فصل: تفسير الآية رقم (273):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (273):

قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان غالب هذه الأحكام التي ذكرت في الإنفاق من أجل المحاويج وكان ما مضى شاملًا للمؤمن وغيره بيّن أن محط القصد في الحثّ عليها المؤمن قال سبحانه وتعالى: {للفقراء} أي هذه الأحكام لهم {الذين أحصروا} أي منعوا عن التكسب، وأشار بقوله: {في سبيل الله} أي الذي له الجلال والإكرام إلى أن المقعد لهم عن ذلك الاشتغال بإقامة الدين بالجهاد وغيره {لا يستطيعون ضربًا في الأرض} بالتجارة لأجل ذلك وأشار إلى شدة رضاهم عن الله سبحانه وتعالى بعدم شكايتهم فقال: {يحسبهم الجاهل} أي الذي ليس عنده فطنة الخلص {أغنياء من} أجل {التعفف} عن المسألة والتلويح بها قناعة بما أعطاهم الله سبحانه وتعالى مولاهم ورضي عنه وشرف نفس، والتعفف تكلف العفة وهي كف ما ينبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه- قاله الحرالي.
ولما ذكر خفاءهم على الغبي ذكر جلاءهم عند المتوسم فقال: {تعرفهم} أي يا أبصر الموقنين وأفطنهم أنت ومن رسخت قدمه في متابعتك {بسيماهم} قال الحرالي: وهي صيغة مبالغة من السمة والوسم وهي العلامة الخفية التي تتراءى للمستبصر- انتهى.
وتلك العلامة والله سبحانه وتعالى أعلم هي السكينة والوقار وضعف الصوت ورثاثة الحال مع علو الهمة والبراءة من الشماخة والكبر والبطر والخيلاء ونحو ذلك {لا يسئلون} لطموح أبصار بصائرهم عن الخلق إلى الخالق {الناس} من ملك ولا غيره {إلحافًا} سؤال إلزام، أخذًا من اللحاف الذي يتغطى به للزومه لما يغطيه، ومنه لاحفه أي لازمه.
وقال الحرالي: هو لزوم ومداومة في الشيء من حروف الحلف الذي هو إنهاء الخبر إلى الغاية كذلك اللحف إنهاء السؤال إلى الغاية- انتهى.
وإنما يسألون إن سألوا على وجه العرض والتلويح الخفي، كما كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يستقرئ غيره الآية ليضيفه وهو أعرف بها ممن يستقرئه فلا يفهم مراده إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالتعبير بالتعفف يفيد الاجتهاد في العفة والمبالغة فيها، والتقيد بالإلحاف يدل على وقوع السؤال قليلًا جدًا أو على وجه التلويح لا التصريح كما يؤيده ويؤكده المعرفة بالسيما.
لصفات الكمال {به عليم} وإن اجتهدتم في إخفائه بإعطائه لمن لا يسأل بأن لا يعرف أو بغير ذلك، وذكر العلم في موضع الجزاء أعظ مرغب وأخوف مرهب كما يتحقق ذلك بإمعان التأمل لذلك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اللام في قوله: {لِلْفُقَرَاء} متعلق بماذا فيه وجوه الأول: لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق، قال بعدها {لِلْفُقَرَاء} أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء، وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل فتقول: عاقل لبيب، والمعنى أن ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب، وكذلك الناس يكتبون على الكيس الذي يجعلون فيه الذهب والدراهم: ألفان ومائتان أي ذلك الذي في الكيس ألفان ومائتان هذا أحسن الوجوه:
الثاني: أن تقدير الآية اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقون للقراء الثالث: يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير وصدقاتكم للفقراء. اهـ.
وقال الفخر:
نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائة، وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد، ويتعلمون القرآن، ويصومون ويخرجون في كل غزوة، عن ابن عباس: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيًا بما فيه فإنه من رفاقي». اهـ.

.قال ابن عطية:

المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش وغيرهم، قال الفقيه أبو محمد: ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر، وإنما خص فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم، لأن الأنصار كانوا أهل أموال وتجارة في قطرهم. اهـ.

.قال القرطبي:

وإنما خصّ فقراء المهاجرين بالذكر لأنه لم يكن هناك سواهم وهم أهل الصُّفّة وكانوا نحوًا من أربعمائة رجل، وذلك أنهم كانوا يَقْدَمون فقراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لهم أهل ولا مال فبُنيت لهم صُفَّة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لهم: أهل الصُّفَّة.
قال أبو ذَرّ: كنت من أهل الصّفة وكنا إذا أمسينا حضرنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر كلَّ رجل فينصرف برجل ويبقى مَن بقي من أهل الصفة عشرة أو أقل فيؤتَي النبيّ صلى الله عليه وسلم بعشائه ونتعشَّى معه.
فإذا فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناموا في المسجد» وخرّج الترمذيّ عن البَرَاء بن عازِب: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل، قال: فكان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقِلّته، وكان الرجل يأتي بِالقُنْو والقنوين فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفّة ليس لهم طعام؛ فكان أحدهم إذا جاع أتى القُنْوَ فيضربه بعصاه فيسقط من البُسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي بالقنو فيه الشيص والحَشَف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه في المسجد، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ}.
قال: ولو أن أحدكم أُهْدِيَ إليه مثل ما أعطاه لم يأخذه إلاَّ على إغماض وحَيَاء.
قال: فكنا بعد ذلك يأتي الرجل بصالح ما عنده.
قال: هذا حديث حسن غريب صحيح.
قال علماؤنا.
وكانوا رضي الله عنهم في المسجد ضرورة، وأكلوا من الصدقة ضرورة؛ فلما فتح الله على المسلمين استغنَوْا عن تلك الحال وخرجوا ثم ملكوا وتأمّروا. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء الفقراء بصفات خمس:
الصفة الأولى: قوله: {الَّذِينَ أُحصِرُواْ في سَبِيلِ الله} [البقرة: 273] فنقول: الإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره، من مرض أو كبر أو عدو أو ذهاب نفقة، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء، يقال: أحصر الرجل فهو محصر، ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} بما يعني عن الإعادة، أما التفسير فقد فسرت هذه الآية بجميع الأعداد الممكنة في معنى الإحصار فالأول: أن المعنى: إنهم حصروا أنفسهم ووقفوها على الجهاد، وأن قوله: {فِى سَبِيلِ الله} مختص بالجهاد في عرف القرآن، ولأن الجهاد كان واجبًا في ذلك الزمان، وكان تشتد الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون مستعدًا لذلك، متى مست الحاجة، فبيّن تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة، ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوهًا من الخير:
أحدها: إزالة عيلتهم.
والثاني: تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه.
وثالثها: تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين.
ورابعها: أنهم كانوا محتاجين جدًا مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم، على ما قال تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في الأرض يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف}.
والقول الثاني: وهو قول قتادة وابن زيد: منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم قتلوهم.
والقول الثالث: وهو قول سعيد بن المسيب واختيار الكسائي: أن هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاروا زمنى، فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض.
والقول الرابع: قال ابن عباس هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله.
والقول الخامس: هؤلاء قوم كانوا مشتغلين بذكر الله وطاعته وعبوديته، وكانت شدة استغراقهم في تلك الطاعة أحصرتهم عن الاشتغال بسائر المهمات. اهـ.
وقال الفخر:
الصفة الثانية لهؤلاء الفقراء: قوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا في الأرض} يقال ضربت في الأرض ضربًا إذا سرت فيها، ثم عدم الاستطاعة إما أن يكون لأن اشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد، يمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه، وعلى جميع الوجوه فلا شك في شدة احتياجهم إلى من يكون معينًا لهم على مهماتهم. اهـ.
وقال الفخر:
الحسبان هو الظن، وقوله: {الجاهل} لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف، وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم، وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاءَ مِنَ التعفف} أي أنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل على الله بحيث يظنهم الجاهل بهم أغنياء.
وفيه دليل على أن اسم الفقر يجوز أن يطلق على من له كسوة ذات قيمة ولا يمنع ذلك من إعطاء الزكاة إليه.
وقد أمر الله تعالى بإعطاء هؤلاء القوم، وكانوا من المهاجرين الذين يقاتلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مَرْضَى ولا عُمْيَان. اهـ.

.قال الفخر:

الصفة الرابعة لهؤلاء الفقراء: قوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بسيماهم} السيما والسيميا العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصلها من السمة التي هي العلامة، قلبت الواو إلى موضع العين قال الواحدي: وزنه يكون فعلًا، كما قالوا: له جاه عند الناس أي وجه، وقال قوم: السيما الارتفاع لأنها علامة وضعت للظهور، قال مجاهد {سيماهم} التخشع والتواضع، قال الربيع والسدي: أثر الجهد من الفقر والحاجة وقال الضحاك صفرة ألوانهم من الجوع وقال ابن زيد رثاثة ثيابهم والجوع خفي وعندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر وذلك يناقضه قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعًا في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم وذلك إدراكات روحانية، لا علات جسمانية، ألا ترى أن الأسد إذا مرّ هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة، لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت، والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة، وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية، فكذا هاهنا، ومن هذا الباب آثار الخشوع في الصلاة، كما قال تعالى: {سيماهم في وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29] وأيضًا ظهور آثار الفكر، روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف. اهـ.