فصل: مطلب كيفية خلق آدم عليه السلام وخلق الجان ومعجزات القرآن في المشرقين والمغربين وكيفية التقاء البحرين ومعنى {كلّ يوم هو في شأن}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَبِأَيِّ آلاءِ} نعم وأفضال {رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)} أيها الإنس والجن، وقد كرر اللّه تعالى هذه الآية في هذه السّورة إحدى وثلاثين مرة ولم تذكر في غير هذه السّورة أبدا في جميع القرآن، وإنما وقع هذا التكرار تقريرا لنعم اللّه وأفضاله على خلقه، وتأكيدا على التذكير بها، وتنبيها على لزوم شكرها، وليتفكر الثقلان فيها فيفهم قدرها ويعظم أمرها ويحمد التفضل بها.
أخرج الترمذي عن جابر قال: «خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرّحمن فسكتوا، فقال لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن منكم ردّا، كنت كلما أتيت على قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} قالوا ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد».
وليس المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليلة الجن» اجتماعه بهم أول مرة كما ذكرنا أول سورة الجن، ولا ما ذكرناه في الآية 29 من سورة الأحقاف بل هو اجتماع آخر إذ ثبت اجتماعه بهم ستّ مرات فيما أظهر لأصحابه رضوان اللّه عليهم، أما اجتماعه بهم فيما لم يطلع عليه أصحابه فلا يعلم مداه، وهذا الاجتماع بالمدينة، وذلك في مكة.

.مطلب كيفية خلق آدم عليه السلام وخلق الجان ومعجزات القرآن في المشرقين والمغربين وكيفية التقاء البحرين ومعنى {كلّ يوم هو في شأن}:

{خَلَقَ الْإِنْسانَ} آدم عليه السلام {مِنْ صَلْصالٍ} طين يابس إذا ضربته بعضه يصلصل أي بصوت فكان من شدة جفائه {كَالْفَخَّارِ} (14) الطّين المصنوع لبنا المطبوخ بالنار، وقد ذكرنا في الآية 8 من سورة النّساء المارة إذ لا خلاف في آي القرآن بمثل هذه الألفاظ، لأن المعنى بينها متقارب بعضه من بعض، ولا منافاة بين هذه وبين آية خلقه من تراب أو من طين أو من حما مسنون الواردة في السّور الأخرى، لأن التراب جعل طينا ولما اختلط بالماء وعجن ضار لازبا، ولما اختمر صار حمأ، فلما زادت خمرته صار مسنونا أي طينا أسود منتنا، فلما يبس صار صلصالا، ثم خلق زوجته حواء من أقصر أضلاعه اليسرى، وجميع الخلق من بعدها سلائل ذريتها إلى يوم القيامة.
{وَخَلَقَ الْجَانَّ} أي أصله أيضا وهو إبليس عليه اللّعنة أبو الجان فما بعده أيضا، وجاء ذكره بمقابلة ذكر آدم عليه السلام أبي البشر كما مر مثل هذا في الآيتين 27 و28 من سورة الحجر {مِنْ مارِجٍ} لهب صاف من الدّخان {مِنْ نار} (15) وهو لهيبها الأحمر فالأخضر فالأصفر فالأزرق الصّافي من الدّخان الذي يكون بين جمرها بعد استوائه.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16)} لا بشيء من نعمك ربنا نكذب بل نصدق بها ونثني عليك بالحمد والشّكر ما حيينا.
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)} لم تأت هاتان اللّفظتان في الكتب السّماوية كلها غير القرآن.
واعلم أنه قبل اكتشاف أمريكا لم يكن أحد يعلم أن الأرض مشرقين ومغربين، فاعتبروا أيها النّاس، واعلموا أن القرآن جمع فأوعى، وفيه علوم الأولين والآخرين منها ما كشف ومنها ما لم، فمشرق الصّيف غابة ارتفاع الشّمس وانحيازها لجهة الشّمال ومشرق الشّتاء نهاية انحطاطها وجنوحها لجهة القبلة أي الجنوب ويقابلها المغربان وانحيازهما على العكس من جنوح المشرقين نحو القبلة والشّمال، وهذا بالنسبة لما نرى نحن أهل القطر، ولكل قطر ما يراه أهله من هذا.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)} الملح والعذب في مصب واحد كالأنهر الحلوة حينما تنصب في الأبحر، أي أنه تعالى أجراهما وأرسلهما في المرج حتى جعلهما يجتمعان.
{بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20)} بعضهما على بعض فيختلطان ويكونان كالشيء الواحد، فتنعدم من الحلو المنفعة. وقيل إن المراد بحر الرّوم وبحر الهند والحاجز بينهما نحن.
وقيل بحر فارس والرّوم والبرزخ الذي بينهما هو الجزائر، وإنهما يلتقيان في المحيط إلّا أنهما خليجان يتشعبان فيكونان شيئا واحدا وقبله كانا متباينين.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22)} أي من كلّ منهما لا من المالح فقط كما هو ظاهر الآية، خلافا لما قاله بعض المفسرين باختصاص المالح فقط، لأن العذب يخرج منه الصّدف، وقد يوجد فيه اللّؤلؤ أيضا.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)}.
{وَلَهُ الْجَوارِ} السفن الكبار الجاريات فيهما أيضا {الْمُنْشَآتُ} المحدثات بإحداث البشر وأصلها سفينة نوح عليه السلام والفضل للبادي، وهذه المراكب الفخمة وليدتها وفرع عنها حيث تدرج البشر في صنعها حتى بلغ منها الغاية القصوى مما يحمل بعضها ما لا يتصوره العقل من الأثقال، فصارت الواحدة منها كالجبال مصداقا لقوله تعالى فتراها {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24)} الجبال الشّامخات فكل ما بالغوا في عظم صنعها لا تبلغ قدر بعض الجبال، ويطلق لفظ الأعلام على الأشياخ، قال ابن الفارض:
نصبت في موكب العشاق أعلامي ** وكان قبلي بلي بالعشق اعلامي

أي أشياخي، وهو أيضا جمع علم بمعنى الرّاية التي توضع على دور الحكومة، وتحمل في الحروب، كما أن أصل هذه القطارات والسّيارات والدّبابات هو العجلة، وقد تدرجوا في صنعها أيضا وتحسينها وتكبيرها وتسريع حركاتها أيضا حتى بلغت ما ترى إذ طاروا بالسماء بسرعة خارقة، فكل هذه فرع عنها، وكلها من خلق اللّه القائل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} الآية 96 من الصّافات، والآية 8 من النّحل نظيرتها في المعنى، راجع الآية 25 من سورة الحديد المارة.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26)} إنسانا كان أو حيوانا نباتا أو بناء فكل ما على الأرض مصيره الفناء.
{وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ} ذاته وحده {ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)} أخرج الترمذي عن أنس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «الزموا وتمسّكوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي أكثروا من ذكر هذه الجملة العظيمة من صفاته عزت وعلت والالتجاء إليه والاستغاثة به فإنه تعالى يغيثكم بكرمه وفضله.
قال تعالى وهو ابتداء كلام آخر، لأن الأوّل ختم بفناء الكون وبقاء الكون جل جلاله {يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} سؤال استعطاء من إنس وجن وملك يطلبون رحماه بلسان المقال، وبقية خلقه من نبات وجماد بلسان الحال يرجون لطفه، ولا غنى لشيء ما عن عطفه، وقد أسهبنا البحث فيما يتعلق في هذا في الآية 14 من سورة الإسراء فراجعها.
وهو جل شأنه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} ولا يشغله شأن عن شأن، وهذه الآية فيها رد على اليهود القائلين إن اللّه تعالى لا يقضي بشيء يوم السّبت، وهو يقول عزّ قوله: {كل يوم}، فلم يستثن جمعة ولا سبتا ولا أحدا، وهي شؤون عظيمة يبديها ولا يبتديها كما هي في أزله من إحياء وإماتة، وعز وذل وفقر وغنى، وصحة ومرض، وبسط وقبض، وسرور وحزن، وقيد وإفراج، وخير وشر، ونفع وضر، وما لا يحصى، لأن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة.
قال جاء الخضر عليه السلام بصورة رجل إلى عالم يحدث في المسجد وقد تطرق إلى تفسير هذه الآية، فسأله ما شأن ربك اليوم؟ فلم يقدر أن يعطيه جوابا فبقي مهموما نهاره وليله وهو يقدح فكرته لنسج جواب صالح فلم يوفق، فنام على حالته هذه فرأى المصطفى صلى الله عليه وسلم فأخبره به، فنهض فرحا مسرورا، وبكر إلى الجامع وطفق يحدث، فجاءه السائل وسأله ثانيا، فقال له ما تلقاه وهو (يرفع أناسا ويخفض آخرين) فقال له صلّ على من علمك.
وما يقرب من هذه الحادثة هو أن عالما قال في جملة حديثه الحيا من الإيمان وأسنده لحضرة الرّسول، وفي نومه رأى حضرة الرّسول فقال له ما قلت هذا فأفاق مرعوبا، وراجع ما لديه من الصّحاح فوجد الحديث، وسأل من لديه من العلماء، فأجابوه به، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت، ثم ذهب إلى مصر فأجابه علماؤها بصحة الحديث، ثم نام فرأى حضرة الرّسول فقال ما قلت، ثم ذهب إلى المدينة المنورة وقص قصته على علمائها ففطن له بعضهم فقال الحيا هو المطر، ولم يكن من الإيمان، وإنما الحياء بالمد والهمزة هو من الإيمان وقد صدق المصدق بإخبارك لأنك لم تتيقظ لهذه النّكتة فتنبه لغلطه، ونام فرأى حضرة الرّسول فقال له نعم قلت هذا الحديث كما تفطن له من سألته وعفا اللّه عنك اه شرح البردة للخربوطلي.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ(31)} فيها وعيد شديد وتهديد عظيم كقولك لمن تريد الإيقاع به سأفرغ لك.
وليس فراغ اللّه بفراغ عن شغل، لأن هذا من شأن الخلق به سأفرغ لك.
وليس فراغ اللّه بفراغ عن شغل، لأن هذه من شأن الخلق وهو منزه عن ذلك، وإنما هو إنظار الخلق لأجل قدره عليهم من إنجاء وإهلاك وغيرهما.
وسمي الانس والجن ثقلين لإثقالهما الأرض أحياء وأمواتا.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} جوانبها وأطرافها هربا من قضائي عليكما {فَانْفُذُوا} إن كنتم قادر بن ولكنكم {لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ (33)} عظيم وقوة قاهرة وليس لكم ذلك وأنى لكم هذه الغلبة على النّفوذ، بل أنتم عاجزون عنه وقدم الجن هنا على الإنس لأنهم أقدر على النّفوذ وأقوى من الإنس لا لفضلهم إذ لم يقل أحد به ولهذا قدم الإنس في الآية 88 من سورة الإسراء لأنه فيها أقدر من الجن ولو أنه لا قدرة له عليه، فعلى الّذين يريدون الصّعود إلى القمر أو المريخ كما يزعمون إن الصّعود إليهما بإمكانهم وهما في أقطار السّماء، والّذين يريدون اختراق القطب المتجمد الذي هو في أقطار الأرض أن يستحضروا مالديهم من قوة قاهرة للتوصل إلى ذلك، لأن اللّه تعالى يقول إن هذا النفوذ من الممكنات لا تقدرون عليه إلّا بسلطان، ومن أين لكم هذا السّلطان الذي ذكره اللّه، بما يدل على وصفه بالعظمة، لأن العظيم لا يقوم إليه إلّا شيء عظيم، وقد صار لهؤلاء المتنطعين مئات السنين وهم يتغنون بالصعود للقمر والمريخ وغيره ويحتجون بأنهم لم يستكملوا بعد هذه القوة الكافية الدّافعة للوصول إليهما، ولهذا فيجدر أن يقال لهم إنكم عاجزون عن ذلك، لأن هذا وإن كان العقل يجوزه بالنسبة لما حدث في هذا القرآن من العجائب والغرائب إلّا أنه متوقف على قوة عظيمة لم يتسن للبشر إدراكها، وما على البشر بعد بذل جهده ووسعه في ذلك وعدم تمكنه منه إلا أن يظهر عجزه عن ذلك، وعن القول بأن كلا من هذه الكواكب كرة أرضية مسكونة رجما بالغيب، لأن أحدا لم يرها ولم يخبر عنها من يؤخذ بقوله من الأنبياء الّذين أطلعهم اللّه على بعض غيبه وأخبروا به قيل وقوعه، فضلا عن أن كلّ ما لا يرى عيانا يكون من الأمور الحدسية الغالب عليها الكذب، وما كان كذلك فلا ينبغي للعاقل أن يقطع بصحته.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ} لهب خالص لا دخان فيه {مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ} دخان محض لا لهب فيه، هذا فإن قيل من أين عرف هذا الأوربيون حتى اخترعوا الغيوم من الدّخان وغيره بحيث يمتنعون عن الرّؤية في البر والبحر والسّماء؟
فالجواب أنهم عرفوه لأنه من لوازم الحياة الدّنيا، وكلّ ما هو من هذا القبيل قد يطلعهم اللّه عليه. قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا} الآية 8 من سورة الرّوم وعندما يفعل اللّه ذلك بكم أيها الثقلان {فَلا تَنْتَصِرانِ (35)} منه إذ لا يقدر على دفعه عنكم إلّا الذي أرسله عليكم.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37)} حمراء مذابة كدر، رديء الزّيت قال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ} الآية 9 من سورة المعارج والمهل هو النّحاس المذاب.
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ} حين يضيق عليكم في ذلك اليوم العظيم، فلا تقدرون على الهرب، ويرسل عليكم لهب النّار ودخلنها وتنهار السّماء {لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39)} لأن في هذا الموطن تخرس الألسن وتنطق الجوارح بما فعلت وتنشر الصّحف بما كان من الخلائق، وقد علم اللّه كلّ ذلك وأعلمه لخلقه ويشتد اهول لما يرى النّاس من قبائح أعمالهم وما يرون من أهوال العذاب الكائن للمجرمين، وهذا لاينافي قوله تعالى: {لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} الآية 92 من سورة الحجر لأن أحوال القيامة مختلفة، فمرة يسأل فيها النّاس عن أعمالهم، وأخرى يتخاصمون بينهم، وتارة يمنعون من الكلام، وأخرى يسكتون، وطورا تسأل أعضاؤهم وتارة تنطق بنفسها، فهو يوم شديد يشيب منه الوليد وترتعد لهوله الفرائض.