فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتمنيَهم أن يكون الرسول ملَكًا وغير ذلك نحو قولهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]، وقولهم: {ائت بقرآن غير هذا أو بدله} [يونس: 15].
وفُرع على الإِنكار أن الله مالك الآخرة والأولى، أي فهو يتصرف في أحوال أهلهما بحسب إرادته لا بحسب تمني الإِنسان.
وهذا إبطال لمعتقدات المشركين التي منها يقينهم بشفاعة أصنامهم.
وتقديم المجرور في {للإنسان ما تمنى}، لأن محط الإِنكار هو أمنيتهم أن تجري الأمور على حسب أهوائهم فلذلك كانوا يُعرضون عن كل ما يخالف أهواءهم.
فتقديم المعمول هنا لإِفادة القصر وهو قصر قلب، أي ليس ذلك مقصورًا عليهم كما هو مقتضى حالهم فنزلوا منزلة من يرون الأمور تجري على ما يتمنّون، أي بل أماني الإِنسان بيد الله يعطي بعضها ويمنع بعضها كما دل عليه التفريع عقبه بقوله: {فللَّه الآخرة والأولى}.
وهذا من معاني الحكمة لأن رغبة الإِنسان في أن يكون ما يتمناه حاصلًا رغبة لو تبصّر فيها صاحبها لوجد تحقيقها متعذرًا لأن ما يتمناه أحد يتمناه غيره فتتعارض الأماني فإذا أُعطي لأحد ما يتمنّاه حُرم من يتمنَّى ذلك معه فيفضي ذلك إلى تعطيل الأمنيتين بالأخارة، والقانون الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون أن الحظوظ مقسمة، ولكل أحد نصيب، ومن حق العاقل أن يتخلق على الرضى بذلك وإلا كان الناس في عيشة مريرة.
وفي الحديث «لا تَسْأَلِ المرأةُ طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتقعُد فإن لها ما كُتب لها».
وتفريع {فللَّه الآخرة والأولى} تصريح بمفهوم القصر الإِضافي كما علمت آنفًا.
وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي لله لا للإِنسان.
و {الآخرة} العالم الأخروي، و{الأولى} العالم الدنيوي.
والمراد بهما ما يحتويان عليه من الأمور، أي أمور الآخرة وأمور الأولى، والمقصود من ذكرهما تعميم الأشياء مثل قوله: {رب المشرقين ورب المغربين} [الرحمن: 17].
وإنما قدمت الآخرة للاهتمام بها والتثنية إلى أنها التي يجب أن يكون اعتناء المؤمنين بها لأن الخطاب في هذه الآية للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين، مع ما في هذا التقديم من الرعاية للفاصلة. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)}.
{والنجم}: هم الصحابة.
وقيل: العلماء مفرد أريد به الجمع، وهو في اللغة خرق الهوى ومقصده السفل، إذ مصيره إليه، وإن لم يقصد إليه.
وقال الشاعر:
هوى الدلو اسلمها الرشا

ومنه: هوى العقاب.
{صاحبكم}: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخطاب لقريش: أي هو مهتد راشد، وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي.
{وما ينطق}: أي الرسول عليه الصلاة والسلام، {عن الهوى}: أي عن هوى نفسه ورأيه.
{إن هو إلا وحى} من عند الله، {يوحى} إليه.
وقيل: {وما ينطق}: أي القرآن، عن هوى وشهوة، كقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} {إن هو}: أي الذي ينطق به.
أو {إن هو}: أي القرآن.
{علمه}: الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمفعول الثاني محذوف، أي علمه الوحي.
أو على القرآن، فالمفعول الأول محذوف، أي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم.
{شديد القوى}: هو جبريل، وهو مناسب للأوصاف التي بعده، وقاله ابن عباس وقتادة والربيع.
وقال الحسن: {شديد القوى}: هو الله تعالى، وهو بعيد.
{ذو مرة}: ذو قوة، ومنه لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى.
وقيل: ذو هيئة حسنة.
وقيل: هو جسم طويل حسن.
ولا يناسب هذان القولان إلا إذا كان شديد القوى هو جبريل عليه السلام.
{فاستوى}: الضمير لله في قوله الحسن، وكذا {وهو بالأفق الأعلى} لله تعالى، على معنى العظمة والقدرة والسلطان.
وعلى قول الجمهور: {فاستوى}: أي جبريل في الجو، {وهو بالأفق الأعلى}، إن رآه الرسول عليه الصلاة والسلام بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قاب قوسين، وكذلك هو المرئي في النزلة الأخرى بستمائة جناح عند السدرة، قاله الربيع والزجاج.
وقال الطبري: والفراء: المعنى فاستوى جبريل؛ وقوله: {وهو}، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين.
وقد يقال: الضمير في استوى للرسول، وهو لجبريل، والأعلى لعمه الرأس وما جرى معه.
وقال الحسن وقتادة: هو أفق مشرق الشمس.
وقال الزمخشري: {فاستوى}: فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل في صورة دحية، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فاستوى له بالأفق الأعلى، وهو أفق الشمس، فملأ الأفق.
وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم، مرة في الأرض، ومرة في السماء.
{ثم دنا} من رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فتدلى}: فتعلق عليه في الهوى.
وكان مقدار مسافة قربه منه مثل {قاب قوسين}، فحذفت هذه المضافات، كما قال أبو علي في قوله:
وقد جعلتني من خزيمة أصبعا

أي: ذا مسافة مقدار أصبع، {أو أدنى} على تقديركم، كقوله: {أو يزيدون} {إلى عبده}: أي إلى عبد الله، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر، لأنه لا يلبس، كقوله: {ما ترك على ظهرها} {ما أوحى}: تفخيم للوحي الذي أوحي إليه قبل. انتهى.
وقال ابن عطية: {ثم دنا}، قال الجمهور: أي جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام عند حراء.
وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء: ما يقتضي أن الدنو يستند إلى الله تعالى.
وقيل: كان الدنو إلى جبريل.
وقيل: إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أي دنا وحيه وسلطانه وقدرته، والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله: {ولقد رءاه نزلة أخرى}، فإنه يقتضي نزلة متقدمة.
وما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه قبل ليلة الإسراء.
ودنا أعم من تدلى، فبين هيئة الدنو كيف كانت قاب قدر، قال قتادة وغيره: معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر.
وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض.
وقال أبو رزين: ليست بهذه القوس، ولكن قدر الذراعين.
وعن ابن عباس: أن القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال.
وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز.
{فأوحى}: أي الله، {إلى عبده}: أي الرسول صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس.
وقيل: {إلى عبده} جبريل، {ما أوحى}: إبهام على جهة التعظيم والتفخيم، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات.
وقال الحسن: فأوحى جبريل إلى عبد الله، محمد صلى الله عليه وسلم، ما أوحى، كالأول في الإبهام.
وقال ابن زيد: فأوحى جبريل إلى عبد الله، محمد صلى الله عليه وسلم، ما أوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام.
وقال الزمخشري: {ما أوحى}: أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
{ما كذب} فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل: أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق. انتهى.
وقرأ الجمهور: {ما كذب} مخففًا، على معنى: لم يكذب قلب محمد صلى الله عليه وسلم الشيء الذي رآه، بل صدقه وتحققه نظرًا، وكذب يتعدى.
وقال ابن عباس وأبو صالح: رأى محمد صلى الله عليه وسلم الله تعالى بفؤاده.
وقيل: ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه، بل صدقه وتحققه، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى.
وعن ابن عباس وعكرمة وكعب الأحبار: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه، وأبت ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها، وقالت: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيات، فقال لي: «هو جبريل عليه السلام فيها كلها» وقال الحسن: المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته.
وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: «نورانى أراه» وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ، لأن قول غيرها إنما هو منتزع من ألفاظ القرآن، وليست نصًا في الرؤية بالبصر، بلا ولا بغيره.
وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر: {ما كذب} مشددًا.
وقال كعب الأحبار: إن الله قسم الرؤية والكلام بين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لقد وقف شعري من سماع هذا، وقرأت: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أن المرئي مرتين هو جبريل، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى.
وقرأ الجمهور: {أفتمارونه}: أي أتجادلونه على شيء رآه ببصره وأبصره، وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة، وجاء يرى بصيغة المضارع، وإن كانت الرؤية قد مضت، إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد.
وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي: بفتح التاء وسكون الميم، مضارع مريت: أي جحدت، يقال: مريته حقه، إذا جحدته، قال الشاعر:
لثن سخرت أخا صدق ومكرمة ** لقد مريت أخًا ما كان يمريكا

وعدى بعلى على معنى التضمين.
وكانت قريش حين أخبرهم صلى الله عليه وسلم بأمره في الإسراء، كذبوا واستخفوا، حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر غيرهم، وغير ذلك مما هو مستقصى في حديث الإسراء.
وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه، والشعبي فيما ذكر شعبة: بضم التاء وسكون الميم، مضارع أمريت.
قال أبو حاتم: وهو غلط.
{ولقد رءاه}: الضمير المنصوب عائد على جبريل عليه السلام، قال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع.
{نزلة أخرى}: أي مرة أخرى، أي نزل عليه جبريل عليه السلام مرة أخرى في في صورة نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلة المعراج.
وأخرى تقتضي نزلة سابقة، وهي المفهومة من قوله: {ثم دنا} جبريل، {فتدلى}: وهو الهبوط والنزول من علو.
وقال ابن عباس وكعب الأحبار: الضمير عائد على الله، على ما سبق من قولهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين.
وانتصب نزلة، قال الزمخشري: نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل.
وقال الحوفي وابن عطية: مصدر في موضع الحال.
وقال أبو البقاء: مصدر، أي مرة أخرى، أو رؤية أخرى.
{عند سدرة المنتهى}، قيل: هي شجرة نبق في السماء السابعة.
وقيل: في السماء السادسة، ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة.
تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها.
والمنتهى موضع الانتهاء، لأنه ينتهي إليها علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها صعدًا إلا الله تعالى عز وجل؛ أو ينتهي إليها كل من مات على الإيمان من كل جيل؛ أو ينتهي إليها ما نزل من أمر الله تعالى، ولا تتجاوزها ملائكة العلو وما صعد من الأرض، ولا تتجاوزها ملائكة السفل؛ أو تنتهي إليها أرواح الشهداء؛ أو كأنها في منتهى الجنة وآخرها؛ أو تنتهي إليها الملائكة والأنبياء ويقفون عندها؛ أو ينتهي إليها علم الأنبياء ويعزب علمهم عن ما وراءها؛ أو تنتهي إليها الأعمال؛ أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة، أقوال تسعة.
{عندها جنة المأوى}: أي عند السدرة، قيل: ويحتمل عند النزلة.
قال الحسن: هي الجنة التي وعدها الله المؤمنين.
وقال ابن عباس: بخلاف عنه؛ وقتادة: هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء، وليست بالتي وعد المتقون جنة النعيم.
وقيل: جنة: مأوى الملائكة.
وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة: جنه، بهاء الضمير، وجن فعل ماض، والهاء ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أي عندها ستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه.
وقيل: المعنى ضمه المبيت والليل.
وقيل: جنه بظلاله ودخل فيه.
وردّت عائشة وصحابة معها هذه القراءة وقالوا: أجن الله من قرأها؛ وإذا كانت قراءة قرأها أكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد ردّها.
وقيل: إن عائشة رضي الله تعالى عنها أجازتها.
وقراءة الجمهور: {جنة المأوى}، كقوله في آية أخرى: {فلهم جنات المأوى نزلًا} {إذ يغشى السدرة ما يغشى}: فيه بإبهام الموصول وصلته تعظيم وتكثير للغاشي الذي يغشاه، إذ ذاك أشياء لا يعلم وصفها إلا الله تعالى.
وقيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة، يعبدون الله عندها.