فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولفظ الزمخشري على الأول أدل وهو أبلغ انتهى، ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الالتفات لا أظنه تسكن نفسه بماذكر فتأمل، وقرأ مجاهد فيما ذكره صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي {الاشر} بثلاث ضمات وتخفيف الراء.
ويقال: أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها.
وحكى الكسائي عن مجاهد ضم الشين دون الهمزة فهو كندس.
وقرأ أبو حيوة {الاشر} أفعل تفضيل أي الأبلغ في الشرارة وكذا قرأ قتادة وأبو قلابة أيضًا وهو قليل الاستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة:
بلال خير الناس وابن الأخير

وقال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم بالأخير و{الاشر} إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت، وقال الجوهري: لا يقال: {الاشر} إلا في لغة رديئة؛ وقوله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة} الخ استئناف مسوق لبيان مبادي الموعود على ما هو الظاهر، وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة، والإرسال حقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج، وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجوا الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها {فِتْنَةً لَّهُمْ} امتحانًا، وجوز إبقاؤها على معناها المعروف {فارتقبهم} فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون {واصطبر} على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى.
{وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء} وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم {قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} مقسوم لها يوم ولهم يوم، و{بَيْنَهُمْ} لتغلب العقلاء، وقرأ معاذ عن أبي عمرو و{قِسْمَةٌ} بفتح القاف {كُلُّ شِرْبٍ} نصيب وحصة منه {مُّحْتَضَرٌ} يحضره صاحبه في نوبته فتحتضر الناقة نارة ويحضرونه أخرى، وقيل: يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل: يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنه مسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى، وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها، والمعنى كل شرب من الماء واللبن تحضرونه أنتم.
{فَنَادَوْاْ} أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة {فَنَادَوْاْ} لعقرها {صاحبهم} وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود وكان أجرأهم {فتعاطى} العقر أي فاجترأ على تعاطيه مع عظمه غير مكترث به.
{فَعَقَرَ} فأحدث العقر بالناقة، وجوز أن يكون المراد فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف فقتلها، وعلى كل فمفعول تعاطى محذوف والتفريع لا غبار عليه، وقيل: تعاطى منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث ماهية التعاطي، وقوله تعالى: {فَعَقَرَ} تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته، والتعاطي التناول مطلقًا على ما يفهم من كلام غير واحد، وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ الناقة} [الأعراف: 77] لأنهم كانوا راضين به.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} الكلام فيه كالذي تقدم.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة} هي صيحة جبريل عليه السلام صاح صباح يوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم {فَكَانُواْ} أي فصاروا {كَهَشِيمِ المحتظر} أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء.
وفي (البحر) الهشيم ما تفتت من الشجر، و{المحتظر} الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان تطؤه البهائم فيتهشم، وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة، والحظيرة الزريبة التي تصنعها العرب.
وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع.
وقرأ الحسن. وأبو حيوة. وأبو السمال. وأبو رجاء. وعمرو بن عبيد {المحتظر} بفتح الظاء على أنه اسم مكان.
والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل: ويقدر له موصوف أي {كَهَشِيمِ} الحائط {المحتظر} أو لا يقدر على أن {المحتظر} الزريبة نفسها كما سمعت.
وجوز أن يكون مصدرًا أي كهشيم الاحتظار أي ما تفتت حالة الاحتظار.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} كما مر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)}.
القول في موقع جملة {كذبت ثمود بالنذر} كالقول في موقع جملة {كذبت عاد} [القمر: 18].
وكذلك القول في إسناد حكم التكذيب إلى ثمود وهو اسم القبيلة معتبر فيه الغالب الكثير.
فإن صالحًا قد آمن به نفر قليل كما حكاه الله عنهم في سورة الأعراف.
وثمود: ممنوع من الصرف باعتبار العلمية والتأنيث المعنوي، أي على تأويل الاسم بالقبيلة.
والنذر: جمع نذير الذي هو اسم مصدر أنذر، أي كذبوا بالإِنذارات التي أنذرهم الله بها على لسان رسوله.
وليس النُذر هنا بصالح لحمله على جمْع النذير بمعنى المُنذر لأن فعل التكذيب إذا تعدى إلى الشخص المنسوب إلى الكذب تعدى إلى اسمه بدون حرف قال تعالى: {فكذبوا رسلي} [سبأ: 45] وقال: {لما كذبوا الرسل} [الفرقان: 37] وقال: {وإن يكذبوك} [الحج: 42]، وإذا تعدى إلى الكلام المكذّب تعدى إليه بالباء قال: {وكذبتم به} [الأنعام: 57] وقال: {وكذب به قومك} [الأنعام: 66] وقال: {إن الذين كذبوا بآياتنا} [الأعراف: 40] وقال: {كذبوا بآياتنا} [آل عمران: 11].
وهذا بخلاف قوله: {كذبت ثمود المرسلين} في سورة الشعراء (141).
والمعنى: أنهم كذبوا إنذارات رسولهم، أي جحدوها ثم كذبوا رسولهم، فلذلك فُرع على جملة {كذبت ثمود بالنذر} قوله: {فقالوا أبشرًا منا واحدًا نتبعه} إلى قوله: {بل هو كذاب أشر} ولو كان المراد بالنذر جمع النذير وأطلق على نذيرهم لكان وجه النظم أن تقع جملة {فقالوا أبشرًا} إلى آخرها غير معطوفة بالفاء لأنها تكون حينئذٍ بيانًا لجملة {كذبت ثمود بالنذر}.
والمعنى: أن صالحًا جاءهم بالإِنذارات فجحدوا بها وكانت شبهتهم في التكذيب ما أعرب عنه قولهم: {أبشرًا منا واحدًا نتبعه} إلى آخره، فهذا القول يقتضي كونه جوابًا عن دعوة وإنذار، وإنما فُصّل تكذيب ثمود وأجمل تكذيب عاد لقصد بيان المشابهة بين تكذيبهم ثمود وتكذيب قريش إذ تشابهت أقوالهم.
والقول في انتظام جملة {فقالوا أبشرًا} الخ بعد جملة {كذبت ثمود بالنذر} كالقول في جملة {فكذبوا عبدنا} [القمر: 9] بعد جملة {كذبت قبلهم قوم نوح} [القمر: 9].
وهذا قول قالوه لرسولهم لما أنذرهم بالنذر لأن قوله: {كذبت} يؤذن بمخبر إذ التكذيب يقتضي وجود مخبر.
وهو كلام شافهوا به صالحًا وهو الذي عنوه بقولهم: {أبشرًا منَّا} إلخ.
وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة.
وانتصب {أبشرًا} على المفعولية ل {نتبعه} على طريقة الاشتغال، وقدم لاتصاله بهمزة الاستفهام لأن حقها التصدير واتصلت به دونَ أن تدخل على نتبع لأن محل الاستفهام الإنكاري هو كون البشر متبوعًا لا اتباعهم له ومثله {أبشر يهدوننا} [التغابن: 6] وهذا من دقائق مواقع أدوات الاستفهام كما بين في علم المعاني.
والاستفهام هنا إنكاري، أنكروا أن يرسل الله إلى الناس بَشرًا مثلهم، أي لو شاء الله لأرسل ملائكة.
ووصف {بشرًا} بـ {واحدًا}: إما بمعنى أنه منفرد في دعوته لا أتباع له ولا نصراء، أي ليس ممن يخشى، أي بعكس قول أهل مدين.
{ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} [هود: 91].
وإما بمعنى أنه من جملة آحاد الناس، أي ليس من أفضلنا.
وإما بمعنى أنه منفرد في ادعاء الرسالة لا سلف له فيها كقول أبي مِحْجن الثقفي:
قد كنت أغنى الناس شخصًا واحدًا ** سَكن المدينة من مزارع فُوم

يريد: لا يناظرني في ذلك أحد.
وجملة {إنا إذا لفي ضلال وسعر} تعليل لإنكار أن يتبعوا بشرًا منهم تقديره: أنتّبعك وأنت بشر واحد منا.
و (إذن) حرف جواب هي رابطة الجملة بالتي قبلها.
والضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق، أرادوا: إنا إذن مخطئون في أمرنا.
و {السُعُر}: الجُنون، يقال بضم العين وسكونها.
وفسر ابن عباس السُعُر بالعذاب على أنه جمع سَعير.
وجملة {ألقى الذكر عليه من بيننا} تعليل للاستفهام الإِنكاري.
و {ألقى} حقيقته: رُميَ من اليد إلى الأرض وهو هنا مستعار لإِنزال الذكر من السماء قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلًا} [المزمل: 5].
و(في) للظرفية المجازية، جعلوا تلبسهم بالضلال والجنون كتلبس المظروف بالظرف.
و {من بيننا} حال من ضمير {عليه}، أي كيف يُلقى عليه الذكر دوننا، يريدون أن فيهم من هو أحق منه بأن يوحى إليه حسب مدارك عقول الجهلة الذين يقيسون الأمور بمقاييس قصور أفهامهم ويحسبون أن أسباب الأثرة في العادات هي أسبابها في الحقائق.
وحرف {من} في قوله: {من بيننا} بمعنى الفصل كما سماه ابن مالك وإن أباه ابن هشام أي مفصولًا من بيننا كقوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح} [البقرة: 220].
و {بل هو كذاب أشر} إضراب عن ما أنكروه بقولهم: {أألقى الذكر عليه من بيننا} أي لم ينزل الذكر عليه من بيننا بل هو كذّاب فيما ادعاه، بَطر متكبر.
و(الأشر) بكسر الشين وتخفيف الراء: اسم فاعل أَشِر، إذا فرح وبَطَر، والمعنى: هو معجَب بنفسه مُدَّععٍ ما ليس فيه.
{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)}.
مقول قول محذوف دل عليه السياق تقديره: قلنا لنذيرهم الذي دل عليه قوله: {كذبت ثمود بالنذر} [القمر: 23] فإن النذر تقتضي نذيرًا بها وهو المناسب لقوله بعده {فارتقبهم واصطبر} [القمر: 27] وذلك مبني على أن قوله آنفًا: {فقالوا أبشرًا منا واحدًا نتبعه} [القمر: 25] كلام أجابوا به نِذارة صالح إيّاهم المقدرة من قوله تعالى: {كذبت ثمود بالنذر} [القمر: 23]، وبذلك انتظم الكلام أتم انتظام.
وقرأ الجمهور {سيعلمون} بياء الغيبة.
وقرأ ابن عامر وحمزة {ستعلمون} بتاء الخطاب وهي تحتمل أن يكون هذا حكاية كلام من الله لصالح على تقدير: قلنا له: قل لهم، ففيه حذف قول.
ويحتمل أن يكون خطابًا من الله لهم بتقدير: قلنا لهم ستعلمون.
ويحتمل أن يكون خطابًا للمشركين على جعل الجملة معترضة.
والمراد من قوله: {غدًا} الزمن المستقبل القريب كقولهم في المثل: إن مع اليوم غدًا، أي إن مع الزمن الحاضر زمنًا مستقبلًا.
يقال في تسلية النفس من ظلم ظالم ونحوه، وقال الطِرِمَّاح:
وقبْلَ غدٍ يَا ويحَ قلبيَ من غد ** إذا راح أصحابي ولستُ برائح

يريد يوم موته.
والمراد به في الآية يوم نزول عذابهم المستقرب.
وتبيينه في قوله: {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم} [القمر: 27] الخ، أي حين يرون المعجزة وتلوح لهم بوارق العذاب يعلمون أنهم الكذّابون الأشرون لا صالح.
وعلى الوجه الثاني في ضمير {سيعلمون} يكون الغد مرادًا به: يوم انتصار المسلمين في بدر ويوم فتح مكة، أي سيعلمون من الكذاب المماثل للكذاب في قصة ثمود.
{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)}.
هذه الجملة بيان لجملة {سيعلمون غدًا من الكذاب الأشر} [القمر: 26] باعتبار ما تضمنته الجملة المبيَّنة بفتح الياء من الوعيد وتقريب زمانه وإن فيه تصديق الرسول الذي كذبوه.
وضمير {لهم} جار على مقتضى الظاهر على قراءة الجمهور {سيعلمون} بياء الغائبة، وإما على قراءة ابن عامر وحمزة {ستعلمون} بتاء الخطاب فضمير {لهم} التفات.
وإرسال الناقة إشارة إلى قصة معجزة صالح أنه أخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تلك المعجزة مقدِّمة الأسباب التي عُجل لهم العذاب لأجلها، فذكر هذه القصة في جملة البيان توطئة وتمهيد.
والإِرسال مستعار لجعلها آية لصالح.
وقد عُرف خَلْق خوارق العادات لتأييد الرسل باسم الإِرسال في القرآن كما قال تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا} [الإسراء: 59] فشبهت الناقة بشاهد أرسله الله لتأييد رسوله.
وهذا مؤذن بأن في هذه الناقة معجزةً وقد سماها الله آية في قوله حكاية عنهم وعن صالح {فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة} [الشعراء: 154، 155] الخ.
و {فتنة لهم} حال مقدر، أي تفتنهم فتنة هي مكابرتهم في دلالتها على صدق رسولهم، وتقدير معنى الكلام: إنا مرسلو الناقة آية لك وفتنة لهم.
وضمير {لهم} عائد إلى المكذبين منهم بقرينة إسناد التكذيب كما تقدم.
واسم الفاعل من قوله: {مرسلوا الناقة} مستعمل في الاستقبال مجازًا بقرينة قوله: {فارتقبهم واصطبر}، فعدل عن أن يقال: سنرسل، إلى صيغة اسم الفاعل الحقيقة في الحال لتقريب زمن الاستقبال من زمن الحال.
والارتقاب: الانتظار، ارتقب مثل: رقب، وهو أبلغ دلالة من رقب، لزيادة المبنى فيه.
وعدي الارتقاب إلى ضميرهم على تقدير مضاف يقتضيه الكلام لأنه لا يرتقب ذواتهم وإنما يرتقب أحوالًا تحصل لهم.
وهذه طريقة إسناد أو تعليققِ المشتقات التي معانيها لا تسند إلى الذوات فتكون على تقدير مضاف اختصارًا في الكلام اعتمادًا على ظهور المعنى.
وذلك مثل إضافة التحريم والتحليل إلى الذوات في قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3].
والمعنى: فارتقب ما يحصل لهم من الفتنة عند ظهور الناقة.
والاصطبار: الصبر القوي، وهو كالارتقاب أيضًا أقوى دلالة من الصبر، أي اصبر صبرًا لا يعتريه ملل ولا ضجر، أي اصبر على تكذيبهم ولا تأيس من النصر عليهم، وحذف متعلق {اصطبر} ليعم كل حال تستدعي الضجر.