فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إنه المجرَّة وهي شَرَج السماء ومنها فتحت بماء منهمر؛ قاله عليّ رضي الله عنه.
{وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} قال عُبَيد بن عُمير: أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجّرت بالعيون، وإن عينًا تأخّرت فغضب عليها فجعل ماءها مُرًّا أُجاجًا إلى يوم القيامة.
{فَالْتَقَى الماء} أي ماء السماء وماء الأرض {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر؛ حكاه ابن قتيبة.
أي كان ماء السماء والأرض سواء.
وقيل: {قُدِرَ} بمعنى قضى عليهم.
قال قتادة: قدر لهم إذا كفروا أن يَغْرَقُوا.
وقال محمد بن كعب: كانت الأقوات قبل الأجساد، وكان القدر قبل البلاء؛ وتلا هذه الآية.
وقال: {الْتَقَى الْمَاءُ} والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدًا؛ لأن الماء يكون جمعًا وواحدًا.
وقيل: لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدًا.
وقرأ الجحَدْري: {فَالْتَقَى الْمَاءَانِ}.
وقرأ الحسن: {فَالْتَقَى الْمَاوَانِ} وهما خلاف المرسوم.
القُشيري: وفي بعض المصاحف {فَالْتَقَى الْمَاوَانِ} وهي لغة طيّىء.
وقيل: كان ماء السماء باردًا مثل الثلج وماء الأرض حارًا مثل الحميم.
{وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ} أي على سفينة ذات ألواحٍ.
{وَدُسُرٍ} قال قتادة: يعني المسامير التي دُسِرت بها السفينة أي شدّت؛ وقاله القُرَظِيّ وابن زيد وابن جبير، ورواه الوالبي عن ابن عباس.
وقال الحسن وشَهْر بن حَوْشَب وعكرمة: هي صدر السفينة التي تضرب بها المَوْج سُمِّيت بذلك لأنها تَدْسُر الماء أي تدفعه، والدَّسْرُ الدّفع والمَخْر؛ ورواه العَوْفي عن ابن عباس قال: الدَّسْر كَلْكَلُ السفينة.
وقال الليث: الدِّسار خيط من ليف تُشد به ألواح السفينة.
وفي الصحاح: الدِّسار واحد الدُّسر وهي خيوط تشدّ بها ألواح السفينة، ويقال: هي المسامير، وقال تعالى: {على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}.
ودُسْر أيضًا مثل عُسُر وعُسْر.
والدَّسْر الدفع؛ قال ابن عباس في العنبر: إنما هو شيء يَدْسُره البحر دَسْرًا أي يدفعه.
ودَسَره بالرمح.
ورجل مِدْسر.
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأىً منَّا.
وقيل: بأمرنا.
وقيل: بحفظ منّا وكِلاَءة: وقد مضى في (هود).
ومنه قول الناس للمودَّع: عين الله عليك؛ أي حفظه وكِلاءته.
وقيل: بِوَحينا.
وقيل: أي بالأعين النابعة من الأرض.
وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه.
وقيل: أي تجرى بأوليائنا، كما في الخبر: مرض عين من عيوننا فلم تعده.
{جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ} أي جعلنا ذلك ثوابًا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به؛ فاللام في {لِمَنْ} لام المفعول له؛ وقيل: {كُفِرَ} أي جحد؛ فـ {من} كناية عن نوح.
وقيل: كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب؛ أي عقابًا لكفرهم بالله تعالى.
وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ} بفتح الكاف والفاء بمعنى: كان الغرق جزاءً وعقابًا لمن كفر بالله، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق؛ كان الماء إلى حُجْزته.
وسبب نجاته أن نوحًا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها، فحمل عُوجٌ تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك، ونَجّاه من الغرق.
{وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً} يريد هذه الفعلة عبرةً.
وقيل: أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذّبون الرسل.
قال قتادة: أبقاها الله ببَاقِرْدَى من أرض الجزيرة عبرة وآية، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادًا.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} مُتَّعظ خائف، وأصله مُذْتَكِر مُفْتَعِل من الذكر، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالًا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أي إنذاري؛ قال الفراء: الإنذار والنذر مصدران.
وقيل: {نُذُر} جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} أي سهلناه للحفظ وأعنّا عليه من أراد حفظه؛ فهل من طالب لحفظه فيعان عليه؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيّأناه للذكر مَأْخوذ من يَسَّر ناقته للَّسَفر: إذا رَحَلها، ويَسَّر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه؛ قال:
وقُمْتُ إليهِ باللِّجامِ مُيَسِّرًا ** هُنَالكَ يَجْزِينِي الذي كنتُ أَصْنَعُ

وقال سعيد بن جبير: ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرًا إلا القرآن؛ وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظرًا، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت؛ على ما تقدّم بيانه في صورة (براءة) فيسّر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذّكّروا ما فيه؛ أي يفتعلوا الذّكر، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب فيهم.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} قارئ يقرؤه.
وقال أبو بكر الوراق وابن شَوْذب: فهل من طالب خير وعلم فيعانَ عليه، وكرّر في هذه السورة للتنبيه والإفهام.
وقيل: إن الله تعالى اقتص في هذا السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين، وما عاملتهم به الأمم، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين، فكان في كل قصة ونبأ ذكْر للمستمع أن لو ادكر، وإنما كرّر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} لأن (هَلْ) كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم؛ فاللام من (هَلْ) للاستعراض والهاء للاستخراج. اهـ.

.قال الألوسي:

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}.
شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنباء الموجبة للازدجار؛ ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرًا لفحوى قوله تعالى: {فَمَا تُغْنِى النذر} [القمر: 5] والفعل منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح، وقوله تعالى: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقال} [هود: 45] الخ، وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب، وجوز أن يكون المعنى كذبوا تكذيبًا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسًا كذبوا نوحًا لأنه من جملة الرسل، والفاء عليه سببية، وقيل: معنى كذبت قصدت التكذيب وابتدأته، ومعنى فكذبوا وبلغوا نهايته كما قيل في قوله:
قد جبر الدين الأله فجبر

وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه.
{وَقالواْ مَجْنُونٌ} أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون {وازدجر} عطف على قالوا وهو إخبار منه عز وجل أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية والتخويف قاله ابن زيد، وقرأ {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} [الشعراء: 116] وقال مجاهد: هو من تمام قولهم أي هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته، والأول أظهر وأبلغ، وجعل مبنيًا للمفعول لغرض الفاصلة، وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة على أن فعلهم أسوأ من قولهم: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)}.
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى} أي بأني.
وقرأ ابن أبي اسحق. وعيسى. والأعمش. وزيد بن علي ورويت عن عاصم {إِنّى} بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين {مَغْلُوبٌ} من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم {فانتصر} فانتقم لي منهم، وقيل: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك، وقيل: المراد بمغلوب غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار.
{فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} أي منصب، وقيل: كثير قال الشاعر:
أعيناي جودًا بالدموع (الهوامر) ** على خير باد من معد وحاضر

والباء للآلة مثلها في فتحت الباب بالمفتاح، وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ، وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهاء انفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء.
وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس.
أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه أنه قال: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتفى الماآن، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرح العيبة، والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جدًا، والله تعالى أعلم.
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم، وقرأ ابن عامر. وأبو جعفر. والأعرج. ويعقوب {فَفَتَحْنَا} بالتشديد لكثرة الأبواب، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة.
{وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الابهام والتفسير، فالتمييز محول عن المفعول، وجعله بعضهم محولا عن الفاعل بناءًا على أنه الأكثر، والأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكون عن فاعل فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق وهذا منه وهو تكلف لا حاجة إليه، ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب {عُيُونًا} حالا مقدرة، وجوز عليه أن يكون مفعولًا ثانيًا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونًا وكان ذلك على ما في بعض الروايات أربعين يومًا.
وقرأ عبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم {فجرنا} بالتخفيف {عُيُونًا فَالْتَقَى الماء} أي ماء السماء وماء الأرض، والإفراد لتحقيق أن التفاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بل بطريق الاختلاط والاتحاد.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن ومحمد بن كعب والجحدري {الماآن} والتثنية لقصد بيان اختلاف النوعين وإلا فالماء شامل لماء السماء وماء الأرض، ونحوه قوله:
لنا (إبلان) فيهما ما علمتم ** فعن (أيها) ما شئتم فتنكبوا

وقيل: فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الأفراد، وقرأ الحسن أيضًا {ماوان} بقلب الهمزة واوًا كقولهم: علبا وان كما قال الزمخشري، ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالًا بعلة أنها غير أصلية لأنها زائدة للالحاق كذلك هاهنا لانها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنه أجريت مجرى البدل عن الواو فقيل في النسبة فيه: ماوى، وجاء في جمعه أمواء كما جاء أمواه، ولا يبعد أن يكون من ثناه بالواو قاسه على النسبة كذا في الكشف، وعنه أيضًا المايان بقلب الهمزة ياءًا.
{على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي كائنًا على حال قد قدرها الله تعالى في الازل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج.
وقيل: إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعًا ونزل ماء السماء مكملًا أربعين، وقيل: ماء الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عز وجل، أو على أمر قدره الله تعالى وكبته في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالى فيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هلاك هؤلاء، و{على} عليه للتعليل، ويحتمل تعلقها بالتقى.
وفيه ردّ على أهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عدا الزهرة في برج مائي، وقرأ أبو حيوة وابن مقسم {قُدِرَ} بتشديد الدال.
{وَحَمَلْنَاهُ} أي نوحًا عليه السلام {على ذَاتِ ألواح} أخشاب عريضة {وَدُسُرٍ} أي مسامير كما قاله الجمهور وابن عباس في رواية ابن جرير، وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب، وقيل: (دسر) كسقف وسقف وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر فسمى به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة. وقيل: حبال من ليف تشد بها السفن.
وقال الليث: خيوط تشد بها ألواحها.
وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه وروي عن ابن عباس نحوه.
وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها. وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة.
وأيًا مّا كان فقوله تعالى: {ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ} من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم: حي مستوى القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو من فصيح الكلام وبديعه ونظير الآية قول الشاعر:
مفرشي صهوة الحصان ولكن ** (قميصي) مسرودة من حديد

فإنه أراد قميصي درع وقوله يصف هزال الإبل:
تراءى الهافي كل عين مقابل ** ولو في (عيون النازيات بأكرع)

فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها.
وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه على ما في المفصل وغيره فكلام نحوى.