فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {وإن يروا} جاء اللفظ مستقبلًا لينتظم ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأن حالهم هكذا، واختلفت الناس في معنى: {مستمر} فقال الزجاج قيل معناه: دائم متماد. وقال قتادة ومجاهد والكسائي والفراء معناه: مار ذاهب عن قريب يزول. وقال أبو العالية والضحاك معناه: مشدود من مرائير الحبل كأنه سحر قد أمر، أي أحكم. ومنه قول الشاعر لقيط بن زرارة: البسيط:
حتى استمرت على شزر مريرته ** صدق العزيمة لا رتًّا ولا ضرعا

ثم أخبر تعالى بأنهم كذبوا واتبعوا شهواتهم وما يهوون من الأمور لا بدليل ولا بتثبت، ثم قال على جهة الخبر الجزم، {وكل أمر مستقر} يقول: وكل شيء إلى غاية فالحق يستقر ظاهرًا ثابتًا، والباطل يستقر زاهقًا ذاهبًا.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {وكل مستقرٍ} بجر {مستقر}، يعني بذلك أشراطها.
والجمهور على كسر القاف من {مستقِر} وقرأ نافع وابن نصاح بفتحها، قال أبو حاتم: لا وجه لفتح القاف.
و: {الأنباء} جمع نبأ، ويدخل في هذا جميع ما جاء به القرآن من المواعظ والقصص ومثلات الأمم الكافرة، و: {مزدجر} معناه: موضع زجر وانتهاء، وأصله: مزتجر، قلبت التاء دالًا ليناسب مخرجها مخرج الزاي، وكذلك تبدل تاء افتعل من كل فعل أوله زاي كازدلف وازداد ونحوه.
وقوله: {حكمة} مرتفع إما على البدل من {ما} في قوله: {ما فيه}، وإما على خبر ابتداء تقديره: هذه حكمة و: {بالغة} معناه: يبلغ المقصد بها من وعظ النفوس والبيان لمن له عقل. وقوله: {فما تغني النذر}، يحتمل أن تكون {ما} نافية، أي ليس تغني مع عتو هؤلاء الناس، ويحتمل أن تكون {ما} استفهامًا بمعنى التقرير، أي فما غناء النذر مع هؤلاء الكفرة، ثم سلى نبيه بقوله: {فتول عنهم} أي لا تذهب نفسك عليهم حسرات، وتم القول في قوله: {عنهم} ثم ابتدأ وعيدهم، والعامل في {يوم} قوله: {يخرجون}، و: {خشعًا} حال من الضمير في {يخرجون} وتصرف الفعل يقتضي تقدم الحال، قال المهدوي: ويجوز أن يكون حالًا من الضمير في {عنهم}. قال الرماني المعنى: {فتول عنهم} واذكر {يوم}. وقال الحسن المعنى: {فتول عنهم} إلى {يوم}، وانحذفت الواو من {يدع} لأن كتبة المصحف اتبعوا اللفظ لا ما يقتضيه الهجاء، وأما حذف الياء من: {الداع} ونحوه، فقال سيبويه: حذفوه تخفيفًا. وقال أبو علي: حذفت مع الألف واللام إذ هي تحذف مع معاقبهما وهو التنوين.
وقرأ جمهور الناس: {نكُر} بضم الكاف. وقرأ ابن كثير وشبل والحسن: {نكِر} بكسر الكاف، وقرأ مجاهد والجحدري وأبو قلابة: {نُكِرَ} بكسر الكاف وفتح الراء على أنه فعل مبني للمفعول، والمعنى في ذلك كله أنه منكور غير معروف ولا مرئي مثله. قال الخليل: النكر: نعت للأمر الشديد والرجل الداهية. وقال مالك بن عوف النصري: الرجز:
أقدم محاج إنه يوم نكر ** مثلي على مثلك يحمى ويكر

ونكر فعل وهو صفة، وذلك قليل في الصفات، ومنه مشية سجح وقال الشاعر حسان بن ثابت الأنصاري: البسيط:
دعوا التخاجؤ وامشوا مشية سجحًا ** إن الرجال ذوو عصب وتذكير

ومنه رجل شلل وناقة أجد.
وقرأ جمهور القراء: {خشعًا} وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة والحسن وقتادة. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: {خاشعًا}، وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري، وهو إفراد بمعنى الجمع، ونظيره قول الشاعر الحارث بن أوس الإيادي: الرمل:
وشباب حسن أوجههم ** من إياد بن نزار بن معد

ورجح أبو حاتم هذه القراءة وذكر أن رجلًا من المتطوعة قال قبل أن يستشهد: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فسألته عن (خشعًا وخاشعًا) فقال: {خاشعًا} بالألف، وفي مصحف أبيّ بن كعب وعبد الله: {خاشعة}.
وخص الأبصار بالخشوع لأنه فيها أظهر منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أو صلف أو خوف ونحوه إنما يظهر في البصر. و: {الأجداث} جمع جدث وهو القبر، وشبههم بالجراد المنتشر، وقد شبههم في أخرى ب {الفراش المبثوث} [القارعة: 4]، وفيهم من كل هذا شبه، وذهب بعض المفسرين إلى أنهم أولًا كالفراش حين يموجون بعض في بعض ثم في رتبة أخرى كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي، وفي الحديث: «إن مريم بنت عمران دعت للجراد فقالت: اللهم اعشها بغير رضاع وتابع بينها بغير شباع».
والمهطع: المسرع في مشيه نحو الشيء مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد، إما لخوف أو طمع أو نحوه، و{يقول الكافرون هذا يوم عسر} لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر}.
{اقتربت} أي قربت مثل {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] على ما بيناه.
فهي بالإضافة إلى ما مضى قريبة؛ لأنه قد مضى أكثر الدنيا كما روى قتادة عن أنس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كادت الشمس تغيب فقال: «ما بقي من دنياكم فيما مضى إلاّ مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى» وما نرى من الشمس إلا يسيرًا.
وقال كعب ووهب: الدنيا ستة الاف سنة.
قال وهب: قد مضى منها خمسة آلاف سنة وستمائة سنة.
ذكره النحاس.
ثم قول تعالى: {وانشق القمر} أي وقد انشق القمر.
وكذا قرأ حُذيفة {اقتربت السَّاعَةُ وَقَدِ انشق الْقَمَرُ} بزيادة (قد) وعلى هذا الجمهور من العلماء؛ ثبت ذلك في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود وابن عمر وأنس وجبير بن مُطْعِم وابن عباس رضي الله عنهم.
وعن أنس قال: سأل أهل مكة النبيّ صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت: {اقتربت الساعة وانشق القمر} إلى قوله: {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} يقول ذاهب قال أبو عيسى الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
ولفظ البخاريّ عن أنس قال: انشق القمر فرقتين.
وقال قوم: لم يقع انشقاق القمر بعدُ وهو منتظر؛ أي اقترب قيام الساعة وانشقاق القمر؛ وأن الساعة إذا قامت انشقت السماء بما فيها من القمر وغيره.
وكذا قال القشيري.
وذكر الماورديّ: أن هذا قول الجمهور، وقال: لأنه إذا انشق ما بقي أحد إلا رآه؛ لأنه آية والناس في الآيات سواء.
وقال الحسن: اقتربت الساعة فإذا جاءت انشق القمر بعد النفخة الثانية.
وقيل: {وانشق القمر} أي وضح الأمر وظهر؛ والعرب تضرب بالقمر مثلًا فيما وضَحَ؛ قال:
أقيمُوا بَني أميِّ صُدُورَ مَطِيّكُمْ ** فإنِّي إلى حَيٍّ سواكم لأَمْيَلُ

فقد حُمَّتِ الحاجاتُ والليلُ مُقْمِرٌ ** وشُدَّت لِطيَّاتٍ مَطايا وأَرْحُلُ

وقيل: انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها، كما يسمى الصبح فلقًا؛ لآنفلاق الظلمة عنه.
وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه كما قال النابغة:
فلمَّا أدْبَرُوا ولَهُمْ دَوِيٌّ ** دعانا عِند شَقِّ الصُّبحِ داعِ

قلت: وقد ثبت بنقل الآحاد العدول أن القمر انشق بمكة، وهو ظاهر التنزيل، ولا يلزم أن يستوي الناس فيها؛ لأنها كانت آية ليلية؛ وأنها كانت باستدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم من الله تعالى عند التحدّي.
فروي أنّ حمزة بن عبد المطلب حين أسلم غضبًا من سبّ أبي جهل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب أن يريه آية يزداد بها يقينًا في إيمانه.
وقد تقدّم في الصحيح أن أهل مكة هم الذين سألوا وطلبوا أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر فلقتين كما في حديث ابن مسعود وغيره.
وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وأن القمر قد انشق على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وقد قيل: هو على التقديم والتأخير، وتقديره انشق القمر واقتربت الساعة؛ قاله ابن كيسان.
وقد مرّ عن الفرّاء أن الفعلين إذا كانا متقاربي المعنى فلك أن تقدّم وتؤخر عند قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فتدلى}.
[النجم: 8] قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ} هذا يدل على أنهم رأوا انشقاق القمر.
قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كنت صادقًا فاشقق لنا القمر فرقتين، نصف على أبي قُبَيس ونصف على قُعَيْقَعَان؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنون» قالوا: نعم؟ وكانت ليلة بدر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربّه أن يعطيه ما قالوا؛ فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي المشركين: «يا فلان يا فلان اشهدوا» وفي حديث ابن مسعود: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا من سحر ابن أبي كبشة؛ سَحَرَكم فاسألوا السُّفَّار؛ فسألوهم فقالوا: قد رأينا القمر انشق فنزلت: {اقتربت الساعة وانشق القمر وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ} أي إن يروا آية تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم أعرضوا عن الإيمان {وَيَقولواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} أي ذاهب؛ من قولهم: مَرَّ الشيءُ واستمر إذا ذهب؛ قاله أنس وقتادة ومجاهد والفراء والكسائي وأبو عبيدة، واختاره النحاس.
وقال أبو العالية والضحاك: محكَم قويّ شديد، وهو من المِرَّة وهي القوّة؛ كما قال لقيط:
حتى استمرت عَلَى شَزْرٍ مَرِيرَتهُ ** مُرُّ العَزِيمَةِ لاَ (قحما) ولا ضَرَعًا

قال الأخفش: هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدّة فتله.
وقيل: معناه مُرٌّ من المرارة.
يقال: أَمَرَّ الشيء صار مُرًّا، وكذلك مَرَّ الشيءُ يَمَرُّ بالفتح مرارة فهو مُرٌّ، وأمَرَّه غيره ومَرَّهُ.
وقال الربيع: مستمر نافذ.
يمان: ماضٍ.
أبو عبيدة: باطل.
وقيل: دائم.
قال:
وليس على شيء قوِيم بمَسْتمرْ

أي بدائم.
وقيل: يشبه بعضه بعضًا؛ أي قد استمرت أفعال محمد على هذا الوجه فلا يأتي بشيء له حقيقة بل الجميع تخييلات.
وقيل: معناه قد مر من الأرض إلى السماء.
{وَكَذَّبُواْ} نبيّنا {واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ} أي ضلالاتهم واختياراتهم.
{وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} أي يستقر بكل عامل عمله، فالخير مستقرّ بأهله في الجنة، والشر مستقر بأهله في النار.
وقرأ شيبة {مُسْتَقَر} بفتح القاف؛ أي لكل شيء وقت يقع فيه من غير تقدّم وتأخر.
وقد روي عن أبي جعفر بن القَعْقَاع {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٍّ} بكسر القاف والراء جعله نعتًا لأمر و{كُلُّ} على هذا يجوز أن يرتفع بالابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: وكل أمر مستقر في أمّ الكتاب كائن.
ويجوز أن يرتفع بالعطف على الساعة؛ المعنى: اقتربت الساعة وكل أمرٍ مستقر؛ أي اقترب استقرار الأمور يوم القيامة.
ومن رفعه جعله خبرًا عن {كلّ}.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأنباء} أي من بعض الأنباء؛ فذكر سبحانه من ذلك ما علم أنهم يحتاجون إليه، وأن لهم فيه شفاء.
وقد كان هناك أمور أكثر من ذلك، وإنما اقتص علينا ما علم أن بنا إليه حاجة وسكت عما سوى ذلك؛ وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأنباء} أي جاء هؤلاء الكفار من أنباء الأمم الخالية {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ما يزجرهم عن الكفر لو قبلوه، وأصله مُزْتَجَر فقلبت التاء دالًا؛ لأن التاء حرف مهموس والزاي حرف مجهور، فأبدل من التاء دالًا توافقها في المخرج وتوافق الزاي في الجهر.
و {مُزْدجَر} من الزجر وهو الانتهاء، يقال: زجره وازدجره فانزجر وازدجر، وزجرته أنا فانزجر أي كففته فكف، كما قال:
فأصبحَ ما يطلبُ الغانيا ** تُ مُزْدَجَرًا عن هواه ازدجارا

وقرئ {مُزّجَرٌ} بقلب تاء الأفتعال زايا وإدغام الزاي فيها؛ حكاه الزمخشري.
{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} يعني القرآن وهو بدل من (ما) من قوله: {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ}.
ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف؛ أي هو حكمة.
{فَمَا تُغْنِي النذر} إذا كذّبوا وخالفوا كما قال الله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] فـ(ما) نفي أي ليست تغني عنهم النذر.
ويجوز أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ؛ أي فأي شيء تغني النذر عنهم وهم معرضون عنها.
و {والنذر} يجوز أن تكون بمعنى الإنذار، ويجوز أن تكون جمع نذير.
قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أي أعرض عنهم.
قيل: هذا منسوخ بآية السيف.
وقيل: هو تمام الكلام.
ثم قال: {يَوْمَ يَدْعُو الداع} العامل في {يَوْمَ} {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} أو {خُشَّعًا} أو فعل مضمر تقديره واذكر يوم.
وقيل: على حذف حرف الفاء وما عملت فيه من جواب الأمر، تقديره: فتولّ عنهم فإن لهم يوم يدعو الداعي.
وقيل: تَوَلَّ عنهم يا محمد فقد أقمت الحجة وأبصرهم يوم يدعو الداعي.
وقيل: أي أعرض عنهم يوم القيامة ولا تسأل عنهم وعن أحوالهم، فإنهم يدعون {إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ} وينالهم عذاب شديد.