فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والألواح: جمع لوح، وهو القطعة المسوّاة من الخشب.
والدسر: جمع دِسار، وهو المسمار.
وعدي فعل (حملنا) إلى ضمير نوح دون من معه من قومه لأن هذا الحمل كان إجابة لدعوته ولنصره فهو المقصود الأول من هذا الحمل، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا} [الأعراف: 72] وقوله: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} [المؤمنون: 28] ونحوه من الآيات الدالة على أنه المقصود بالإنجاء وأن نجاة قومه بمعيته، وحسبك قوله تعالى في تذييل هذه الآية {جزاء لمن كان كفر} فإن الذي كان كُفِر هو نوح كفر به قومه.
و {على} للاستعلاء المجازي وهو التمكن كقوله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك}، وإلا فإن استقراره في السفينة كائن في جوفها كما قال تعالى: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] {قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين} [هود: 40].
والباء في {بأعيننا} للملابسة.
والأعين: جمع عين بإطلاقه المجازي، وهو الاهتمام والعناية، كقول النابغة:
علمْتك ترعاني بعين بصيرة

وقال تعالى: {فإنك بأعيننا} [الطور: 48].
وجُمع العين لتقوية المعنى لأن الجمع أقوى من المفرد، أي بحراسات منّا وعنايات.
ويجوز أن يكون الجمع باعتبار أنواع العنايات بتنوع آثارها.
وأصل استعمال لفظ العين في مثله تمثيل بحال الناظر إلى الشيء المحروس مثل الراعين كما يقال للمسافر: عين الله عليك، ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقة فجمع بذلك الاعتبار.
وتقدم في سورة هود.
و {جزاء} مفعول لأجله ل {فتحنا} وما عُطف عليه، أي: فعلنا ذلك كله جزاء لنوح.
و {من كان كُفِر} هو نوح فإن قومه كَفَروا به، أي لم يؤمنوا بأنه رسول وكان كفرهم به منذ جاءهم بالرسالة فلذلك أقحم هنا فعل {كان}، أي لمن كُفِر منذ زمان مضى وذلك ما حكي في سورة نوح (5 9) بقوله: {قال رب إني دعوت قومي ليلًا ونهارًا} إلى قوله: {ثم إني دعوتهم جهارًا ثم إنِّي أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارًا} وحذف متعلق كفر لدلالة الكلام عليه.
وتقديره: كفر به، أو لأنه نصح لهم ولقي في ذلك أشد العناء فلم يشكروا له بل كفروه فهو مكفور فيكون من باب قوله تعالى: {ولا تكفرون} [البقرة: 152].
{وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)}.
ضمير المؤنث عائد إلى {ذات ألواح ودسر}، أي السفينة.
والترك كناية عن الإِبقاء وعدم الإِزالة، قال تعالى: {وتركنا فيها آية} في سورة الذاريات (37)، وقال: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} في سورة البقرة (17)، أي أبقينا سفينة نوح محفوظة من البِلى لتكون آية يشهدها الأمم الذين أرسلت إليهم الرسلُ متى أراد واحد من الناس رؤيتها ممن هو بجوار مكانها تأييدًا للرسل وتخويفًا بأول عذاب عُذبت به الأمم أمة كذبت رسولها فكانت حجة دائمة مثل ديار ثمود.
ثم أخذت تتناقص حتى بقي منها أخشاب شهدها صدر الأمة الإسلامية فلم تضمحل حتى رآها ناس من جميع الأمم بعد نوح فتواتر خبرها بالمشاهدة تأييدًا لتواتر الطوفان بالأخبار المتواترة.
وقد ذكر القرآن أنها استقرت على جبل الجوديّ فمنه نزل نوح ومن معه وبقيت السفينة هنالك لا ينالها أحد، وذلك من أسباب حفظها عن الاضمحلال.
واستفاض الخبر بأن الجودي جُبيل قرب قرية تسمى (باقِرْدَى) بكسر القاف وسكون الراء ودال مفتوحة مقصورًا من جزيرة ابن عمر قرب المَوْصل شرقيَّ دجلة.
وفي (صحيح البخاري) قال قتادة: لقد شَهدها صدر هذه الأمة قال تعالى في سورة العنكبوت (15) {وجعلناها آية للعالمين} وقد تقدم ذلك مفصلًا هنالك.
والآية: الحجة.
وأصل الآية الأمارة التي يصطلح عليها شخصان فأكثر {قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام} [آل عمران: 41].
وإنما قال هنا {ولقد تركناها} وقال في سورة العنكبوت (15) {وجعلناها آية للعالمين} لأن ذكرها في سورة القمر وردَ بعد ذكر كيفية صنعها وحدوث الطوفان وحمل نوح في السفينة.
فأخبر بأنها أُبقيت بعد تلك الأحوال، فالآية في بقائها، وفي سورة العنكبوت وَرَد ذِكر السفينة ابتداء فأخبر بأن الله جعلها آية إذْ أوحى إلى نوح بصنعها، فالآية في إيجادها وهو المعبر عنه بـ {جعلناها}.
وفرع على إبقاء السفينة آية استفهام عمن يتذكر بتلك الآية وهو استفهام مستعمل في معنى التحضيض على التذكر بهذه الآية واستقصاء خبرها مثل الاستفهام في قول طرفة:
إذا القوم قالوا من فتى

البيت.
والتحضيض موجه إلى جميع من تبلغه هذه الآيات ومن زائدة للدلالة على عموم الجنس في الإِثبات على الأصح من القولين.
و {مُدَّكر} أصله: مُذتَكر مفتعل من الذُكر بضم الذال، وهو التفكر في الدليل فقلبت تاء الافتعال دالًا لتقارب مخرجيهما، وأدغم الذال في الدال لذلك، وقراءة هذه الآية مروية بخصوصها عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم في سورة يوسف (45) {وادَّكَر بعد أمة}.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)}.
تفريع على القصة بما تضمنته من قوله: {ففتحنا أبواب السماء} [القمر: 11] إلى آخره.
و(كيف) للاستفهام عن حالة العذاب.
وهو عذاب قوم نوح بالطوفان والاستفهام مستعمل في التعجيب من شدة هذا العذَاب الموصوف.
والجملة في معنى التذييل وهو تعريض بتهديد المشركين أن يصيبهم عذاب جزاء تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وإعراضهم وأذاهم كما أصاب قوم نوح.
وحُذف ياء المتكلم من {نذر} وأصله: نُذري.
وحذفها في الكلام في الوقف فصيح وكثر في القرآن عند الفواصل.
والنذر: جمع نذير الذي هو اسم مصدر أَنذر كالنذارة وتقدم آنفًا في هذه السورة وإنما جمعت لتكرر النذارة من الرسول لقومه طلبًا للإِيمانهم.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)}.
لمّا كانت هذه النذارة بُلِغت بالقرآن والمشركون معرضون عن استماعه حارمين أنفسهم من فوائده ذُيّل خبرها بتنويه شأن القرآن بأنه من عند الله وأن الله يسّره وسَهله لتذكّر الخلق بما يحتاجونه من التذكير مما هو هدى وإرشاد.
وهذا التيسير ينبىء بعناية الله به مثل قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] تبصرة للمسلمين ليزدادوا إقبالًا على مدارسته وتعريضًا بالمشركين عسى أن يَرْعَوُوا عن صدودهم عنه كما أنبأ عنه قوله: {فهل من مدكر}.
وتأكيد الخبر باللام وحرف التحقيق مراعى فيه حَال المشركين الشاكين في أنه من عند الله.
والتيسير: إيجاد اليسر في شيء، من فعل كقوله: {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 185] أو قول كقوله تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} [الدخان: 58].
واليسر: السهولة، وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب من شيء.
وإذ كان القرآن كلامًا فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يُراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به بدون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون: يدخل للأذن بلا إذن.
وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني؛ فأما من جانب الألفاظ فلذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها، بحيث يخف حفظها على الألسنة.
وأما من جانب المعاني، فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له.
وبتولد معانٍ من معانٍ أُخر كلّما كرّر المتدبر تدبّره في فهمها.
ووسائل ذلك لا يحيط بها الوصف وقد تقدم بسطها في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير ومن أهمها إيجاز اللفظ ليسرع تعلقه بالحفظ، وإجمالُ المدلولات لتذهب نفوس السامعين في انتزاع المعاني منها كل مذهب يسمح به اللفظ والغرض والمقامُ، ومنها الإِطناب بالبيان إذا كان في المعاني بعض الدقة والخفاء.
ويتأتّى ذلك بتأليف نظم القرآن بلغة هي أفصح لغات البشر وأسمحُ ألفاظًا وتراكيب بوفرة المعاني، وبكَوْن تراكيبه أقصى ما تسمح به تلك اللغة، فهو خيار من خيار من خيار.
قال تعالى: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195].
ثم يكون المتلقين له أمة هي أذكى الأمم عقولا وأسرعها أفهامًا وأشدها وعْيًا لما تسمعه، وأطولها تذكرًا له دون نسيان، وهي على تفاوتهم في هذه الخلال تفاوتًا اقتضته سنة الكون لا يناكد حالهم في هذا التفاوت ما أراده الله من تيسيره للذكر، لأن الذكر جنس من الأجناس المقول عليها بالتشكيك إلا أنه إذا اجتمع أصحاب الأفهام على مدارسته وتدبره بدَت لجموعهم معان لا يحصيها الواحد منهم وحده.
وقد فرض الله على علماء القرآن تبيينَه تصريحًا كقوله: {لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44]، وتعريضًا كقوله: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينّنّه للناس}.
[آل عمران: 187] فإن هذه الأمة أجدر بهذا الميثاق.
وفي الحديث: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلُون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاّ نزلتْ عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده».
واللام في قوله: {للذكر} متعلقة بـ {يسرنا} وهي ظرف لغو غيرُ مستقر، وهي لام تدل على أن الفعل الذي تعلقت به فُعِل لانتفاع مدخول هذه اللام به فمدخولها لا يراد منه مجرد تعليل فعل الفاعل كما هو معنى التعليل المجرد ومعنى المفعول لأجله المنتصببِ بإضمار لام التعليل البسيطة، ولكن يراد أن مدخول هذه اللام علة خاصة مراعاةٌ في تحصيل فعل الفاعل لفائدته، فلا يصح أن يقع مدخول هذه اللام مفعولًا لأن المفعول لأجله علة بالمعنى الأعَمّ ومدخول هذه اللام علة خاصَّة فالمفعول لأجله بمنزلة سبب الفعل وهو كمدخول باء السببية في نحو {فكّلًا أخذنا بذنبه} [العنكبوت: 40]، ومجرور هذه اللام بمنزلة مجرور باء الملابسة في نحو {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20]، وهو أيضًا شديد الشبه بالمفعول الأول في باب كسَا وأعطى، فهذه اللام من القسم الذي سماه ابن هشام في (مغني اللبيب): شبه التمليك.
وتبع في ذلك ابنَ مالك في (شرح التسهيل).
وأحسن من ذلك تسمية ابن مالك إياه في (شرح كافيته) وفي (الخلاصة) معنى التعدية.
ولقد أجاد في ذلك لأن مدخول هذه اللام قد تعدى إليه الفعل الذي تعلقت به اللام تعديةً مثلَ تعدية الفعل المتعدي إلى المفعول، وغفل ابن هشام عن هذا التدقيق، وهو المعنى الخامس من معاني اللام الجارة في (مغني اللبيب) وقد مثله بقوله تعالى: {جعل لكم من أنفسكم أزواجًا} [الشورى: 11]، ومثّل له ابن مالك في (شرح التسهيل) بقوله تعالى: {فهب لي من لدنك وليًا} [مريم: 5]، ومن الأمثلة التي تصلح له قوله تعالى: {وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون} [يس: 72] وقوله تعالى: {ونيسرك لليسرى} [الأعلى: 8] وقوله: {فسنيسره لليسرى} [الليل: 7] وقوله: {فسنيسره للعسرى} [الليل: 10]، ألا ترى أن مدخول اللام في هذه الأمثلة دال على المتنفعين بمفاعيل أفعالها فهم مثل أول المفعولين من باب كسا.
وإنما بسطنا القول في هذه اللام لدقة معناها وليتّضح معنى قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر}.
وأصل معاني لام الجر هو التعليل وتنشأ من استعمال اللام في التعليل المجازي معان شاعت فساوت الحقيقة فجعلها النحويون معاني مستقلة لقصد الإِيضاح.
والذكر: مصدر ذكر الذي هو التذكر العقلي لا اللساني، والذي يرادفه الذُكر بضم الذال اسمًا للمصدر، فالذكر هو تذكر ما في تذكره نفع ودفع ضر، وهو الاتعاظ والاعتبار.
فصار معنى {يسرنا القرآن للذكر} أن القرآن سُهلت دلالته لأجل انتفاع الذكر بذلك التيسير، فجعلت سرعة ترتب التذكر على سماع القرآن بمنزلة منفعة للذكر لأنه يشيع ويروج بها كما ينتفع طالب شيء إذا يُسرت له وسائل تحْصيله، وقربت له أباعدها.
ففي قوله: {يسرنا القرآن للذكر} استعارة مكنية ولفظ {يسرنا} تخييل.
ويؤول المعنى إلى: يسرنا القرآن للمتذكرين.
وفرع على هذا المعنى قوله: {فهل من مدكر}.
والقول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفًا، إلا أن بين الادِّكارين فرقًا دقيقًا، فالادِّكار السالف ادّكار اعتبار عن مشاهدة آثار الأمة البائدة، والادّكار المذكور هنا ادكار عن سماع مواعظ القرآن البالغة وفهم معانيه والاهتداء به. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}.
قال: {اقتربت الساعة}.
وممن عاين انشقاق القمر ابن مسعود جبير بن مطعم، وأخبر به ابن عمر وأنس وحذيفة وابن عباس.
وحين أرى الله الناس انشقاق القمر، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا»، وقال المشركون إذ ذاك: سحرنا محمد.
وقال بعضهم: سحر القمر.
والأمة مجمعة على خلاف من زعم أن قوله: {وانشق القمر} معناه: أنه ينشق يوم القيامة، ويرده من الآية قوله: {وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر}.
فلا يناسب هذا الكلام أن يأتي إلا بعد ظهور ما سألوه معينًا من انشقاق القمر.
وقيل: سألوا آية في الجملة، فأراهم هذه الآية السماوية، وهي من أعظم الآيات، وذلك التأثير في العالم العلوي.
وقرأ حذيفة: {وقد انشق القمر}، أي اقتربت، وتقدم من آيات اقترابها انشقاق القمر، كما تقول: أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه.
وخطب حذيفة بالمدائن، ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت، وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم، ولا التفات إلى قول الحسن أن المعنى: إذ جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية، ولا إلى قول من قال: إن انشقاقه عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه في أثنائها، فالمعنى: ظهر الأمر، فإن العرب تضرب بالقمر مثلًا فيما وضح، كما يسمى الصبح فلقًا عند انفلاق الظلمة عنه، وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق.