فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومناةُ صخرةٌ لهُذَيلٍ وخُزاعةَ وقيلَ لثقيفٍ وكأنَّها سميتْ مناةَ لأنَّ دماءَ النسائِكَ تُمْنَى عندَها أي تُراقُ. وقرئ {ومناءة} وهي مفعلة من النَّوءِ كأنَّهم كانُوا يستمطرونَ عندَها الأنواءَ تبركًا بها، و(الأُخْرى) صفةُ ذمَ لهَا وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ. وقدْ جُوِّزَ أنْ تكونَ الأوليةَ والتقدمَ عندهم للاتِ والعُزَّى. ثمَّ أنَّهم كانُوا معَ ما ذُكِرَ من عبادتِهم لها يقولونَ إنَّ الملائكةَ وتلكَ الأصنامَ بناتُ الله تعالى الله عن ذلكَ عُلوًا كبيرًا فقيلَ لهم توبيخًا وتبكيتًا أفرأيتُم الخ. والهمزةُ للإنكارِ، والفاءُ لتوجيهه إلى ترتيب الرؤيةِ على ما ذُكِرَ من شؤونِ الله تعالى المنافيةِ لها غايةَ المُنافاةِ، وهي قلبيةٌ ومفعولُها الثَّانِي محذوفٌ لدلالةِ الحال عليهِ فالمَعْنى أعَقيبَ ما سمعتُم من آثارِ كمالِ عظمةِ الله عزَّ وجلَّ في مُلكِه وملكوتِه وجلالِه وجبروتِه وإِحكامِ قدرتِه ونفاذِ أمرِه في الملأ الأَعْلى وما تحتَ الثَّرى وما بينهما رأيتُم هذهِ الأصنامَ مع غايةِ حقارتِها وقماءتِها بناتٍ له تعالى وقيلَ المعَنْى أفرأيتُم هذِه الأصنامَ مع حقارتِها وذلَّتِها شركاءَ الله تعالى معَ ما تقدمَ من عظمتِه وقيلَ أخبرونِي عن آلهتِكم هلْ لهَا شيءٌ من القُدرةِ والعظمةِ التي وُصفَ بها ربُّ العزةِ في الآي السابقةِ وقيلَ المَعْنى أظننتُم أنَّ هذه الأصنامَ التي تعبدونها تنفعُكم وقيل أظننتُم أنَّها تشفعُ لكُم في الآخرةِ وقيل أفرأيتُم إلى هذهِ الأصنامِ إنْ عبدتُموها لا تنفعْكُم وإنْ تركتُموَها لا تضرَّكم والأولُ هو الحقُّ كما يشهدُ به قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى} شهادةٌ بينةً فإنَّه توبيخٌ مبنيٌّ على التوبيخِ الأولِ وحيثُ كانَ مدارُه تفضيلَ جانبِ أنفسِهم على جنابهِ تعالى بنسبتِهم إليه تعالى الإناثَ مع اختيارِهم لأنفسِهم الذكورَ وجبَ أن يكون مناطُ الأولِ نفسَ تلك النسبةِ حتَّى يتسنَّى بناءُ التوبيخِ الثانِي عليهِ، وظاهرٌ أنْ ليسَ في شيءٍ من التقديراتِ المذكورةِ من تلكَ النسبةِ عينٌ ولا أثرٌ وأما ما قيلَ من أنَّ هذه الجملةَ مفعولٌ ثانٍ للرؤيةِ وخلوُّها عن العائدِ إلى المفعولِ الأولِ لما أنَّ الأصلَ أخبرونِي أن اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ألكُم الذكرُ وله هُنَّ أي تلكَ الأصنامُ فوضعَ موضَعها الأُنثى لمراعاةِ الفواصلِ وتحقيقِ مناطِ التوبيخِ فمعَ ما فيه من التمحلاتِ التي ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثالها يقتضِي اقتصارَ التوبيخِ على ترجيحِ جانبِهم الحقير على جنابِ الله العزيز الجليلِ من غيرِ تعرضٍ للتوبيخِ على نسبةِ الولدِ إليه سبحانه.
{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}.
{تِلْكَ} إشارةٌ إلى القسمةِ المنفهمةِ من الجملةِ الاستفهاميةِ {إِذًا قِسْمَةٌ ضيزى} أي جائرةً حيثُ جعلتُم له تعالى ما تستنكفونَ منه وهي فُعْلَى من الضيزِ وهُو الجورُ لكنَّه كُسرَ فاؤُه لتسلمَ الياءُ كما فُعلَ في بِيْضٍ فإنَّ فِعْلى بالكسرِ لم يأتِ في الوصفِ، وقرئ {ضئْزَى} بالهمزةِ من ضأَزَهُ إذا ظلمَهُ على أنه مصدرٌ نُعتَ. وقرئ {ضَيزى} إما على أنه مصدرٌ وصف به كدعوى أو على أنه صفة كسَكْرى وعطشى.
{إِنْ هِىَ} الضميرُ للأصنامِ أيْ ما الأصنامُ باعتبار الألوهيةِ التي يدَّعُونها {إِلاَّ أَسْمَاء} محضةٌ ليسَ تحتَها مما تنبىءُ هي عنْهُ من معَنْى الألوهيةِ شيءٌ ما أصلًا. وقوله تعالى: {سَمَّيْتُمُوهَا} صفة لأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعَنْى جعلتمُوها أسماءً لا جعلتُم لها أسماءً فإنَّ التسميةَ نسبةً بين الاسمِ والمُسمَّى فإذا قيستْ إلى الإسمِ فمعناهَا جعلُه إسمًا للمسمَّى وإن قيستْ إلى المسمَّى فمعناهَا جعلُه مسمَّى للإسمِ، وإنما اختيرَ هاهنا المعَنْى الأولُ من غيرِ تعرضٍ للمسمَّى لتحقيق أن تلكَ الأصنامَ التي يسمُّونها آلهةً أسماءً مجردةٌ ليسَ لها مسمياتٌ قطعًا كما في قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا} الآيةَ لا أنَّ هناكَ مسمياتٍ لكنَّها لا تستحقُ التسميةَ وقيلَ هي للأسماءِ الثلاثةِ المذكورةِ حيثُ كانُوا يطلقونَها على تلك الأصنامِ لاعتقادِهم أنَّها تستحقُّ العكوفَ على عبادتِها والإعزازَ والتقربَ إليها بالقرابين وأنتَ خبيرٌ بأنَّه لو سُلِّم دلالةُ الأسماءِ المذكورةِ على ثبوبِ تلك المعانِي الخاصَّةِ للأصنامِ فليسَ في سلبِها عنها مزيدُ فائدةٍ بل إنَّما يه في سلبِ الألوهيةِ عنها كما هو زعمُهم المشهورُ في حقِّ جميعِ الأصنامِ على وجهٍ برهانيَ، فإنَّ انتفاءَ الموصوفِ يقتضِي انتفاءَ الوصفِ بطريقِ الأولويةِ أيْ ما هيَ إلا أسماءٌ خاليةٌ عنِ المسمياتِ وضمعتُموها {أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ} بمقتضَى أهوائِكم الباطلةِ {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} برهانٍ تتعلقونَ به {إِن يَتَّبِعُونَ} التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بأنَّ تعدادَ قبائحِهم اقتضَى الإعراضَ عنهم وحكايةَ جناياتِهم لغيرِهم أي ما يتبعونَ فيما ذُكرَ من التسميةِ والعملِ بموجِبها {إِلاَّ الظن} إلا توهَم أَن ما هُم عليهِ حقٌّ توهمًا باطلًا {وَمَا تَهْوَى الأنفس} أي تشتهيِه أنفسُهم الأمارةُ بالسُّوءِ {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} قيلَ هي حالٌ من فاعلِ يتبعونَ أو اعتراضٌ وأيًا ما كان ففيهِ تأكيدٌ لبطلانِ اتباعِ الظنِّ وهو النفسُ وزيادةُ تقبيحٍ لحالِهم فإنَّ ابتاعَهما من أيِّ شخصٍ كان قبيحٌ وممن هداهُ الله تعالى بإرسالِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وإنزالِ الكتابِ أقبحُ.
{أَمْ للإنسان مَا تمنى} أمْ منقطعةٌ وما فيَها من بلْ للانتقال من بيانِ أنَّ ما هُم عليهِ غيرُ مستندٍ إلا إلى توهمِهم وهَوَى أنفسِهم إلى بيانِ أنَّ ذلكَ ممَّا لا يُجدي نفعًا أصلًا. والهمزةُ للإنكارِ والنَّفي، أي ليسَ للإنسانِ كلُّ ما يتمنَّاهُ وتشتهيِه نفُسه من الأمورِ التي من جُمْلتِها أطماعُهم الفارغةُ في شفاعةِ الآلهةِ ونظائرِها التي لا تكادُ تدخلُ تحتَ الوجودِ {فَلِلَّهِ الأخرة والأولى} تعليلٌ لانتفاءِ أنْ يكونَ للإنسانِ ما يتمنَّاهُ حتمًا فإنَّ اختصاصَ أمورِ الآخرةِ والأُولى جميعًا بهِ تعالى مقتضٍ لانتفاءِ أن يكونَ له أمرٌ من الأمور.
وقوله تعالى: {وَكَمْ مّن مَّلَكٍ في السموات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئًا} إقناطٌ لهم عمَّا علَّقُوا به أطماعَهم من شفاعةِ الملائكةِ لهم موجبٌ لإقناطِهم من شفاعةِ الأصنامِ بطريقِ الأولويةِ وكم خبريةٌ مفيدةٌ للتكثيرِ محلُّها الرفعُ على الابتداءِ، والخبرُ هي الجملةُ المنفيةُ وجمعُ الضميرِ في شفاعتِهم مع إفرادِ المَلكِ باعتبارِ المَعْنى أي وكثيرٌ من الملائكةِ لا تُغني شفاعتُهم عند الله تعالى شيئًا من الإغناءِ في وقتٍ من الأوقاتِ {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله} لهمُ في الشفاعةِ {لِمَن يَشَاء} إنْ يشفعوا له {ويرضى} ويراهُ أهلًا للشفاعةِ من أهلِ التوحيدِ والإيمانِ، وأمَّا من عداهُم من أهلِ الكفرِ والطغيانِ فهمُ من إذنِ الله تعالى بمعزلٍ من الشفاعةِ بألفِ منزلٍ، فإذا كانَ حالُ الملائكةِ في بابِ الشفاعةِ كما ذُكِرَ فما ظنُّهم بحالِ الأصنامِ {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وبما فيها من العقابِ على ما يتعاطَونه من الكفرِ والمعاصي {لَيُسَمُّونَ الملائكة} المنزهينَ عن سماتِ النقصانِ على الإطلاقِ أي يسمون كلَّ واحدٍ منهم {تَسْمِيَةَ الأنثى} فإن قولهم الملائكةُ بناتُ الله قول منهُم بأنَّ كلًا منهم بنتُه سبحانه، وهي التسميةُ بالأُنثى، وفي تعليقِها بعدمِ الإيمانِ بالآخرةِ إشعارٌ بأنَّها في الشناعةِ والفظاعةِ واستتباعِ العقوبةِ في الآخرةِ بحيثُ لا يجترىءُ عليها إلا مَنْ لا يؤمنُ بَها رأسًا. وقوله تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حالٌ من فاعِل يسمُّون أي يسمونَهم والحالُ أنَّه لا علمَ لهم بما يقولونَ أصلًا. وقرئ بَها أي بالملائكةِ أو بالتسميةِ.
{إِن يَتَّبِعُونَ} في ذلكَ {إِلاَّ الظن} الفاسدَ {وَإِنَّ الظن} أي جنسَ الظنِّ كما يلوحُ به الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ {لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} من الإغناءِ، فإن الحقَّ الذي هو عبارةٌ عن حقيقةِ الشيءِ لا يُدرك إلا بالعلمِ، والظنُّ لا اعتدادَ به في شأنِ المعارفِ الحقيقيةِ وإنما يعتدُّ به في العملياتِ وما يؤدِّي إليها.
{فَأَعْرَضَ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} أي عنْهم. ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتوسلِ بهِ، أي وصفُهم بما في حيزِ صلتِه من الأوصافِ القبيحةِ وتعليلِ الحكمِ بهَا أيْ فأعرضْ عمَّن أعرضَ عن ذكرِنا المفيدِ للعلمِ اليقينيِّ وهو القرآن المُنطوي عَلى علومِ الأولينَ والآخرينَ المذكرِ لأمورِ الآخرةِ أو عن ذكرِنا كما ينبغِي فإنَّ ذلكَ مستتبعٌ لذكرِ الآخرة وما فيها من الأمور المرغوبِ فيها والمرهوبِ عنَها.
{وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا} راضيًا بها قاصرًا نظرَهُ عليها، والمرادُ النهيُ عن دعوتِه والاعتناءُ بشأنِه فإنَّ من أعرضَ عمَّا ذُكرَ وانهمكَ في الدُّنيا بحيثُ كانتْ هي مُنتهَى همتِه وقُصارَى سعيِه لا تزيدُه الدعوةُ إلى خلافِها إلا عنادًا وإصرارًا على الباطلِ.
{ذلك} أي ما أدَّاهم فيهِ من التولِّي وقصْرِ الإرادةِ على الحياةِ الدُّنيا {مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} لا يكادونَ يجاوزونَهُ إلى غيرهِ حتَّى تُجديهم الدعوةُ والإرشادُ وجمعُ الضميرِ في مبلغُهم باعتبارِ مَعْنى مَنْ كَما أنَّ إفراده فيمَا سبقَ باعتبارِ لفظِها، والمرادُ بالعلمِ مطلقُ الإدراكِ المنتظمِ للظنِّ الفاسدِ والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلَها من قصرِ الإرادةِ على الحياةِ الدُّنيا. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} تعليلٌ للأمرِ بالإعراضِ وتكريرُ قوله تعالى هو أعلمُ لزيادةِ التقريرِ والإيذانِ بكمالِ تباينِ المعلومَينِ والمرادُ بمَنْ ضَلَّ منْ أصرَّ عليهِ ولم يرجعُ إلى الهُدَى أصلًا وبمَنْ اهتدَى مَنْ شأنُه الاهتداءُ في الجملةِ أي هو المبالغُ في العلمِ بمن لا يرعوِي عنِ الضلالِ أبدًا وبمن يقبلُ الاهتداءَ في الجملةِ لا غيرُه فلا تُتعبْ نفسَك في دعوتِهم فإنَّهم من القبيلِ الأولِ، وفي تعليلِ الأمرِ بإعراضِه عليهِ السلام عن الاعتناءِ بأمرِهم باقتصارِ العلمِ بأحوالِ الفريقينِ عليهِ تعالى رمزٌ إلى أنَّه تعالى يعاملُهم بموجبِ علمِه بهم فيجزى كلًا منْهم بما يليقُ بهِ من الجزاءِ ففيهِ وعيدٌ ووعدٌ ضِمنًا كما سيأتي صَريحًا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {والنجم إِذَا هوى}.
التعريف للجنس، والمراد به: جنس النجوم، وبه قال جماعة من المفسرين، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا ** والثريا في الأرض زين النساء

وقيل: المراد به: الثريا، وهو اسم غلب فيها، تقول العرب: النجم، وتريد به الثريا، وبه قال مجاهد، وغيره، وقال السديّ، النجم هنا: هو الزهرة؛ لأن قومًا من العرب كانوا يعبدونها، وقيل: النجم هنا: النبت الذي لا ساق له، كما في قوله: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] قاله الأخفش.
وقيل: النجم محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: النجم القرآن؛ وسمي نجمًا لكونه نزل منجمًا مفرّقًا، والعرب تسمي التفريق تنجيمًا، والمفرّق: المنجم، وبه قال مجاهد، والفراء، وغيرهما، والأوّل أولى.
قال الحسن: المراد بالنجم: النجوم إذا سقطت يوم القيامة.
وقيل المراد بها: النجوم التي ترجم بها الشياطين، ومعنى هويه: سقوطه من علو، يقال: هوى النجم يهوي هويًا: إذا سقط من علو إلى سفل، وقيل: غروبه، وقيل: طلوعه، والأوّل أولى، وبه قال الأصمعي وغيره، ومنه قول زهير:
تسيح بها الأباعر وهي تهوى ** هويّ الَّدلْوِ أسْلَمَها الرشَاءُ

ويقال: هوى في السير: إذا مضى؛ ومنه قول الشاعر:
بينما نَحْنُ بالبِلاكثِ فالقا ** عِ سِراعًا والعِيسُ تَهْوِى هُويا

خَطَرتْ خَطْرة على القلب من ذك ** رَاكِ وَهنًا فما استطعت مُضيا

ومعنى الهوَي على قول من فسر النجم بالقرآن: أنه نزل من أعلا إلى أسفل، وأما على قول من قال إنه الشجر الذي لا ساق له، أو أنه محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يظهر للهويّ معنى صحيح، والعامل في الظرف فعل القسم المقدّر، وجواب القسم قوله: {مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى} أي: ما ضلّ محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق والهدى، ولا عدل عنه، والغيّ: ضدّ الرشد، أي: ما صار غاويًا ولا تكلم بالباطل، وقيل: ما خاب فيما طلب، والغَيّ: الخيبة، ومنه قول الشاعر:
فمن يْلَق خيرًا يحمِد النَّاسُ أَمْرَهُ ** وَمْن يَغْوَ لا يعدم على الغيِّ لائمًا

وفي قوله: {صاحبكم} إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله، والخطاب لقريش {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي: ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره، فعن على بابها.
وقال أبو عبيدة: إنّ عن بمعنى الباء أي: بالهوى.
قال قتادة: أي: ما ينطق بالقراءة عن هواه {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} أي: ما هو الذي ينطق به إلاّ وحي من الله يوحيه إليه.
وقوله: {يُوحَى} صفة لوحي تفيد الاستمرار التجددي، وتفيد نفي المجاز، أي: هو وحي حقيقة لا لمجرد التسمية {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} القوى جمع قوّة، والمعنى: أنه علمه جبريل الذي هو شديد قواه، هكذا قال أكثر المفسرين: إن المراد: جبريل.
وقال الحسن: هو الله عزّ وجلّ، والأوّل أولى، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف {ذُو مِرَّةٍ فاستوى} المرّة: القوّة والشدّة في الخلق، وقيل: ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه قول النبيّ: «لا تحل الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سوي» وقيل: ذو حصانة عقل، ومتانة رأي.
قال قطرب: العرب تقول لكلّ من هو جزل الرأي، حصيف العقل ذو مرّة، ومنه قول الشاعر:
قد كنت قبلَ لِقائكُمُ ذا مِرّةٍ ** عندي لِكلُّ مخاصِمٍ مِيزانُهُ

والتفسير للمرّة بهذا أولى؛ لأن القوّة والشدّة قد أفادها قوله: {شَدِيدُ القوى} قال الجوهري: المرّة إحدى الطبائع الأربع، والمرّة: القوّة وشدّة العقل، والفاء في قوله: {فاستوى} للعطف على علَّمه، يعني جبريل، أي: ارتفع وعاد إلى مكانه في السماء بعد أن علم محمدًا صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وقيل: معنى استوى: قام في صورته التي خلقه الله عليها؛ لأنه كان يأتي النبي في صورة الآدميين، وقيل المعنى: فاستوى القرآن في صدره صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن:- فاستوى يعني: الله عزّ وجلّ- على العرش {وَهُوَ بالأفق الأعلى} هذه الجملة في محل نصب على الحال أي: فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى، والمراد بالأفق الأعلى: جانب المشرق، وهو فوق جانب المغرب، وقيل المعنى: فاستوى عاليًا، والأفق: ناحية السماء، وجمعه آفاق، قال قتادة، ومجاهد: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس، وقيل: هو يعني جبريل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة.
{ثُمَّ دَنَا فتدلى} أي: دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، أي: قرب من الأرض فتدلى، فنزل على النبيّ بالوحي، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ثم تدلى فدنى، قاله ابن الأنباري، وغيره.
قال الزجاج: معنى {دَنَا فتدلى} واحد، أي: قرب وزاد في القرب؛ كما تقول: فدنا مني فلان وقرب، ولو قلت: قرب مني ودنا جاز.
قال الفراء: الفاء في فتدلى بمعنى الواو، والتقدير: ثم تدلى جبريل ودنا، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدًا أن تقدّم أيهما شئت.
قال الجمهور: والذي دنا فتدلى هو جبريل، وقيل: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: دنا منه أمره وحكمه، والأوّل أولى.
قيل: ومن قال: إن الذي استوى هو جبريل ومحمد، فالمعنى عنده: ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة، فتدلى، أي: هوى للسجود، وبه قال الضحاك {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى} أي: فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم، أو ما بين محمد وربه قاب قوسين، أي: قدر قوسين عربيين.
والقاب والقيب، والقاد والقيد: المقدار، ذكر معناه في الصحاح.
قال الزجاج: أي: فيما تقدّرون أنتم، والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا.
وقيل: أو بمعنى الواو، أي: وأدنى، وقيل: بمعنى بل، أي: بل أدنى.
وقال سعيد بن جبير، وعطاء، وأبو إسحاق الهمداني، وأبو وائل شقيق بن سلمة {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ}: قدر ذراعين، والقوس: الذّراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض الحجازيين، وقيل: هي لغة أزد شنوءة.
وقال الكسائي: فكان قاب قوسين أراد قوسًا واحدة.
{فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} أي: فأوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وفيه تفخيم للوحي الذي أوحي إليه، والوحي: إلقاء الشيء بسرعة، ومنه الوحا وهو السرعة، والضمير في {عبده} يرجع إلى الله، كما في قوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وقيل المعنى: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، وبالأوّل قال الربيع، والحسن، وابن زيد، وقتادة.