فصل: مراتب الهداية والضلال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهكذا فعل في الأحوال وغيرها، فمن ذلك لمّا رأى عمر رضي اللّه عنه وهو يقرأ رافعا صوته، فسأله عن ذلك، فقال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان. فقال له: «اخفض من صوتك قليلا» وأتى أبا بكر رضي اللّه عنه فوجده يقرأ أيضا خافضا صوته، فسأله كذلك، فقال: «قد أسمعت من ناجيت» فقال له: «ارفع من صوتك قليلا» فأمرهما صلّى اللّه عليه وآله بلزوم الاعتدال الذي هو صفة الصراط المستقيم وهكذا الأمر في باقي الأخلاق فإنّ الشجاعة صفة متوسّطة بين التهوّر والجبن، والبلاغة صفة متوسّطة بين الإيجاز والاختصار المجحف، وبين الإطناب المفرط، وشريعتنا قد تكفّلت ببيان ذلك كلّه وراعته وعيّنت الميزان الاعتدالي في كلّ حال وحكم ومقام وترغيب وترهيب، وفي الصفات والأحوال الطبيعيّة، والروحانيّة والأخلاق المحمودة والمذمومة، حتى أنّه عيّن للمذمومة مصارف إذا استعملت فيها كانت محمودة وراعى هذا المعنى أيضا في الإخبارات الإلهيّة والإنباء عن الحقائق فإنّه سلك في ذلك طريقا جامعا بين الإفصاح والإشارة، وبسنّته نقتدي، وباللّه نهتدي، فاكتف بالتلويح فإنّ التفصيل يطول.
وجملة الحال فيما أصّلنا أوّلا أنّ الإنسان لمّا كان نسخة من جميع العالم، كانت له مع كلّ عالم ومرتبة وأمر وحال، بل مع كلّ شيء نسبة ثابتة لا جرم فيه ما يقتضي الانجذاب من نقطة وسطه الذي هو أحسن تقويم، إلى كلّ طرف، والإجابة لكلّ داع.
وليس كلّ جذب وانجذاب وإجابة ودعاء بمفيد ولا مثمر للسعادة. هذا وإن كان الحقّ- كما بيّنّا- غاية الجميع ومنتهاه ومعه ومبتغاه، وإنّما المقصود إجابة وسير وانجذاب خاصّ إلى معدن السعادات، وإلى ما يثمر سعادة مرضيّة ملائمة خالصة غير ممتزجة، مؤبّدة لا موقّتة، فما لم يتعيّن للإنسان من بين الجهات المعنويّة وغير المعنويّة الجهة التي هي المظنّة لنيل ما يبتغي، أو المتكفّلة بحصوله، ومن الطرق الموصلة إلى تلك الجهة، وذلك الأمر أسدّها وأقربها وأسلمها من الشواغب والعوائق، فإنّه- بعد وجدان الباعث الكلّي إلى الطلب أو مسيس الحاجة إلى دفع ما يضرّ وجلب ما ينفع، أو ما هو الأنفع ظاهرا وباطنا أو عاجلا وآجلا- لا يعلم كيف طلب، ولا ما يقصد على التعيين؟ ولا كيف يقصده؟ ولا بأيّ طريق يحصّله؟ فيكون ضالًّا حائرا حتى يتعيّن له الأمر والحال، ويتّضح له وجه الصواب بالنسبة إلى الوقت الحاضر والمآل، فافهم {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}.
وإذ قد يسّر اللّه في ذكر أسرار ظاهر هذه الآية وباطنها بعد ثم حدّها الذي فرغنا منه الآن ما يسّر، فلنشرع في الكلام عليها بما يقتضيه سرّ المطلع، ولسانه، ثم لسان الجمع على سبيل الإلماع حسب التيسير، واللّه المرشد.

.مراتب الهداية والضلال:

اعلم، أنّ الهداية ضدّ الضلال، ولكلّ منهما ثلاث مراتب، وصفة الضلال- الذي هو الحيرة- اللاتعيّن، والتعيّن للهداية، والسرّ في تقديم حكم ضلالة الإنسان على هدايته هو تقدّم حكم الشأن المطلق الإلهي الذاتي، من حيث غيب هويّته، على نفس التعيّن، كتقدّم الوحدة والإجمال والإبهام والعجمة، على الكثرة والتفصيل والإيضاح والإعراب.
وتذكّر ما بيّن لك في صدر الكتاب عند الكلام على سرّ الإيجاد وبدئه، وتقدّم مقام كان اللّه ولا شيء معه ولا اسم ولا صفة ولا حال ولا حكم، على التعيّن الأوّل المختصّ بحضرة أحديّة الجمع- المنبّه عليه في صدر الكتاب ومنذ قريب أيضا- المعيّن لمفاتح الغيب.
وكذا فلتتذكّر تقدّم حضرة أحديّة الجمع، على الكينونة العمائيّة الثابتة في الشرع والتحقيق والمقول بلسانها كنت كنزا لم أعرف، فأحببت أن أعرف، وتقدّم السرّ النوني على الأمر القلمي، وتقدّم القلم على اللوح، وتقدّم الكلمة والحكم والأمر العرشي الوحدانيّ الوصف، على الأمر التفصيلي الأوّل الصوري الظاهر بحكم القدمين في الكرسي.
ثم انظر انتهاء الأمر بالترتيب- المعلوم في العموم، والمدرك في الخصوص- إلى آدم الذي هو آخر صورة السلسلة وأوّل معناها، واجتماع الذرّيّة واندماجها في صورة وحدته كالذرّ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً فبرزوا بعد الكمون والاندماج في الغيب الإضافي الآدمي الجملي، بإبانة الحقّ سبحانه لهم وبثّه إيّاهم، حتى شهد كلّ منهم من نفسه وغيره ما كان عنه الاندماج محجوبا، واتّصلت أحكام بعضهم بالبعض بالإبرام والنقض غالبا ومغلوبا، فافهم وأمعن التأمّل فيما لوّحت به، تعرف أنّ الهدى في الحقيقة عين الإبانة والإظهار بالتمييز والتعيين.
فللوحدة والإجمال وما نعت آنفا بالتقدّم: البطون، وللكثرة: الظهور والإبانة والفصل والإفصاح، ولمّا قدّر الإنسان على الصورة، وظهر نسخة وظلّا، جاءت نسخته على صورة الأصول التابعة لأصله، لا جرم كانت ضلالته متقدّمة على هدايته كما أخبر سبحانه عن أكمل النسخ وأتمّ الناس تحقّقا وظهورا بالكمال الإلهي والإنساني، بقوله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى أي كنت بحال من لم يتعيّن له وجه الصواب والأولويّة في ما ذا، فعيّنه لك وميّزه وعلّمك ما لم تكن تعلم فكملت في مرتبة الهداية وغيرها، وامتلأت حتى فضت، فهديت وكمّلت، وانبسط منك الفيض على غيرك، فتعدّى بك خيري إلى الكون، وبي خيرك، فسبحان الذي خلق الإنسان وهداه النجدين، ثم اختار له الصراط السويّ الاعتدالي، وعلّمه ما لم يكن يعلم وكان فضل اللّه عليه عظيما.
فالجواذب- يا أخي- من كلّ ناحية وطرف تجذب، والدعاة بلسان المحبّة- من حيث إنّ الإنسان معشوق الكل، وحيث حكم الربوبيّة الذي انصبغ به الجميع- يدعون، والدواعي بحسب الجواذب والمناسبات للإجابة والانجذاب تنبعث، وأنت عبد ما أحببت وما إليه انجذبت، والاعتدال في كلّ مقام وحال وغيرهما وسط، ومن مال عنه انحرف، ولا ينحرف إلّا منجذب بكلّه أو أكثره إلى الأقلّ.
ومن تساوت في حقّه أطراف دائرة كلّ مقام ينزل فيه أو يمرّ عليه ويثبت في مركزه هيولانيّ الوصف، حرّا من قيود الأحكام والرسوم، معطيا كلّ جاذب وداع حقّه وقسطه منه فقط، وهو- من حيث ما عدا ما تعيّن منه بالإقساط- باق على أصل إطلاقه وسذاجة طلسه، دون وصف ولا حال معيّن ولا حكم ولا اسم، فهو الرجل التابع ربّه في شؤونه، حيث أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي بيّن وأوضح كما قال الشيخ الكامل: أصلّي إذا صلّت وأشدو إذا شدت ويتبعها قلبي إذا هي ولّت فافهم، وتذكّر ما مرّ في هذا الباب عند الكلام في سرّ الوجهة، وسرّ: {إيّاك نعبد} بلسان الجمع الكمالي، وما سبق ذكره قبل ذلك أيضا، عساك تعرف ما أشير إليه.

.مراتب الاعتدال:

ثم نقول: اعلم، أنّ للاعتدال مرتبة غيبيّة إلهيّة هي عبارة عن الصورة المعنويّة، والهيئة الغيبيّة، والمتعقّلة والمتحصّلة من الاجتماع الأزلي الواقع بحكم الجمع الأحدي بين الأسماء الذاتيّة الأصليّة في العماء- الذي هو حضرة النكاح الأوّل، الذي ظهر به القلم الأعلى- والأرواح المهيّمة وهي أمّ الكتاب.
فمن تعيّنت مرتبة عينه فيها، بحيث تكون توجّهات أحكام الأسماء والأعيان إليه توجّها متناسبا، وينتظم في حقّه انتظاما معتدلا، مع عدم استهلاك حكم شيء منها في غيره، وبقاء اختلافها بحاله على صورة الأصل، وإن ظهرت الغلبة لبعضها على البعض كالأمر في المزاج العنصريّ، كان مقامه الروحاني من حيث الصفات والأفعال والأحوال الروحانيّة الخصيصة بروحه معتدلا، وكان اجتماع أسطقسّاته هنا حال انتشاء بدنه واقعا على هيئة متناسبة في الاعتدال، فجمع بالاعتدال الغيبي الأصلي المذكور، بين الاعتدال الروحاني والطبيعي المثالي والحسّي، كانت أحواله وأفعاله وتصوّراته واقعة جارية على سنن الاعتدال والاستقامة. سواء كانت تلك الأفعال والآثار من الأمور الزائلة أو الثابتة إلى أجل أو دائما.
وكلّ شيء يصدر منه صدورا معتدلا فهو في سيره من ربّه آتيا وعائدا يمشي مشيا مستقيما على الصراط السوي، بسيرة مرضيّة، وتطوّرات معتدلة رضيّة في نفس الأمر عند اللّه.
ومن انحرف عن هذه النقطة الوسطيّة المركزيّة، التي هي نقطة الكمال في حضرة أحديّة الجمع، فالحكم له وعليه بحسب قرب مرتبته من هذه وبعدها فقريب وأقرب وبعيد وأبعد، وما بين الانحراف التامّ المختصّ بالشيطنة وهذا الاعتدال الإلهي الأسمائي الكمالي يتعيّن مراتب أهل السعادة والشقاء، فللاعتدال الطبيعي السعادة الظاهرة- على اختلاف مراتبها- والنعيم المحسوس، ويختصّ بالمرتبة الأولى من مراتب الهداية وبجمهور أهل الجنّة.
وللاعتدال الروحاني باطن الهداية في الرتبة من ربّها، ويختصّ بالأبرار.
ومن غلبت عليه الأحكام الروحانيّة من الأولياء، كقضيب البان وأمثاله، فبعلّيّين.
وأصحاب الاعتدال الأسمائي الغيبي الإلهي هم الكمّل المقرّبون، أهل التسنيم، وخزنة مفاتيح الغيب، ويختصّ بهم المرتبة الثالثة من مراتب الهداية الكاملة الآتي ذكرها عن قريب.
وينقسم أهل الهداية الظاهرة والباطنة المذكورين: على أقسام عددها على عدد الأولياء الذين هم على عدد مراتب الاعتدال الطبيعي والروحاني، وهي تزيد على الثلاثمائة بمقدار قليل، من حيث أصول هذه الأقسام. وأمّا من حيث أمّهات الأصول فلا تجاوز التسعة:
فمنهم: المهتدي بكلام الحقّ- من حيث رسله الملكيّين، أو البشريّين- في نفسه فقط، أو فيه وفي غيره. ولا يتعدّى أمر هؤلاء المسجد الأقصى عند سدرة المنتهى، مع تفاوت عظيم بينهم فإنّ فيهم من لا يتعدّى أمره السماء الأولى، ولا الخطاب الإلهي الوارد عليه، ولا الرسول الملكي الآتي إليه.
وفيهم من يختصّ بالسماء الثانية، وآخر بالثالثة، هكذا إلى المسجد المذكور، عند سدرة المنتهى، وليس فوق هذا المسجد تشريع تكليفي، ولا إلزام بصراط معيّن يتعبّد به أحد هنا بالقهر.
ومنهم: المهتدي بكلام كلّ قدوة آخذ عن الله، مأمور بالإرشاد، وداع على بصيرة.
ومنهم: المهتدي بصور أفعال الحقّ التي هي آيات الآفاق والأنفس.
ومنهم: المهتدي بما فعل الرسل وكلّ متبوع محقّ، أو واضع شريعة سياسيّة عقليّة مصادفة ما قرّرتها الرسل، لكن واضعها ابتدعها وتبعه فيها غيره تقليدا أو استحسانا.
ومنهم: المهتدي بإذنه على اختلاف صور الإذن، وقد نبّه سبحانه على هذا المقام بقوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}.
ومنهم: من اهتدى بإيمانه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ}.
ومنهم: من اهتدى بأمر متحصّل من مجموع ما ذكر أو بعضه، كقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّار لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى} هذا، مع أنّ كلّ قسم ممّا ذكرنا ينقسم أهله إلى أقسام، فافهم.
ومنهم: من اهتدى به سبحانه من حيث بعض أسمائه.
ومنهم: من اهتدى به من حيث جملتها.
ومنهم: من اهتدى به من حيث خصوصيّة المرتبة الجامعة بين سائر الأسماء والصفات.
ومنهم: من اهتدى به لا من حيث قيد خاصّ، ولا نسبة متعيّنة من اسم أو صفة أو شأن أو تجلّ في مظهر، أو خطاب منضبط بحرف وصوت، أو عمل مقنّن، أو سعي متعمّل، أو علم موهوب أو مكتسب وبالأسباب أو الوسائل محصّل، وإنّما علم الحقّ أنّ من مقتضى حقيقته التكيّف بصورة كلّ شيء، والتلبّس بكلّ حال، والانصباغ بحكم كلّ مرتبة وكلّ حاكم في كلّ وقت وزمان.
فلمّا رآها مضاهية لصورة حضرته، اختارها مجلى لحضرة ذاته المطلقة، التي إليها تستند الألوهة الجامعة للأسماء والصفات، فتجلّى فيها تجلّيا تستدعيه هذه الحقيقة، فعلم كلّ شيء من حيث تعيّنه في علم ربّه أزلا بذلك العلم عينه، وهدى كلّ شيء لكلّ شيء، وحكم على كلّ شيء بنفس ذلك الشيء، فانحفظت به صور الحقائق من حيث عدم تغيّرها في مرآته، على ما كانت عليه حال ارتسامها في نفس موجدها. ولو لا هذا المجلى ما ظهر عن الحقّ بتجلّيه فيه صور الأشياء بين المجلى والمتجلّي، فافهم.
وصل:
في مراتب الاستقامة:
وإذ قد ذكرنا نبذا من أقسام الناس في مراتب الهداية والاهتداء، فلنذكر ما يختصّ بالاستقامة.
اعلم، أنّ الناس في الاستقامة على سبعة أقسام: مستقيم بقوله وفعله وقلبه، ومستقيم بقلبه وفعله دون قوله، ولهذين الفوز، والأوّل أعلى، ومستقيم بفعله وقوله دون قلبه، وهذا يرجى له النفع بغيره، ومستقيم بقوله وقلبه دون فعله، ومستقيم بقوله دون فعله وقلبه، ومستقيم بقلبه دون فعله وقوله، ومستقيم بفعله دون قلبه وقوله، وهؤلاء عليهم لا لهم وإن كان بعضهم فوق بعض.
وليس المراد بالاستقامة في القول هنا ترك الغيبة والنميمة وشبههما فإنّ الفعل يشمل ذلك، وإنّما المراد بالاستقامة في القول إرشاد الغير بقوله إلى الصراط المستقيم، وقد يكون عريّا ممّا يرشد إليه، وسنجمع الأمر لك في مثال واحد موضح، فنقول:
مثاله: رجل تفقّه في أمر صلاته وحقّقها، ثم علّمها غيره، فهذا مستقيم في قوله، ثم حضر وقتها فأدّاها على نحو ما علّمها، محافظا على أركانها الظاهرة، فهذا مستقيم في فعله، ثم علم أنّ مراد الله منه من تلك الصلاة حضور قلبه معه فيها، فأحضره، فهذا مستقيم بقلبه.
وقس على ذلك بقية الأقسام، تصب- إن شاء الله.