فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{اقتربت الساعة} يحتمل أن يكون في العقول والأذهان، يقول: من يسمع أمرًا لا يقع هذا بعيد مستبعد، وهذا وجه حسن، وإن كان بعض ضعفاء الأذهان ينكره، وذلك لأن حمله على قرب الوقوع زمانًا لا إمكانًا يمكن الكافر من مجادلة فاسدة، فيقول: قال الله تعالى في زمان النبي صلى الله عليه وسلم: {اقتربت} ويقولون بأن من قبل أيضًا في الكتب (السابقة) كان يقول: (اقترب الوعد) ثم مضى مائة سنة ولم يقع، ولا يبعد أن يمضي ألف آخر ولا يقع، ولو صح إطلاق لفظ القرب زمانًا على مثل هذا لا يبقى وثوق بالإخبارات، وأيضًا قوله: {اقتربت} لانتهاز الفرصة، والإيمان قبل أن لا يصح الإيمان، فللكافر أن يقول، إذا كان القرب بهذا المعنى فلا خوف منها، لأنها لا تدركني، ولا تدرك أولادي، ولا أولاد أولادي، وإذا كان إمكانها قريبًا في العقول يكون ذلك ردًا بالغًا على المشركين والفلاسفة، والله سبحانه وتعالى أول ما كلف الاعتراف بالوحدانية واليوم الآخر، وقال: اعلموا أن الحشر كائن فخالف المشرك والفلسفي، ولم يقنع بمجرد إنكار ما ورد الشرع ببيانه، ولم يقل لا يقع أو ليس بكائن، بل قال ذلك بعيد، ولم يقنع بهذا أيضًا، بل قال ذلك غير ممكن، ولم يقنع به أيضًا، بل قال فإن امتناعه ضروري، فإن مذهبهم أن إعادة المعدوم وإحياء الموتى محال بالضرورة، ولهذا قالوا:
{أَءذَا مِتْنَا} [المؤمنون: 82] {أَءذَا كُنَّا عظاما} [الأسراء: 49] {أَءذَا ضَلَلْنَا في الأرض} [السجدة: 10] بلفظ الاستفهام بمعنى الإنكار مع ظهور الأمر، فلما استبعدوا لم يكتف الله ورسوله ببيان وقوعه، بل قال: {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا} [الحج: 7] ولم يقتصر عليه بل قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63] ولم يتركها حتى قال (اقتربت الساعة واقترب الوعد الحق اقترب للناس حسابهم) اقترابًا عقليًا لا يجوز أن ينكر ما يقع في زمان طرفة عين، لأنه على الله يسير، كما أن تقليب الحدقة علينا يسير، بل هو أقرب منه بكثير، والذي يقويه قول العامة: إن زمان وجود العالم زمان مديد، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير، فلهذا قال: {اقتربت الساعة}.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين» فمعناه لا نبي بعدي فإن زماني يمتد إلى قيام الساعة، فزماني والساعة متلاصقان كهاتين، ولا شك أن الزمان زمان النبي صلى الله عليه وسلم، وما دامت أوامره نافذة فالزمان زمانه وإن كان ليس هو فيه، كما أن المكان الذي تنفذ فيه أوامر الملك مكان الملك يقال له بلاد فلان، فإن قيل: كيف يصح حمله على القرب بالمعقول مع أنه مقطوع به؟ قلت: كما صح قوله تعالى: {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63] فإن لعل للترجي والأمر عند الله معلوم، وفائدته أن قيام الساعة ممكن لا إمكانًا بعيدًا عن العادات كحمل الآدمي في زماننا حملًا في غاية الثقل أو قطعة مسافة بعيدة في زمان يسير، فإن ذلك ممكن إمكانًا بعيدًا، وأما تقليب الحدقة فممكن إمكانًا في غاية القرب.
المسألة الثانية:
الجمع الذين تكون الواو ضميرهم في قوله: {يَرَوْاْ} و{يُعْرِضُواْ} غير مذكور فمن هم؟ نقول: هم معلومون وهم الكفار تقديره: وهؤلاء الكفار إن يروا آية يعرضوا.
المسألة الثالثة:
التنكير في الآية للتعظيم أي إن يروا آية قوية أو عظيمة يعرضوا.
المسألة الرابعة:
قوله تعالى: {وَيَقولواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} ما الفائدة فيه؟ نقول: فائدته بيان كون الآية خالية عن شوائب الشبه، وأن الاعتراف لزمهم لأنهم لم يقدروا أن يقولوا: نحن نأتي بمثلها وبيان كونهم معرضين لا إعراض معذور، فإن من يعرض إعراض مشغول بأمر مهم فلم ينظر في الآية لا يستقبح منه الإعراض مثل ما يستقبح لمن ينظر فيها إلى آخرها ويعجز عن نسبتها إلى أحد ودعوى الإتيان بمثلها، ثم يقول: هذا ليس بشيء هذا سحر لأن ما من آية إلا ويمكن المعاند أن يقول فيها هذا القول.
المسألة الخامسة:
ما المستمر؟ نقول: فيه وجوه أحدها: دائم فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يأتي كل زمان بمعجزة قولية أو فعلية أرضية أو سماوية، فقالوا: هذا سحر مستمر دائم لا يختلف بالنسبة إلى النبي عليه السلام بخلاف سحر السحرة، فإن بعضهم يقدر على أمر وأمرين وثلاثة ويعجز عن غيرها وهو قادر على الكل وثانيها: مستمر أي قوى من حبل مرير الفتل من المرة وهي الشدة وثالثها: من المرارة أي سحر مر مستبشع ورابعها: مستمر أي مار ذاهب، فإن السحر لا بقاء له.
ثم قال تعالى: {وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَاءهُمْ} وهو يحتمل أمرين أحدهما: وكذبوا محمدًا المخبر عن اقتراب الساعة وثانيهما: كذبوا بالآية وهي انشقاق القمر، فإن قلنا: كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقوله: {واتبعوا أَهْوَاءهُمْ} أي تركوا الحجة وأولوا الآيات وقالوا: هو مجنون تعينه الجن وكاهن يقول: عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال وساحر، فهذه أهواءهم، وإن قلنا: كذبوا بانشقاق القمر، فقوله: {واتبعوا أَهْوَاءهُمْ} في أنه سحر القمر، وأنه خسوف والقمر لم يصبه شيء فهذه أهواءهم، وكذلك قولهم في كل آية.
وقوله تعالى: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} فيه وجوه أحدها: كل أمر مستقر على سنن الحق يثبت والباطل يزهق، وحينئذ يكون تهديدًا لهم، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى: {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم} [الزمر: 7] أي بأنها حق ثانيها: وكل أمر مستقر في علم الله تعالى: لا يخفى عليه شيء فهم كذبوا واتبعوا أهواءهم، والأنبياء صدقوا وبلغوا ما جاءهم، كقوله تعالى: {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء} [غافر: 16]، وكما قال تعالى في هذه السورة: {وَكُلُّ شيء فَعَلُوهُ في الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 52، 53]، ثالثها: هو جواب قولهم: {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي ليس أمره بذاهب بل كل أمر من أموره مستقر.
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)}.
إشارة إلى أن كل ما هو لطف بالعباد قد وجد، فأخبرهم الرسول باقتراب الساعة، وأقام الدليل على صدقه، وإمكان قيام الساعة عقيب دعواه بانشقاق القمر الذي هو آية لأن من يكذب بها لا يصدق بشيء من الآيات فكذبوا بها واتبعوا الأباطيل الذاهبة، وذكروا الأقاويل الكاذبة فذكر لهم أنباء المهلكين بالآيتين تخويفًا لهم، وهذا هو الترتيب الحكمي، ولهذا قال بعد الآيات: {حِكْمَةٌ بالغة} [القمر: 5] أي هذه حكمة بالغة، والأنباء هي الأخبار العظام، ويدلك على صدقه أن في القرآن لم يرد النبأ والأنباء إلا لما له وقع قال: {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22] لأنه كان خبرًا عظيمًا وقال: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6] أي محاربة أو مسالمة وما يشبهه من الأمور العرفية، وإنما يجب التثبت فيما يتعلق به حكم ويترتب عليه أمر ذو بال، وكذلك قال تعالى: {ذلك مِنْ أَنبَاء الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 44] فكذلك الأنباء ههنا، وقال تعالى عن موسى: {لَّعَلّى آتِيكُمْ مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ} [القصص: 29] حيث لم يكن يعلم أنه يظهر له شيء عظيم يصلح أن يقال له: نبأ ولم يقصده، والظاهر أن المراد أنباء المهلكين بسبب التكذيب وقال بعضهم: المراد القرآن، وتقديره جاء فيه الأنباء، وقيل قوله: {جَاءكُمْ مّنَ الأنباء} يتناول جميع ما ورد في القرآن من الزواجر والمواعظ وما ذكرناه أظهر لقوله: {فِيهِ مُزْدَجَرٌ} وفي: {مَا} وجهان أحدهما: أنها موصولة أي جاءكم الذي فيه مزدجر ثانيهما: موصوفة تقديره: جاءكم من الأنباء شيء موصوف بأن فيه مزدجر وهذا أظهر والمزدجر فيه وجهان أحدهما ازدجار وثانيهما موضع ازدجار، كالمرتقى، ولفظ المفعول بمعنى المصدر كثير لأن المصدر هو المفعول الحقيقي.
{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)}.
وفيه وجوه الأول: على قول من قال: {وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الأنباء} المراد منه القرآن، قال: {حِكْمَةٌ بالغة} بدل كأنه قال: ولقد جاءهم حكمة بالغة ثانيها: أن يكون بدلًا عن ما في قوله: {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} الثاني: حكمة بالغة خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه حكمة بالغة والإشارة حينئذ تحتمل وجوهًا أحدها: هذا الترتيب الذي في إرسال الرسول وإيضاح الدليل والإنذار بمن مضى من القرون وانقضى حكمة بالغة ثانيها: إنزال ما فيه الأنباء: {حِكْمَةٌ بالغة} ثالثها: هذه الساعة المقتربة والآية الدالة عليها حكمة الثالث: قرئ بالنصب فيكون حالًا وذو الحال ما في قوله: {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي جاءكم ذلك حكمة، فإن قيل: إن كان {مَا} موصولة تكون معرفة فيحسن كونه ذا الحال فأما إن كانت بمعنى جاءهم من الأنباء شيء فيه ازدجار يكون منكرًا وتنكير ذي الحال قبيح نقول: كونه موصوفًا يحسن ذلك.
وقوله: {فَمَا تُغْنِ النذر} فيه وجهان أحدهما: أن {مَا} نافية، ومعناه أن النذر لم يبعثوا ليغنوا ويلجئوا قومهم إلى الحق، وإنما أرسلوا مبلغين وهو كقوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الشورى: 48] ويؤيد هذا قوله تعالى: {فتولى عَنْهُمْ} [القمر: 6] أي ليس عليك ولا على الأنبياء الإغناء والإلجاء، فإذا بلغت فقد أتيت بما عليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها بقوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] وتول إذا لم تقدر ثانيهما: {مَا} استفهامية، ومعنى الآيات حينئذ أنك أتيت بما عليك من الدعوى وإظهار الآية عليها وكذبوا فأنذرتهم بما جرى على المكذبين فلم يفدهم فهذه حكمة بالغة وما الذي تغني النذر غير هذا فلم يبق عليك شيء آخر.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}.
قد ذكرنا أن المفسرين يقولون إلى قوله: {تَوَلَّ} منسوخ وليس كذلك، بل المراد منه لا تناظرهم بالكلام.
ثم قال تعالى: {يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شيء نُّكُرٍ} قد ذكرنا أيضًا أن من ينصح شخصًا ولا يؤثر فيه النصح يعرض عنه ويقول مع غيره: ما فيه نصح المعرض عنه، ويكون فيه قصد إرشاده أيضًا فقال بعدما قال: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الداع} {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} [المعارج: 43] للتخويف، والعامل في: {يَوْمٍ} هو ما بعده، وهو قوله: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} والداعي معرف كالمنادي في قوله: {يَوْمَ يُنَادِ المناد} [ق: 41] لأنه معلوم قد أخبر عنه، فقيل: إن مناديًا ينادي وداعيًا يدعو وفي الداعي وجوه أحدها أنه إسرافيل وثانيها: أنه جبريل وثالثها: أنه ملك موكل بذلك والتعريف حينئذ لا يقطع حد العلمية، وإنما يكون ذلك كقولنا: جاء رجل فقال: الرجل، وقوله تعالى: {إلى شيء نُّكُرٍ} أي منكر وهو يحتمل وجوهًا أحدها: إلى شيء نكر في يومنا هذا لأنهم أنكروه أي يوم يدعو الداعي إلى الشيء الذي أنكروه يخرجون ثانيها: نكر أي منكر يقول: ذلك القائل كان ينبغي أن لا يكون أي من شأنه أن لا يوجد يقال: فلان ينهى عن المنكر، وعلى هذا فهو عندهم كان ينبغي أن لا يقع لأنه يرديهم في الهاوية، فإن قيل: ما ذلك الشيء النكر؟ نقول: الحساب أو الجمع له أو النشر للجمع، وهذا أقرب، فإن قيل: النشر لا يكون منكرًا فإنه إحياء ولأن الكافر من أين يعرف وقت النشر وما يجري عليه لينكره؟ نقول: يعرف ويعلم بدليل قوله تعالى عنهم: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52].
{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)}.
وفيه قراءات خاشعًا وخاشعة وخشعًا، فمن قرأ {خاشعًا} على قول القائل: يخشع أبصارهم على ترك التأنيث لتقدم الفعل ومن قرأ {خاشعة} على قوله: تخشع أبصارهم ومن قرأ {خشعًا} فله وجوه أحدها: على قول من يقول: يخشعن أبصارهم على طريقة من يقول: أكلوني البراغيث ثانيها: في: {خُشَّعًا} ضمير أبصارهم بدل عنه، تقديره يخشعون أبصارهم على بدل الاشتمال كقول القائل: أعجبوني حسنهم.
ثالثها: فيه فعل مضمر يفسره يخرجون تقديره يخرجون خشعًا أبصارهم على بدل الاشتمال والصحيح خاشعًا، روي أن مجاهدًا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فقال له: يا نبي الله {خشعًا أبصارهم} أو {خاشعًا أبصارهم}؟ فقال عليه السلام: {خاشعًا}، ولهذه القراءة وجه آخر أظهر مما قالوه وهو أن يكون {خشعًا} منصوبًا على أنه مفعول بقوله: {يَوْمَ يَدْعُو الداع} {خشعًا} أي يدعو هؤلاء، فإن قيل: هذا فاسد من وجوه أحدها: أن التخصيص لا فائدة فيه لأن الداعي يدعو كل أحد، ثانيها: قوله: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} بعد الدعاء فيكونون خشعًا قبل الخروج وإنه باطل، ثالثها: قراءة {خاشعًا} تبطل هذا، نقول أما الجواب عن الأول فهو أن يقال قوله: {إلى شيء نُّكُرٍ} يدفع ذلك لأن كل أحد لا يدعى إلى شيء نكر وعن الثاني المراد: (من شيء نكر) الحساب العسر يعني يوم يدع الداع إلى الحساب العسر خشعًا ولا يكون العامل في: {يَوْمَ يَدْعُو} يخرجون بل اذكروا، أو: {فَمَا تُغْنِى النذر} كما قال تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين} [المدثر: 48] ويكون يخرجون ابتداء كلام، وعن الثالث أنه لا منافاة بين القراءتين؛ وخاشعًا نصب على الحال أو على أنه مفعول يدعو كأنه يقول: يدعو الداعي قومًا خاشعة أبصارهم والخشوع السكون قال تعالى: {وَخَشَعَتِ الأصوات} [طه: 108] وخشوع الأبصار سكونها على كل حال لا تنفلت يمنة ولا يسرة كما في قوله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43] وقوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} مثلهم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج، ويحتمل أن يقال: المنتشر مطاوع نشره إذا أحياه فكأنهم جراد يتحرك من الأرض ويدب إشارة إلى كيفية خروجهم من الأجداث وضعفهم.
ثم قال تعالى: {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} أي مسرعين إليه إنقيادًا {يَقول الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} يحتمل أن يكون العامل الناصب ليوم في قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُو الداع} [القمر: 6] أي يوم يدعو الداعي: {يَقول الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ}، وفيه فائدتان إحداهما: تنبيه المؤمن أن ذلك اليوم على الكافر عسير فحسب، كما قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9، 10] يعني له عسر لا يسر معه ثانيتهما: هي أن الأمرين متفقان مشتركان بين المؤمن والكافر، فإن الخروج من الأجداث كأنهم جراد والانقطاع إلى الداعي يكون للمؤمن فإنه يخاف ولا يأمن العذاب إلا بإيمان الله تعالى إياه فيؤتيه الله الثواب فيبقى الكافر فيقول: {هذا يَوْمٌ عَسِرٌ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

{اقتربت} معناه: قربت إلا أنه أبلغ، كما أن اقتدر أبلغ من قدر. و: {الساعة} القيامة وأمرها مجهول التحديد لم يعلم، إلا أنها قربت دون تحديد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين»، وأشار بالسبابة والوسطى. وقال أنس: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال: «ما بقي من الدنيا فيما مضى إلا كمثل ما بقي من هذا اليوم».
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن يؤخر الله أمتي نصف يوم» وهذا منه على جهة الرجاء والظن لم يجزم به خبرًا، فأناب الله به على أمله وأخر أمته أكثر من رجائه، وكل ما يروى عن عمر الدنيا من التحديد فضعيف واهن.
وقوله: {انشق القمر} إخبار عما وقع في ذلك، وذكر الثعلبي أنه قيل إن المعنى ينشق القمر يوم القيامة، وهذا ضعيف الأمة على خلافه، وذلك أن قريشًا سألت رسول الله آية فقيل مجملة، وهذا قول الجمهور، وقيل بل عاينوا شق القمر، ذكره الثعلبي عن ابن عباس فأراهم الله انشقاق القمر، فرآه رسول الله وجماعة من المسلمين والكفار، فقال رسول الله «اشهدوا» وممن قال من الصحابة رأيته: عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأخبر به عبد الله بن عمر وأنس وابن عباس وحذيفة بن اليمان، وقال المشركون عند ذلك: سحرنا محمد. وقال بعضهم: سحر القمر وقالت قريش استخبروا المسافرين القادمين عليكم، فما ورد أحد إلا أخبر بانشقاقه وقال ابن مسعود: رأيته انشق فذهبت فرقة وراء جبل حراء، وقال ابن زيد: كان يرى نصفه على قعيقعان والآخر على أبي قبيس. وقرأ حذيفة: {اقتربت الساعة وقد انشق القمر}، وذكر الثعلبي عنه أن قراءته: {اقتربت الساعة انشق القمر} دون واو.