فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتقديرُ: واصطبر على أذاهم وعلى ما تجده في نفسك من انتظار النصر.
وجملة {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم} معطوفة على جملة {إنا مرسلوا الناقة} باعتبار أن الوعد بخلق آية الناقة يقتضي كلامًا محذوفًا، تقديره: فأرسلنا لهم الناقة وقلنا نبئهم أن الماء قسمة بينهم على طريقة العطف والحذف في قوله: {فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق} [الشعراء: 63]، وإن كان حرف العطف مختلفًا، ومثل هذا الحذف كثير في إيجاز القرآن.
والتعريف في {الماء} للعهد، أي ماء القرية الذي يستقون منه، فإن لكل محلة ينزلها قوم ماءً لسقياهم وقال تعالى: {ولما ورد ماء مدين} [القصص: 23].
وأخبر عن الماء بأنه {قسمة}.
والمراد مقسوم فهو من الإِخبار بالمصدر للتأكيد والمبالغة.
وضمير {بينهم} عائد إلى معلوم من المقام بعد ذكر الماء إذ من المتعارف أن الماء يستقي منه أهل القرية لأنفسهم وماشيتهم، ولما ذكرت الناقة عُلم أنها لا تستغني عن الشرب فغلّب ضمير العقلاء على ضمير الناقة الواحدة وإذ لم يكن للناقة مالك خاص أمر الله لها بنوبة في الماء.
وقد جاء في آية سورة الشعراء (155) {قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم} وهذا مبدأ الفتنة، فقد روي أن الناقة كانت في يوم شربها تشرب ماء البئر كله فشحّوا بذلك وأضمروا حَلْدَها عن الماء فأبلغهم صالح إن الله ينهاهم عن أن يمسوها بسوء.
والمحْتضر بفتح الضاد اسم مفعول من الحضور وهو ضد الغيبة.
والمعنى: محتضر عنده فحذف المتعلققِ لظهوره.
وهذا من جملة ما أُمر رسولهم بأن ينبئهم به، أي لا يحضُر القوم في يوم شِرب الناقة، وهي بإلهاممِ الله لا تحضر في أيام شرب القوم.
والشِّرب بكسر الشين: نوبة الاستقاء من الماء.
فنادَوا صاحبهم الذي أغروه بقتلها وهو قُدار بضم القاف وتخفيف الدال بنُ سالف.
ويعرف عند العرب بأحمر، قال زهير:
فَتُنْتِجْ لكم غلمانَ أشأَمَ كلَّهم ** كأحمرِ عَاد ثم تُرضع فَتفْطِم

يريد أحمر ثمود لأن ثمودًا إخوة عاد (ولم أقف على سبب وصفه بأحمر وأحسب أنه لبياض وجهه).
وفي الحديث بُعثت إلى الأحمر والأسود، وكان قُدار من سَادتهم وأهل العزة منهم، وشبههُ النبي بأبي زمعة يعني الأسودَ بن المطلب بن أسد في قوله: فانتدب لها رجل ذو منعة في قومه كأبي زمعة (أي فأجاب نداءهم فَرماها بنبل فقتلها).
وعبر عنه بصاحبهم للإِشارة إلى أنهم راضون بفعله إذ هم مصاحبون له وممالئون.
ونداؤهم إياه نداء الإِغراء بالناقة وإنما نادوه لأنه مشتهر بالإِقدام وقلة المبالاة لعزته.
وتعاطى مطاوع عاطاه وهو مشتق من: عطَا يعطو، إذا تناول.
وصيغة تفاعل تقتضي تعدد الفاعل، شبه تخوف القوم من قتلها لما أنذرهم به رسولهم من الوعيد وتردُّدُهم في الإِقدام على قتلها بالمعاطاة فكل واحد حين يُحجم عن مباشرة ذلك ويشير بغيره كأنه يعطي ما بيده إلى يد غيره حتى أخذه قُدار.
وعطف {فعقر} بالفاء للدلالة على سرعة إتيانه ما دعوه لأجله.
والعقر: أصله ضرب البعير بالسيف على عراقيبه ليسقط إلى الأرض جاثيًا فيتمكن الناحر من نَحره.
قال أبو طالب:
ضروبٌ بنصل السيف سُوق سمائها ** إذا عدموا زادا فإنك عاقر

وغلب إطلاقه على قتل البعير كما هنا إذ ليس المراد أنه عَقَرها بل قتلها بنبله.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30)}.
القول فيه كالقول في نظيره الواقع في قصة قوم نوح فليس هو تكريرًا ولكنه خاص بهذه القصة.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)}.
جواب قوله: {فكيف كان عذابي ونذر} [القمر: 30] فهو مثل موقع قوله: {إنا أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا} [القمر: 19] في قصة عاد كما تقدم.
والصيحة: الصاعقة وهي المعبر عنها بالطاغية في سورة الحاقة، وفي سورة الأعراف بالرجفة، وهي صاعقة عظيمة خارقة للعادة أهلكتهم، ولذلك وصفت بـ {واحدة} للدلالة على أنها خارقة للعادة إذ أتت على قبيلة كاملة وهم أصحاب الحِجْر.
و {كانوا} بمعنى: صاروا، وتجيء (كان) بمعنى (صار) حين يراد بها كون متجدد لم يكن من قبل.
والهشيم: ما يَبِسَ وجفّ من الكلأ ومن الشجر، وهو مشتق من الهشْم وهو الكَسْر لأن اليابس من ذلك يصير سريع الانكسار.
والمراد هنا شيء خاص منه وهو ما جفّ من أغصَان العضاة والشوك وعظيم الكلأ كانوا يتخذون منه حظائر لحفظ أغنامهم من الريح والعادية ولذلك أضيف الهشيم إلى المْحتظِر.
وهو بكسر الظاء المعجمة: الذي يَعمل الحَظيرة ويَبْنيهَا، وذلك بأنه يجمع الهشيم ويلقيه على الأرض ليرصفه بعد ذلك سياجًا لحظيرته فالمشبه به هو الهشيم المجموع في الأرض قبل أن يُسيّج ولذلك قال: {كهشيم المحتظر} ولم يقل: كهشيم الحظيرة، لأن المقصود بالتشبيه حالته قبل أن يرصف ويصفف وقبل أن تتخذ منه الحظيرة.
والمحتظر: مفتعل من الحظيرة، أي متكلف عمل الحظيرة.
والقول في تعدية {أرسلنا} إلى ضمير {ثمود} [القمر: 23] كالقول في {أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا} [القمر: 19].
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)}.
تكرير ثان بعد نظيريه السالفين في قصة قوم نوح وقصة عاد تذييلًا لهذه القصة كما ذيلت بنظيريه القصتان السالفتان اقتضى التكرير مقام الامتنان والحث على التدبر بالقرآن لأن التدبر فيه يأتي بتجنب الضلال ويرشد إلى مسالك الاهتداء فهذا أهم من تكرير {فكيف كان عذابي ونذر} [القمر: 30] فلذلك أوثر. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)}.
تقدمت قصة عاد مطولة ومتوسطة، وهنا ذكرها تعالى موجزة، كما ذكر قصة نوح عليه السلام موجزة.
ولما لم يكن لقوم نوح علم، ذكر قوم مضافًا إلى نوح.
ولما كانت عاد علمًا لقوم هود، ذكر العلم، لأنه أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة.
وتكرر التهويل بالاستفهام قبل ذكر ما حل بهم وبعده، لغرابة ما عذبوا به من الريح، وانفرادهم بهذا النوع من العذاب، ولأن الاختصار داعية الاعتبار والتدبر والصرصر الباردة، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة.
وقيل، المصوتة والجمهور: على إضافة يوم إلى نحس، وسكون الحاء.
وقرأ الحسن: بتنوين يوم وكسر الحاء، جعله صفة لليوم، كقوله تعالى: {في أيام نحسات} {مستمر}، قال قتادة: استمر بهم حتى بلغهم جهنم.
وعن الحسن والضحاك: كان مرًا عليهم.
وروي أنه كان يوم الأربعاء، والذي يظهر أنه ليس يومًا معينًا، بل أريد به الزمان والوقت، كأنه قيل: في وقت نحس.
ويدل على ذلك أنه قال في سورة فصلت: {فأرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في أيامٍ نحساتٍ} وقال في الحاقة: {سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسومًا} إلا أن يكون ابتداء الريح في يوم الأربعاء، فعبر بوقت الابتداء، وهو يوم الأربعاء، فيمكن الجمع بينها.
{تنزع الناس}: يجوز أن يكون صفة للريح، وأن يكون حالًا منها، لأنها وصفت فقربت من المعرفة.
ويحتمل أن يكون تنزع مستأنفًا، وجاء الظاهر مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم، إذ لو عاد بضمير المذكورين، لتوهم أنه خاص بهم، أي تقلعهم من أماكنهم.
قال مجاهد: يلقى الرجل على رأسه، فتفتت رأسه وعنقه وما يلي ذلك من بدنه.
وقيل: كانوا يصطفون آخذي بعضهم بأيدي بعض، ويدخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر فيندسون فيها، فتنزعهم وتدق رقابهم.
والجملة التشبيهية حال من الناس، وهي حال مقدرة.
وقال الطبري: في الكلام حذف تقديره: فتتركهم.
{كأنهم أعجاز نخل}: فالكاف في موضع نصب بالمحذوف شبههم، بأعجاز النخل المنقعر، إذ تساقطوا على الأرض أمواتًا وهم جثث عظام طوال.
والأعجاز: الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها.
وقيل: كانت الريح تقطع رؤوسهم، فتبقى أجسادًا بلا رؤوس، فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها.
وقرأ أبو نهيك: {أعجز} على وزن أفعل، نحو ضبع وأضبع.
والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث، وإنما ذكر هنا لمناسبة الفواصل، وأنث في قوله: {أعجاز نخل خاوية} في الحاقة لمناسبة الفواصل أيضًا.
وقرأ أبو السمال، فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل، وأبو عمرو والداني: برفعهما.
فأبشر: مبتدأ، وواحد صفته، والخبر نتبعه.
ونقل ابن خالويه، وصاحب اللوامح، وابن عطية رفع أبشر ونصب واحدًا عن أبي السمال.
قال صاحب اللوامح: فأما رفع أبشر فبإضمار الخبر بتقدير: أبشر منا يبعث إلينا، أو يرسل، أو نحوهما؟ وأما انتصاب واحدًا فعلى الحال، إما مما قبله بتقدير: أبشر كائن منا في الحال توحده، وإما مما بعده بمعنى: نتبعه في توحده، أو في انفراده.
وقال ابن عطية: ورفعه إما على إضمار فعل مبني للمفعول، التقدير: أينبأ بشر؟ وإما على الابتداء، والخبر في قوله: {نتبعه}، وواحدًا على هذه القراءة حال إما من الضمير في نتبعه، وإما من المقدر مع منا، كأنه يقول: أبشر كائن منا واحدًا؟ وفي هذا نظر.
وقولهم ذلك حسد منهم واستبعاد أن يكون نوع البشر يفضل بعضه بعضًا هذا الفضل، فقالوا: نكون جمعًا ونتبع واحدًا، ولم يعلموا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ويفيض نور الهدى على من رضيه. انتهى.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أنكروا أن يتبعوا بشرًا منهم واحدًا؟ قلت: قالوا: أبشرًا إنكارًا؟ لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكونوا من جنس أعلى من جنس البشر، وهم الملائكة، وقالوا منا، لأنه إذا كان منهم، كانت المماثلة أقوى، وقالوا واحدًا إنكارًا، لأن تتبع الأمة رجلًا واحدًا، وأرادوا واحدًا من أبنائهم ليس بأشرفهم ولا أفضلهم، ويدل عليه.
{أألقي الذكرعليه من بيننا}: أي أأنزل عليه الوحي من بيننا؟ وفينا من هو أحق منه بالاختيار للنبوة.
انتهى، وهو حسن، على أن فيه تحميل اللفظ ما لا يحتمله.
{إنا إذا}: أي إن اتبعناه، فنحن في ضلال: أي بعد عن الصواب وحيرة.
وقال الضحاك: في تيه.
وقال وهب: بعد عن الحق، {وسعر}: أي عذاب، قاله ابن عباس.
وعنه وجنون يقال: ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة، وقال الشاعر:
كأن بها سعرًا إذا العيس هزها ** زميل وإزجاء من السير متعب

وقال قتادة: وسعر: عناء.
وقال ابن بحر: وسعر جمع سعير، وهو وقود النار، أي في خطر كمن هو في النار. انتهى.
وروي أنه كان يقول لهم: إن لم تتبعوني، كنتم في ضلال عن الحق وسعر: أي نيران، فعكسوا عليه فقالوا: إن اتبعناك كنا إذًا كما تقول.
ثم زادوا في الإنكار والاستبعاد فقالوا: {أألقي}: أي أأنزل؟ قيل: وكأنه يتضمن العجلة في الفعل، والعرب تستعمل هذا الفعل، ومنه: {وألقَيت عليك محبة مني} {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلًا} والذكر هنا: الوحي والرسالة وما جاءهم من الحكمة والموعظة.
ثم قالوا: ليس الأمر كما تزعم بل هو القرآن.
{أشر}: أي بطر، يريد العلوّ علينا، وأن يقتادنا ويتملك طاعتنا.
وقرأ قتادة وأبو قلابة: {بل هو الكذاب الأشر}، بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشد الراء، وكذا الأشر الحرف الثاني.
وقرأ الحرف الثاني مجاهد، فيما ذكر صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي الأشر بثلاث ضمات وتخفيف الراء.
ويقال: أشر وأشر، كحذر وحذر، فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لضمة الشين.
وحكى الكسائي عن مجاهد: ضم الشين.
وقرأ أبو حيوة: هذا الحرف الآخر الأشر أفعل تفضيل، وإتمام خير، وشر في أفعل التفضيل قليل.
وحكى ابن الأنباري أن العرب تقول: هو أخير وهو أشر.
قال الراجز.
بلال خير الناس وابن الأخير

وقال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم بالأخير والأشر إلا في ضرورة الشعر، وأنشد قول رؤبة بلال البيت.
وقرأ علي والجمهور: {سيعلمون} بياء الغيبة، وهو من إعلام الله تعالى لصالح عليه السلام؛ وابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش: بتاء الخطاب: أي قل لهم يا صالح وعدًا يراد به الزمان المستقبل، لا اليوم الذي يلي يوم خطابهم، فاحتمل أن يكون يوم العذاب الحال بهم في الدنيا، وأن يكون يوم القيامة، وقال الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح ** وقبل اضطراب النفس بين الجوانح

وقبل غد يا لهف نفسي في غد ** إذا راح أصحابي ولست برائح

أراد وقت الموت، ولم يرد غدًا بعينه.
وفي قوله: {سيعلمون غدًا} تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر، والمعنى: أنهم هم الكذابون الأشرون.
وأورد ذلك مورد الإبهام والاحتمال، وإن كانوا هم المعنيين بقوله تعالى، حكاية عن قول نوح عليه الصلاة والسلام: {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} والمعنى به قومه، وكذا قول شعيب عليه السلام: {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب} وقول الشاعر: