فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ الجمهور: {أم يقولون}، بياء الغيبة التفاتًا، وكذا ما بعده للغائب. وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهشيم: بتاء الخطاب للكفار، اتباعا لما تقدم من خطابهم.
وقرأوا: {ستهزم الجمع}، بفتح التاء وكسر الزاي وفتح العين، خطابًا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وأبو حيوة أيضًا ويعقوب: بالنون مفتوحة وكسر الزاي وفتح العين؛ والجمهور: بالياء مبنيًا للمفعول، وضم العين.
وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة أيضًا: بفتح الياء مبنيًا للفاعل ونصب العين: أي سيهزم الله الجمع.
والجمهور: {ويولون} بياء الغيبة؛ وأبو حيوة وداود بن أبي سالم، عن أبي عمرو: بتاء الخطاب.
والدبر هنا: اسم جنس، وجاء في موضع آخر {ليولن الأدبار} وهو الأصل، وحسن اسم الجنس هنا كونه فاصلة.
وقال الزمخشري: {ويولون الدبر}: أي الأدبار، كما قال: كلوا في بعض بطنكم تعفوا. وقرئ: {الأدبار}. انتهى، وليس مثل بطنكم، لأن مجيء الدبر مفردًا ليس بحسن، ولا يحسن لإفراد بطنكم.
وفي قوله تعالى: {سيهزم الجمع} عدة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بهزيمة جمع قريش؛ والجمهور: على أنها مكية، وتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشهدًا بها. وقيل: نزلت يوم بدر.
{بل الساعة موعدهم}: انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التي عذابها أشد عليهم من كل هزيمة وقتال.
{والساعة أدهى}: أي أفظع وأشد، والداهية الأمر: المنكر الذي لا يهتدى لدفعه، وهي الرزية العظمى تحل بالشخص.
{وأمر} من المرارة: استعارة لصعوبة الشيء على النفس.
{إن المجرمين في ضلال}: أي في حيرة وتخبط في الدنيا.
{وسعر}: أي احتراق في الآخرة، جعلوا فيه من حيث مصيرهم إليه.
وقال ابن عباس: وخسران وجنون، والسعر: الجنون، وتقدم مثله في قصة صالح عليه السلام.
{يوم يسحبون}: يجرون {في النار}، وفي قراءة عبد الله: {إلى النار}.
{على وجوههم ذوقوا}: أي مقولا لهم: {ذوقوا مس سقر}.
وقرأ محبوب عن أبي عمرو: {مسقر}، بإدغام السين في السين.
قال ابن مجاهد: إدغامه خطأ لأنه مشدد. انتهى.
والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال، ثم أدغم.
{إنا كل شيء خلقناه بقدر}، قراءة الجمهور: {كل شيء} بالنصب.
وقرأ أبو السمال، قال ابن عطية وقوم من أهل السنة: بالرفع.
قال أبو الفتح: هو الوجه في العربية، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة.
وقال قوم: إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف، وأن ما بعده يصلح للخبر، وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر، اختير النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف، ومنه هذا الموضع، لأن في قراءة الرفع يتخيل أن الفعل وصف، وأن الخبر يقدر.
فقد تنازع أهل السنة والقدرية الاستدلال بهذه الآية.
فأهل السنة يقولون: كل شيء فهو مخلوق لله تعالى بقدرة دليله قراءة النصب، لأنه لا يفسر في مثل هذا التركيب إلا ما يصح أن يكون خبرًا لو وقع الأول على الابتداء.
وقالت القدرية: القراءة برفع كل، وخلقناه في موضع الصفة لكل، أي إن أمرنا أو شأننا كل شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار، على حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك.
وقال الزمخشري: {كل شيء} منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.
وقرئ: {كل شيء} بالرفع، والقدر والقدر هو التقدير.
وقرئ بهما، أي خلقنا كل شيء مقدرًا محكمًا مرتبًا على حسب ما اقتضته الحكمة، أو مقدرًا مكتوبًا في اللوح، معلومًا قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه. انتهى.
قيل: والقدر فيه وجوه: أحدها: أن يكون بمعنى المقدار في ذاته وصفاته.
والثاني: التقدير، قال تعالى: {فقدرنا فنعم القادرون} وقال الشاعر:
وما قدّر الرحمن ما هو قادر

أي ما هو مقدور.
والثالث: القدر الذي يقال مع القضاء، يقال: كان ذلك بقضاء الله وقدره، والمعنى: أن القضاء ما في العلم، والقدر ما في الإرادة، فالمعنى في الآية: {خلقناه بقدر}: أي بقدرة مع إرادة. انتهى.
{وما أمرنا إلا واحدة}: أي إلا كلمة واحدة وهي: كن كلمح بالبصر، تشبيه بأعجل ما يحس، وفي أشياء أمر الله تعالى أوحى من ذلك، والمعنى: أنه إذا أراد تكوين شيء لم يتأخر عن إرادته.
{ولقد أهلكنا أشياعكم}: أي الفرق المتشايعة في مذهب ودين.
{وكل شي فعلوه}: أي فعلته الأمم المكذبة، محفوظ عليهم إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد.
ومعنى {في الزبر}: في دواوين الحفظة.
{وكل صغير وكبير} من الأعمال، ومن كل ما هو كائن، {مستطر}: أي مسطور في اللوح.
يقال: سطرت واستطرت بمعنى.
وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وعصمة عن أبي بكر: بشد راء مستطر.
قال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون من طرّ النبات، والشارب إذا ظهر وثبت بمعنى: كل شيء ظاهر في اللوح مثبت فيه.
ويجوز أن يكون من الاستطار، لكن شدّد الراء للوقف على لغة من يقول: جعفرّ ونفعلّ بالتشديد وقفًا.
انتهى، ووزنه على التوجيه الأول استفعل، وعلى الثاني افتعل.
وقرأ الجمهور: {ونهر} على الإفراد، والهاء مفتوحة؛ والأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان: بسكونها، والمراد به الجنس، إن أريد به الأنهار، أو يكون معنى ونهر: وسعة في الأرزاق والمنازل، ومنه قول قيس بن الحطيم:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ** يرى قائم من دونها ما وراءها

أي: أوسعت فتقها.
وقرأ زهير العرقبي والأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني: بضم النون والهاء، جمع نهر، كرهن ورهن، أو نهر كأسد وأسد، وهو مناسب لجمع جنات.
وقيل: نهر جمع نهار، ولا ليل في الجنة، وهو بعيد.
{في مقعد صدق}: يجوز أن يكون ضد الكذب، أي في المقعد الذي صدقوا في الخبر به، وأن يكون من قولك: رجل صدق: أي خير وجود وصلاح.
وقرأ الجمهور: {في مقعد}، على الإفراد، يراد به اسم الجنس؛ وعثمان البتي: في مقاعد على الجمع؛ وعند تدل على قرب المكانة من الله تعالى، والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} أي ريحًا تحصبُهم أي ترميهم بالحصباءِ {إِلاَّ الَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} في سحرٍ وهو آخرُ الليلِ وقيلَ: هو السدسُ الأخيرُ منْهُ أي ملتبسينَ بسحرٍ {نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا} أي إنعامًا منَّا وهو علةٌ لنجينا {كذلك} أي مثلَ ذلك الجزاءِ العجيبِ {نَجْزِى مَن شَكَرَ} نعمتنَا بالإيمانِ والطاعةِ.
{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ} لوطٌ عليهِ السلام {بَطْشَتَنَا} أي أَخذتَنَا الشديدةَ بالعذابِ {فَتَمَارَوْاْ} فكذَّبوا {بالنذر} متشاكينَ {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} قصدُوا الفجورَ بهم {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} فمسحنَاها وسوَّيناها كسائرِ الوجهِ. رُويَ أنَّهم لَمَّا دخلُوا دارَهُ عنوةً صفقَهُم جبريلُ عليهِ السلام صفقةً فتركهُم يترددونَ لا يهتدونَ إلى البابِ حتَّى أخرجُهم لوطٌ عليه السلام {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} أي فقلُنَا لهُم ذُوقوا على ألسنةِ الملائكةِ أو ظاهرُ الحالِ والمرادُ به الطمسُ فإنَّه من جملةِ ما أُنذرُوه من العذابِ {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً} وقرئ {بكرةَ} غيرَ مصروفةٍ على أنَّ المرادَ بها أولُ نهارٍ مخصوصٍ {عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} لا يفارقُهم حتَّى يُسلمَهُم إلى النارِ. وفي وصفِه بالاسقرار إيماءٌ إلى أنَّ ما قبلَهُ من عذابِ الطمسِ ينتهِي إليهِ {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} حكايةً لما قيلَ لهم حينئذٍ من جهتِه تعالى تشديدًا للعذابِ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} مرّ ما فيهِ من الكلامِ.
{وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النذر} صُدِّرتْ قصتُهم بالتوكيدِ القسمِي لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِها لغايةِ عظمِ ما فيَها من الآياتِ وكثرتِها وهولِ ما لاقَوه منَ العذابِ وقوة إيجابِها للاتعاظِ. والاكتفاءُ بذكرِ آلِ فرعونَ للعلمِ بأنَّ نفسَه أَوْلى بذلكَ أي وبالله لقد جاءهُم الإنذاراتُ. وقوله تعالى: {كَذَّبُواْ بآياتنا كُلَّهَا} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مجيءِ النذرِ كأنَّه قيلَ: فمَاذا فعلُوا حينئذٍ فقيلَ: كذَّبُوا بجميعِ آياتِنا، وهي الآياتُ التسعُ {فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ} لا يُغالبُ {مُّقْتَدِرٍ} لا يُعجزه شيءٌ.
{أكفاركم} يا معشرَ العربِ {خَيْرٌ} قوةً وشدةً وعُدّةً وعدةً أو مكانةً {مّنْ أُوْلَئِكُمْ} الكفارِ المعدودينَ والمَعُنى أنه أصابَهُم مَا أصابَهُم مع ظهورِ خيريتِهم منكُم فيما ذُكِرَ من الأمورِ فهلْ تطمعونَ أنْ لا يصيبَكُم مثلُ ذلكَ وأنتُم شرٌّ منهم مكانًا وأسوأُ حالًا. وقوله تعالى: {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ في الزبر} إضرابٌ وانتقال من التبكيتِ بما ذُكِرَ إلى التبكيتِ بوجهٍ آخرَ أيْ بلْ ألكم براءةٌ وأمنٌ من تبعاتِ ما تعملونَ من الكفرِ والمعاصِي وغوائلِهما في الكتبِ السماويةِ فلذلكَ تصرونَ على ما أنتُم عليهِ.
وقوله تعالى: {أَمْ يَقولونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} إضرابٌ من التبكيتِ المذكورِ إلى وجهٍ آخرَ من التبكيتِ. والالتفاتُ للإيذانِ باقتضاءِ حالِهم للإعراضِ عنهُم وإسقاطِهم عن رتبةِ الخطابِ وحكايةِ قبائِحهم لغيرِهم أي بلْ أيقولونَ واثقينَ بشوكتِهم نحنُ أولُو حزمٍ ورأيٍ أمرُنا مجتمعٌ لا نُرامُ ولا نُضامُ أو منتصرٌ من الأعداءِ لا نُغلبُ أو متناصرٌ بعضُنا بعضًا. والإفرادُ باعتبارِ لفظِ الجميعِ. وقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع} ردٌّ وإبطالٌ لذلكَ، والسينُ للتأكيدِ أي يُهزم جمعُهم ألبتةَ {وَيُوَلُّونَ الدبر} أي الأدبارَ وقد قرئ كذلكَ. والتوحيدُ لإرادةِ الجنسِ أو إرادةِ أن كلّ واحدٍ منهم يولِّي دبرَه وقد كان كذلكَ يومَ بدرٍ.
«قال سعيدُ بنُ المسيِّبِ: سمعتُ عمَر بنَ الخطابِ رضيَ الله عنُهُ يقول: لما نزلتْ سُيهزمُ الجمعُ ويولونَ الدبرَ كنتَ لا أدرِي أيَّ جمعٍ يُهزمُ فلمَّا كانَ يومَ بدرٍ رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يلبَسُ الدرعَ ويقول: {سُيهزمُ الجمعُ ويولونَ الدبرَ} فعرفتُ تأويلَها». وقرئ {سَيهزمُ الجمعَ} أي الله عزَّ وعَلاَ {بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} أي ليسَ هَذا تمامَ عقوبتِهم، بلِ الساعةُ موعدُ أصلِ عذابِهم وهَذا من طلائعِه {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي في أقصى غايةٍ من الفظاعةِ والمرارةِ. والداهيةُ الأمرُ الفظيعُ الذي لا يُهتدَى إلى الخلاصِ عنْهُ. وإظهارُ الساعةِ في موقعِ إضمارِها لتربيةِ تهويلها.
{إِنَّ المجرمين} من الأولينَ والآخرينَ {فِى ضلال وَسُعُرٍ} أي في هلاكٍ ونيرانٍ مسعرةٍ وقيلَ: في ضلال عن الحقِّ في الدُّنيا، ونيرانٍ في الآخرةِ. وقوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} إلخ منصوبٌ إمَّا بما يُفهمُ من قوله تعالى في ضلالٍ أي كائنونَ في ضلالٍ وسعرٍ يومَ يجرونَ {فِى النار على وُجُوهِهِمْ} وإما بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي قاسُوا حرَّها وألمَها. وسقرُ علمُ جهنَّم ولذلكَ لم يُصرفْ منْ سقرتْهُ النارُ وصقرتْهُ إذا لوَّحتْهُ. والقول المقدرُ على الوجهِ الأولِ حالٌ من ضميرِ يسحبونَ. {إِنَّا كُلَّ شَىْء} من الأشياءِ {خلقناه بِقَدَرٍ} أي ملتبسًا بقدرٍ معينٍ اقتضْتُه الحكمةُ التي عليَها يدورُ أمرُ التكوينِ أو مقدرًا مكتوبًا في اللوحِ قبلَ وقوعِه. وكلَّ شيءٍ منصوبٌ بفعلٍ يفسرُه ما بعَدُه وقرئ بالرفعِ على أنَّه مبتدأٌ و{خلقناهُ} خبرُهُ.