: صار أَهله بُصَراءَ؛ نحو رجل مُخْبِث، ومُضْعِف أي أَهله خُبثاءُ وضعفاءُ.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ}: آية جعلناها عِبرة لهم.
وقوله: {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي انتظر حتى ترى ويرون.
وقوله: {وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ} أي طالبين للبصيرة.
ويصحّ (أَن يستعار) الاستبصار للإِبصار؛ نحو استعارة الاستجابة للإِجابة.
وقوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى} أي تبصيرا وتنبينًا.
يقال: بَصّرته تبصيرًا، وتَبْصِرة؛ نحو ذكَّرته تذكيرًا وتذكرة.
والبصيرة: قطعة من الدّم تلمع، والتُرْس اللامع، وما بين شِقَّتى الثوب، والمزادة، ونحوها التي تبصر منه.
والبَصْرة: حجارة رِخوة تلمع كأَنَّها تُبصر.
وورد البصر في القرآن على وجوه: بصر النظر والحجّة: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا}، وبَصَر الأَدب، والحرمة: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}، وبصر للتعجيل والسّرعة: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}، وبصر الحيرة والحسرة: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}، وبصر للعمى في الكافر، والجهالة: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}، وبصر السّؤال عن المعصية، والطَّاعة: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ}، وبصر في عدم الفائدة والمنفعة: {فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ}، وبصر للغىّ والغفلة: {أُولَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}، وبصير للغِطاءِ واللعنة: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}، وبصير لإِبعاد المنكرين عن اللِّقاءِ والرّؤية: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، وبصر للختم والخسارة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} وبصر للنَّظر والعِبْرة: {فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِي الأَبْصَارِ}. اهـ.

.تفسير الآيات (19- 25):

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر سبحانه من استقامة طريق نبيه عليه الصلاة والسلام مما ثبتت رسالته بما أوحي إليه وما أراه من آياته التي ظهر بها استحقاقه سبحانه الإلهية متفردًا بها، سبب عنه الإنكار عليهم في عبادة معبوداتهم على وجه دال على أنها لا تصلح لصالحة فقال: {أفرأيتم} أي أخبروني بسبب ما تلوت عليكم من هذه الآيات الباهرات.
هل رأيتم رؤية خبرة بالباطن والظاهر {اللاّت} وهو صنم ثقيف {والعزى} وهي شجرة لغطفان وهما أعظم أصنامهم فإنهم كانوا يحلفون بهما {ومناة} وهو صخرة لهذيل وخزاعة، ودل على أنها عندهم بعدهما في الربوبية بقوله مشيرًا بالتعدد بالتعبير عنه بما عبر به إلى أن شيئًا منها لا يصلح لصالحة حتى ولا أن يذكر: {الثالثة الأخرى} أي إنه ما كفاهم في خرق سياج منها العقل في مجرد تعديد الإله بجعله الاثنين حتى أضافوا ثالثًا أقروا بأنه متأخر الرتبة فكان الإله عندهم قد يكون سافلًا ويكون ملازمًا للإنزال وللسفول بكونه أنثى، قال الرازي في اللوامع: وأنثوا أسماءها تشبيهًا لها بالملائكة على زعمهم بأنها بنات الله- انتهى، ولا شك عند من له أدنى معرفة بالفصاحة أن هذا الاستفهام الإنكاري والتعبير بما شأنهم بالولادة التي هي أحب الأشياء إلى الإنسان بل الحيوان لا يوافقه أن يقال بعده ما يقتضي مدحًا بوجه في الوجوه، فتبين بطلان ما نقل نقلًا واهيًا من أنه قيل حين قرئت هذه السورة في هذا المحل: تلك الغرانيق العلا- إلى آخره لعلم كل عربي أن ذلك غاية في الهذيان في هذا السياق، فلا وصلة بهذا السياق المعجز بوجه.
ولما كان التقدير بما أفهمه السياق، كيف ادعيتم أنها آلهة أهي كذلك مع أن عادتكم احتقار الإناث من أن تكون لكم أولادًا، فكيف رضيتم أن تكون لكم آلهة، وتكونوا لها عبادًا مع أنها لم تنزل لكم وحيًا ولا أرسلت لكم رسولًا ولا فعلت مع أحد منكم شيئًا مما كرمنا به عبدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم ولا أرتكم قط آية ولا هي متأهلة لشيء من ذلك، بل لا تملك ضرًا ولا نفعًا وادعيتم أنها بناته واستوطنها جنيات هي بناته وادعيتم مع ادعاء مطلق الولدية لمن لا يلم به حاجة ولا شبه له أن له أردأ الصنفين، فكان ذلك نقصًا مضمومًا إلى نقص- وعلا سبحانه تعالى عن صحابة أو ولد، فاستحققتم بذلك الإنكار الشديد، وعلم بهذا التقدير الذي هدى إليه السياق بطلان حديث الغرانيق ولا سيما مع تعقيبه بقوله: {ألكم} أي خاصة {الذكر} أي النوع الأعلى {وله} أي وحده {الأنثى} أي النوع الأسفل.