فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وعلى في قوله: {عليك} للاستعلاء المجازي، أي طلب فعل على وجه الوجوب.
والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.
وتقديم الظرف وهو {عليك} على المسند إليه وهو {هُداهم} إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند، وكان ذلك في الإثبات بيّنًا لا غبار عليه نحو {لكم دينكم ولي ديني} [الكافرون: 6] وقولِه: {لها ما كسبت عليها ما اكتسبت} [البقرة: 286]، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيدًا للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيَّدة نسبتُها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها.
فإذا دخل عليها النفي كان مقتضيًا نفي النسبة المقيّدة، أي نفي ذلك الانحصارِ، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيَّد أن ينْصَبّ على ذلك القيد.
لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سَوّوا فيها بين الإثبات كما ذكرنا وبين النفي نحْو {لا فيها غَوْل} [الصافات: 47]، فقد مثل به في الكشاف عند قوله تعالى: {لا ريب فيه} [البقرة: 2] فقال: قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا، وقال السيد في شرحه هنالك عُدّ قصرًا للموصوف على الصفة، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها، أو عَدمُ الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور.
وقد أحلتُ عند قوله تعالى: {لا ريب فيه} [البقرة: 2] على هذه الآية هنا، فبِنَا أن نبيِّن طريقة القصر بالتقديم في النفي، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيدًا لفظيًا بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي، فنحو {لا فيها غول} يفيد قصر الغَول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة.
وإلى هذا أشار السيّد في شرح الكشاف عند قوله: {لا ريب فيه} إذ قال وبالجملة يجعل حرف النفي جزءًا أو حرفًا من حروف المسند أو المسند إليه.
وعلى هذا بنى صاحب الكشاف فجعل وجه أن لم يقدّمْ الظرفُ في قوله: {لا ريب فيه} كما قدم الظرف في قوله: {لا فيها غول} لأنّهُ لو أوّل لقُصد أنّ كتابًا آخر فيه الريب، لا في القرآن، وليس ذلك بمراد.
فإذا تقرر هذا فقوله: {ليس عليك هداهم} إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب، أي إبطال انتفاء كونه على الله، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يُعتقد الأول ولا الثاني.
فالوجه: إما أن يكون التقديم هنا لِمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري:
ما فيه من عيب سوى أنّه ** يوم النَّدى قِسمته ضيزى

بنفي كون هداهم حقًا على الرسول تهوينا للأمر عليه، فأما الدلالة على كون ذلك مفوّضًا إلى الله فمن قوله: {ولكن الله يهدي من يشاء}.
وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أنّ إيجاد الإيمان في الكفّار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق، فقُصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنّه على الله، فيلزم من ذلك أنّه على الله، أي مفوّض إليه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ولكن الله يَهْدِى} هدايةً خاصةً موصلةً إلى المطلوب حتمًا {مَن يَشَاء} هدايتَه إلى ذلك ممن يتذكر بما ذُكّر ويتبعُ الحق ويختار الخيرَ، والجملةُ معترضة جيء بها على طريق تلوينِ الخطاب، وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغَيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغةً في حملهم على الامتثال، فإن الإخبارَ بعدم وجوب تدارُك أمرِهم على النبي صلى الله عليه وسلم مُؤْذنٌ بوجوبه عليهم حسبما ينطِق به ما بعده من الشرطية. وقيل: لما كثُر فقراءُ المسلمين نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن التصدق على المشركين كي تحمِلَهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت. أي ليس عليك هُدى مَنْ خالفك حتى تمنعَهم الصدقةَ لأجل دخولهم في الإسلام فلا التفاتَ حينئذٍ في الكلام، وضميرُ الغيبة للمعهودين من فقراءِ المشركين بل فيه تلوينٌ فقط. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ولكن الله يهدي من يشاء} جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهمّ إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء، فمصَبُّ الاستدراك هو الصلة، أعْني {من يشاء}؛ أي فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه.
والتقدير: ولكن هداهم بيد الله، وهو يهدي من يشاء، فإذا شاء أن يهديهم هداهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقال الزمخشري قوله: {ولكن الله يهدي من يشاء} تلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه، فينتهي عما نهى عنه. انتهى.
فلم يحمل الهدى في الموضعين على الإيمان المقابل للضلال، وإنما حمله على هدى خاص، وهو خلاف الظاهر، كما قلنا.
وقيل: الهداية هنا الغنى أي: ليس عليك أن تغنيهم، وإنما عليك أن تواسيهم، فإن الله يغني من يشاء.
وتسمية الغنى: هداية، على طريقة العرب من نحو قولهم: رشدت واهتديت، لمن ظفر، وغويت لمن خاب وخسر وعلى هذا قول الشاعر:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا

وتفسير الهدى بالغنى أبعد من تفسير الزمخشري، وفي قوله: هداهم، طباق معنوي، إذ المعنى: ليس عليك هدى الضالين، وظاهر الخطاب في: ليس عليك، أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} فقد احتج به الأصحاب على أن هداية الله تعالى غير عامة، بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا: لأن قوله: {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} إثبات للهداية التي نفاها بقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} لكن المنفي بقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار، فكان قوله: {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعًا بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب.
قالت المعتزلة {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} يحتمل وجوهًا:
أحدها: أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك.
وثانيها: يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء.
وثالثها: ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله.
ورابعها: أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء، فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك.
أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله: {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} هو المنفي أولًا بقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولًا: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هو الاهتداء على سبيل الاختيار، فالمثبت بقوله: {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار، وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله} شرط وجوابه.
والخير في هذه الآية المال؛ لأنه قد اقترن بذكر الإنفاق؛ فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم تقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى المال؛ نحو قوله تعالى: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا} [الفرقان: 24] وقوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7].
إلى غير ذلك.
وهذا تحرُّز من قول عكرمة: كل خير في كتاب الله تعالى فهو المال.
وحُكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيرًا من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرًا، فقيل له في ذلك فيقول: إنما فعلت مع نفسي؛ ويتلو {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} على الأول التفاتٌ من الغَيبة إلى خطاب المكلفين لزيادة هزّهم نحو الامتثال، وعلى الثاني تلوينٌ للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفهِ عن النبي صلى الله عليه وسلم و{مَا} شرطية جازمة و{تُنفِقُواْ} منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقة بمحذوفٍ وقعَ صفةً لاسم الشرط مبيّنةٌ ومخصصةٌ له أي أيِّ شيءٍ تنفقوا كائنٌ من مال {فَلاِنفُسِكُمْ} أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيرُكم فلا تمنوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث، أو فنفعُه الدينيَّ لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدينُ من فقراء المشركين. اهـ.

.قال الفخر:

في هذه الآية وجوه:
الأول أن يكون المعنى: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله، فقد علم الله هذا من قلوبكم، فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر؛ وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم.
الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبرًا إلا أن معناه نهي، أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيرًا قال تعالى: {الوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} [البقرة: 233] {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228].
الثالث: أن قوله: {وَمَا تُنفِقُونَ} أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين، أعلمهم الله أنه قد علم أن مُرادَهم ما عنده، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم، فقد أعلمهم بالجزاء عليه. اهـ.

.قال القرطبي:

بيّن تعالى أن النفقة المعتدّ بقبولها إنما هي ما كان ابتغاء وجهه.
وابتغاءَ هو على المفعول له.
وقيل: إنه شهادة من الله تعالى للصحابة رضي الله عنهم أنهم إنما ينفقون ابتغاءَ وجهه؛ فهذا خرج مخرج التفضيل والثناء عليهم.
وعلى التأويل الأوّل هو اشتراط عليهم، ويتناول الاشتراط غيرهم من الأُمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقّاص: «إنك لن تُنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله تعالى إلاَّ أُجِرْتَ بها حتى ما تجعل في فيِ امرأتك». اهـ.