فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أمهاتكم فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى}.
الخطاب للمؤمنين، ووقوعه عقب قوله: {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} ينبىء عن اتصال معناه بمعنى ذلك فهو غير مُوجه لليهود كما في (أسباب النزول) للواحدي وغيره.
وأصله لعبد الله بن لهيعة عن ثابت بن حارث الأنصاري.
قال: «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير يقولون: هو صدِّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد» فأنزل الله هذه الآية.
وعبد الله بن لهيعة ضَعفه ابن معين وتَركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي.
وقال الذهبي: العَمل على تضعيفه، قلت: لعل أحد رواة هذا الحديث لم يضبط فقال: فأنزل الله هذه الآية، وإنما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذًا بعموم قوله: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض} الخ، حجة عليهم، وإلاّ فإن السورة مكية والخوض مع اليهود إنما كان بالمدينة.
وقال ابن عطية: حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم.
وكأنَّ الباعث على تطلب سبب لنزولها قصد إبداء وجه اتصال قوله: {فلا تزكوا أنفسكم} بما قبله وما بعده وأنه استيفاء لمعنى سعة المغفرة ببيان سعة الرحمة واللطف بعباده إذْ سلك بهم مسلك اليسر والتخفيف فعفا عمّا لو آخذهم به لأحرجهم فقوله: {هو أعلم بكم} نظير قوله: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا} [الأنفال: 66] الآية ثم يجيء الكلام في التفريع بقوله: {فلا تزكوا أنفسكم}.
فينبغي أن تحل جملة {هو أعلم بكم} إلى آخرها استئنافًا بيانيًا لجملة {إن ربك واسع المغفرة} لما تضمنته جملة {إن ربك واسع المغفرة} من الامتنان، فكأن السامعين لما سمعوا ذلك الامتنان شكروا الله وهجس في نفوسهم خاطر البحث عن سبب هذه الرحمة بهم فأجيبوا بأن ربهم أعلم بحالهم من أنفسهم فهو يدبر لهم ما لا يخطر ببالهم، ونظيره ما في الحديث القدسي قال الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خيرًا من بَلْه ما أطَّلَعتم عليه».
وقوله: {إذ أنشأكم} ظرف متعلق بـ (أعلم)، أي هو أعلم بالناس من وقت إنشائه إياهم من الأرض وهو وقت خلق أصلهم آدم.
والمعنى: أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم، فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الأمم.
وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإِسراء من قول موسى لمحمد عليهما الصلاة والسلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة «إن أمتك لا تطيق ذلك وإني جربت بني إسرائيل» أي وهم أشد من أمتك قوة، فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقرر في علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه قال تعالى: {وخلق الإِنسان ضعيفًا} [النساء: 28]، فإن إنشاء أصل الإِنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل.
ومنه قوله النبي: «إن المرأة خُلقت من ضِلَع أعوج».
وقوله: {وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} يختص بسعة المغفرة والرفق بهذه الأمة وهو متقضى قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].
والأجنة: جمع جنين، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث.
وفي {بطون أمهاتكم} صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه.
وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيرًا باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار.
وجملة {فلا تزكوا أنفسكم} اعتراض بين جملة {هو أعلم بكم} وجملة.
{أفرأيت الذي تولى} [النجم: 33] الخ، والفاء لتفريع الاعتراض، وهو تحذير للمؤمنين من العُجب بأعمالهم الحسنة عجبًا يحدثه المرء في نفسه أو يدخله أحدٌ على غيره بالثناء عليه بعمله.
و {تزكوا} مضارع زكى الذي هو من التضعيف المراد منه نسبة المفعول إلى أصل الفعل نحو جَهَّله، أي لا تنسبوا لأنفسكم الزكاة.
فقوله: {أنفسكم} صادق بتزكية المرء نفسه في سره أو علانيته فرجع الجمع في قوله: {فلا تزكوا} إلى مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التوزيع على الآحاد مثل: ركب القوم دوابهم.
والمعنى: لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولًا تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها، أو إظهارها للناس، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 55].
وعن الكلبي ومقاتل: كان ناس يعملون أعمالًا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع {أنفسكم} إلى معنى قَومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أنفسكم} [النور: 61] أي ليسلم بعضكم على بعض.
والمعنى: فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيرُه ذلك.
وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم.
ومنه حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم عطية: رحمةُ الله عليك أبا السائب (كنية عثمان بن مظعون) فشهادتي عليك لقد أكرمكَ الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُدريك أن الله أكرمه، فقالت: إذا لم يُكرمه الله فمنْ يكرمهُ الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسولُ الله ما يُفعل بي».
قالت أم عطية: فلا أزكي أحدًا بعدَ ما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون إذا أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيرًا ولا أزكي على الله أحدًا.
وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي بَرة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الإسم، وسُمِّيتُ برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم، قالوا: بم نسميها؟ قال: «سموها زينب».
وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس، أي طهارتها وصلاحها، تفويضًا بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفةَ الموافقةِ لظواهرهم وبين أنواعها بَون.
وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخِبرة واتهام القرائن والبوارق.
فلا يدخل في هذا النهي الإِخبارُ عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثل ما أريد من قوله تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن ومرادهم منه واضح.
ووقعت جملة {هو أعلم بمن اتقى} موقع البيان لسبب النهي أو لأهمِّ أسبابه، أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها.
وهذا معنى ما ورد في الحديث أن يقول من يخبر عن أحد بخير: «لا أزكي على الله أحدًا» أي لا أزكى أحدًا معتليًا حق الله، أي متجاوزًا قدري. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)}.
{وكم}: هي خبرية، ومعناها هنا: التكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر {لا تغني}؛ والغنى: جلب النفع ودفع الضر، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى.
وكم لفظها مفرد، ومعناها جمع.
وقرأ الجمهور: {شفاعتهم}، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير؛ وزيد بن علي: شفاعته، بإفراد الشفاعة والضمير؛ وابن مقسم: شفاعاتهم، بجمعهما، وهو اختيار صاحب الكامل، أي القاسم الهذلي.
وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد، لم تغن شفاعتهم عنه شيئًا.
فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه، أي يرضاه أهلًا للشفاعة، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها؟ ومعنى {تسمية الأنثى}: كونهم يقولون إنهم بنات الله، {والذين لا يؤمنون بالآخرة}: هم العرب منكر والبعث.
{وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا}: أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن، وإنما يدرك بالعلم واليقين.
قيل: ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون، ويدل عليه ذلك بأن الله هو الحق.
{فأعرض عن من تولى عن ذكرنا}، موادعة منسوخة بآية السيف.
{ولم يرد إلا الحياة الدنيا}: أي لم تتعلق إرادته بغيرها، فليس له فكر في سواها، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة.
والذكر هنا: القرآن، أو الإيمان، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أقوال.
{عن من تولى عن ذكرنا}: هو سبب الأعراض، لأن من لا يصغي إلى قول، كيف يفهم معناه؟ فأمر صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن من هذه حاله، ثم ذكر سبب التولي عن الذكر، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا.
فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم، وإيثار الدنيا سبب التولي عن الذكر، وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها.
{مبلغهم}: غايتهم ومنتهاهم من العلم، وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا، كالفلاحة والصنائع، لقوله تعالى: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا} ولما ذكر ما هم عليه، أخبر تعالى بأنه عالم بالضال والمهتدي، وهو مجازيهما.
وقال الزمخشري: وقوله: {ذلك مبلغهم من العلم}: اعتراض.
انتهى، وكأنه يقول: هو اعتراض بين {فأعرض} وبين {إن ربك}، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض.
وقيل: ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله.
وقال الفراء: صغر رأيهم وسفه أحلامهم، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.
وقيل: ذلك إشارة إلى الظن، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن.
وقوله: {إن ربك هو أعلم} في معرض التسلية، إذ كان من خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم، وفي ذلك وعيد للكفار، ووعد للمؤمنين.
{ولله ما في السماوات وما في الأرض}: أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى، يتصرف فيهما بما شاء.
واللام في {ليجزي} متعلقة بما دل عليه معنى الملك، أي يضل ويهدي ليجزي.
وقيل: بقوله: {بمن ضل}، و{بمن اهتدى}، واللام للصيرورة، والمعنى: إن عاقبة أمرهم جميعًا للجزاء بما عملوا، أي بعقاب ما عملوا، والحسنى: الجنة.
وقيل: التقدير بالأعمال الحسنى، وحين ذكر جزاء المسيء قال: بما عملوا، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل، وتدل على الكرم والزيادة للمحسن، كقوله تعالى: {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} والأحسن تأنيث الحسنى.
وقرأ زيد بن علي: {لنجزي} و{نجزي} بالنون فيهما.
وتقدّم الكلام في الكبائر في قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} في سورة النساء.
والذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والفواحش معطوف على كبائر، وهي ما فحش من الكبائر، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها.
وقال الزمخشري: والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة.
انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
{إلا اللمم}: استثناء منقطع، لأنه لم يدخل تحت ما قبله، وهو صغار الذنوب، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم، كقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله}، أي غير الله {لفسدتا} وقيل: يصح أن يكون استثناء متصلًا، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو، وقد اختلفوا فيه اختلافًا، فقال الخدري: هو النظرة والغمزة والقبلة.
وقال السدي: الخطرة من الذنب.
وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي والكلبي: كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حدًا ولا عذابًا.
وقال ابن عباس أيضًا وابن زيد: ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام.
وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه: أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين: قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا، فنزلت، وهي مثل قوله: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} وقيل: نزلت في نبهان التمار، وحديثه مشهور.
وقال ابن عباس وغيره: العلقة والسقطة دون دوام، ثم يتوب منه.
وقال الحسن: والزنا والسرقة والخمر، ثم لا يعود.
وقال ابن المسيب: ما خطر على القلب.
وقال نفطويه: ما ليس بمعتاد.
وقال الرماني: الهم بالذنب، وحديث النفس دون أن يواقع.
وقيل: نظرة الفجأة.
{إن ربك واسع المغفرة}، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر.
وقال الزمخشري: والكبائر بالتوبة.
انتهى، وفيه نزغة الاعتزال.
{هو أعلم بكم}: قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم، وإذا مات طفل لهم قالوا: هذا صديق عند الله.
وقيل: في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم، والظاهر أنه خطاب عام، وأعلم على بابها من التفضيل.
وقال مكي: بمعنى عالم بكم، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها.