فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادةٍ إمّا في عين مال، وإمّا في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه.
ومن البيوع ما ليس فيه معنى الزيادة؛ كبيع الثمرة قبل بُدُوّ صلاحها، وكالبيع ساعة النداء يوم الجمعة؛ فإن قيل لفاعلها؛ آكل الربا فتجوُّز وتشبيه. اهـ.

.قال الفخر:

ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهًا:
أحدها: الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقدًا أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته وله حرمة عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: «حرمة مال الإنسان كحرمة دمه» فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرمًا.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضًا عن الدرهم الزائد، وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحًا فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضًا عن انتفاعه بماله.
قلنا: إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن، فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر وثانيها: قال بعضهم: الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات وثالثها: قيل: السبب في تحريم عقد الربا، أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض، لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله، ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين، فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ورابعها: هو أن الغالب أن المقرض يكون غنيًا، والمستقرض يكون فقيرًا، فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف مالًا زائدًا، وذلك غير جائز برحمة الرحيم وخامسها: أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص، ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق، فوجب القطع بحرمة عقد الربا، وإن كنا لا نعلم الوجه فيه. اهـ.

.قال القرطبي:

روى الأئمة واللفظ لمُسْلم عن أبي سعيد الخُدْريّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبُرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مِثْلا بمثل يدًا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربَى الآخذ والمعطي فيه سواء» وفي حديث عُبادة بن الصّامت «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبِيعُوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» وروى أبو داود عن عُبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب تِبْرُها وعَيْنها والفضة بالفضة تبرها وعينها والبُرُّ بالبرّ مُدْيٌ بمُدْيٍ والشعير بالشعير مدْي بمُدْي والتمر بالتمر مُدْيٌ بمُدْيٍ والملحُ بالملح مُدْيٌ بمُدْيٍ فمن زاد أو ازداد فقد أرْبَى ولا بأس يبيع الذهب بالفضة والفضةُ أكثرهما يدًا بيد وأما نَسِيئة فلا ولا بأس ببيع البرِّ بالشعير والشعيرُ أكثرهما يدًا بيد وأما نسِيئة فلا».
وأجمع العلماء على القول بمقتضى هذه السُّنّة وعليها جماعة فقهاء المسلمين إلا في البُرّ والشعير فإن مالكًا جعلهما صنفًا واحدًا، فلا يجوز منهما اثنان بواحد، وهو قول الليث والأُوزاعيّ ومعظم علماء المدينة والشام، وأضاف مالك إليهما السُّلْت.
وقال الليث: السلت والدُّخن والذرة صنف واحد؛ وقاله ابن وهب.
قلت: وإذا ثبتت السُّنّة فلا قول معها.
وقال عليه السلام: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد».
وقوله: «البُرُّ بالبُرِّ والشعير بالشعير» دليل على أنهما نوعان مختلفان كمخالفة البُرّ للتمر؛ ولأن صفاتهما مختلفة وأسماؤهما مختلفة، ولا اعتبار بالمنبِت والمحصد إذا لم يعتبره الشرع، بل فصل وبيّن؛ وهذا مذهب الشافعيّ وأبي حنيفة والثّوريّ وأصحاب الحديث. اهـ.
وقال القرطبي أيضا:
كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أن النهي والتحريم إنما ورد من النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدِّينار المضروب والدرهم المضروب لا في التِّبر من الذهب والفضة بالمضروب، ولا في المَصُوغ بالمضروب.
وقد قيل إن ذلك إنما كان منه في المصوغ خاصة، حتى وقع له مع عُبَادة ما خرّجه مسلم وغيره، قال: غَزَوْنا وعلى الناس معاويةُ فغِنمنا غنائمَ كثيرةً، فكان مما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلًا ببيعها في أَعْطِيّات الناس فتنازع الناس في ذلك فبلغ عبادةَ بن الصامت ذلك فقام فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبُرّ بالبُرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواءً بسواء عَيْنًا بعَيْن من زاد أو ازداد فقد أرْبَى؛ فردّ الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيبًا فقال: ألاَ ما بالُ رجالٍ يتحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثَ قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه! فقام عُبَادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال: لنحدّثنّ بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كره معاويةُ أو قال وإن رَغِم ما أُبالي ألاّ أصحبَه في جُنْدِه في ليلةٍ سَوْداء.
قال حمّادٌ هذا أو نحوَه.
قال ابن عبد البرّ: وقد رُوي أن هذه القِصة إنما كانت لأبي الدّرداء مع معاوية.
ويحتمل أن يكون وقع ذلك لهما معه، ولكن الحديث في العُرْف محفوظ لعُبَادة، وهو الأصل الذي عوّل عليه العلماء في باب الربا.
ولم يختلفوا أنّ فعل معاوية في ذلك غير جائز، وغير نَكِير أن يكون معاوية خفي عليه ما قد علمه أبو الدرداء وعُبادة فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم، وقد خفِي على أبي بكر وعمر ما وُجد عند غيرهم ممن هو دونهم، فمعاويةُ أحرى.
ويحتمل أن يكون مذهبه كمذهب ابن عباس، فقد كان وهو بحرٌ في العلم لا يرى الدرهم بالدرهمين بأسًا حتى صرفه عن ذلك أبو سعيد.
وقصة معاوية هذه مع عبادة كانت في ولاية عمر.
قال قَبيصة بن ذُؤيب: إن عُبادة أنكر شيئًا على معاوية فقال: لا أُساكنك بأرض أنت بها ودخل المدينة.
فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره.
فقال: ارجع إلى مكانك، فقبّح الله أرضًا لست فيها ولا أمثالك! وكتب إلى معاوية «لا إمارة لك عليه». اهـ.
وقال رحمه الله:
روى الأئمة واللفظ للدّارَقُطْنِيّ عن عليّ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فَضْلَ بينهما من كانت له حاجة بورقِ فلْيَصرِفْها بذهب وإن كانت له حاجةٌ بذهب فليصرفها بوَرِق هَاءَ وهَاء» قال العلماء فقوله عليه السلام: «الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما» إشارةٌ إلى جنس الأصل المضروب؛ بدليل قوله: «الفضة بالفضة والذهب بالذهب» الحديث.
والفضة البيضاء والسوداء والذهب الأحمر والأصفر كل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مِثْلا بِمثل سواء بسواء على كل حال؛ على هذا جماعة أهل العلم على ما بيّنا.
واختلفت الرواية عن مالك في الفلوس فألحقها بالدراهم من حيث كانت ثمنًا للأشياء، ومنع من إلحاقها مرّة من حيث إنها ليست ثمنًا في كل بلد وإنما يختص بها بلد دون بلد.
السادسة لا اعتبار بما قد رُوي عن كثير من أصحاب مالك وبعضهم يرويه عن مالك في التاجر يحفِزه الخروج وبه حاجة إلى دراهمَ مضروبةٍ أو دنانيرَ مضروبةٍ، فيأتي دار الضرب بفضته أو ذهبه فيقول للضرّاب؛ خذ فضّتي هذه أو ذهبي وخذ قدر عمل يدك وادفع إليّ دنانير مضروبةً في ذهبي أو دراهمَ مضروبةً في فضّتِي هذه لأني محفوز للخروج وأخاف أن يفوتني من أخرج معه، أن ذلك جائز للضرورة، وأنه قد عمل به بعض الناس.
وحكاه ابن العربيّ في قبسه عن مالك في غير التاجر، وأن مالكًا خفّف في ذلك؛ فيكون في الصورة قد باع فضته التي زنتها مائة وخمسة دراهم أجره بمائة وهذا محض الربا.
والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له: اضرب لي هذه وقاطعه على ذلك بأُجرة، فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أُجرتها؛ فالذي فعل مالك أوّلًا هو الذي يكون آخرًا، ومالك إنما نظر إلى المال فركّب عليه حكم الحال، وأباه سائر الفقهاء.
قال ابن العربيّ: والحجة فيه لمالك بيِّنة.
قال أبو عمر رحمه الله: وهذا هو عين الرِّبا الذي حرّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «من زاد أو ازداد فقد أرْبَى» وقد ردّ ابن وهب هذه المسألة على مالك وأنكرها.
وزعم الأَبْهَرِيّ أن ذلك من باب الرفق لطلب التجارة ولئلا يفوت السوق، وليس الربا إلا على من أراد أن يُرْبِي ممن يقصد إلى ذلك ويبتغيه.
ونسي الأبهرِيّ أصله في قطع الذرائع، وقوله فيمن باع ثوبًا بنسِيئة وهو لا نيّة له في شرائه ثم يجده في السوق يباع: إنه لا يجوز له ابتياعه منه بدون ما باعه به وإن لم يقصد إلى ذلك ولم يبتغه؛ ومثله كثير، ولو لم يكن الربا إلا على مَن قصده ما حُرّم إلا على الفقهاء.
وقد قال عمر: لا يتّجر في سوقنا إلا من فَقُه وإلاّ أكل الربا.
وهذا بيّن لمن رُزق الإنصاف وألْهِم رشده.
قلت: وقد بالغ مالك رحمه الله في منع الزيادة حتى جعل المتوهَّم كالمتحقق، فمنع دينارًا ودرهمًا بدينار ودرهم سَدًّا للذَّريعة وحَسْمًا للتَوهُّمات؛ إذ لولا توهَّم الزيادة لما تبادلا.
وقد عُلّل منع ذلك بتعذر المماثلة عند التوزيع؛ فإنه يلزم منه ذهب وفضة بذهب.
وأوضح من هذا منعه التفاضل المعنويّ، وذلك أنه منع دينارًا من الذهب العالي ودينارًا من الذهب الدّون في مقابلة العالي وألغى الدون، وهذا من دقيق نظره رحمه الله؛ فدل أن تلك الرواية عنه مُنْكَرة ولا تصح.
والله أعلم. اهـ.
وقال القرطبي أيضًا:
اعلم- رحمك الله- أن مسائل هذا الباب كثيرة وفروعه منتشرة، والذي يربط لك ذلك أن تنظر إلى ما اعتبره كل واحد من العلماء في عِلّة الربا؛ فقال أبو حنيفة: علة ذلك كونه مكيلًا أو موزونًا جنسًا، فكل ما يدخله الكيل أو الوزن عنده من جنس واحد، فإن بيع بعضه ببعض متفاضلًا أو نَسِيئًا لا يجوز؛ فمنع بَيْع التراب بعضه ببعض متفاضلًا؛ لأنه يدخله الكيل، وأجاز الخبزَ قُرْصًا بقرصين؛ لأنه لم يدخل عنده في الكيل الذي هو أصله، فخرج من الجنس الذي يدخله الربا إلى ما عداه.
وقال الشافعيّ: العِلّة كونه مطعومًا جنْسًا.
هذا قوله في الجديد؛ فلا يجوز عنده بيع الدقيق بالخبز ولا بيع الخبز بالخبز متفاضلًا ولا نسيئا، وسواء أكان الخبز خميرًا أو فَطيرًا.
ولا يجوز عنده بيضة ببيضتين، ولا رُمّانة برمانتين، ولا بطيخة ببطيختين لا يدًا بِيَد ولا نسيئة؛ لأن ذلك كله طعام مأكول.
وقال في القديم: كونه مكيلًا أو موزونًا.
واختلفت عبارات أصحابنا المالكية في ذلك؛ وأحسن ما في ذلك كونه مقتاتًا مدّخرًا للعيش غالبًا جنسًا؛ كالحنطة والشعير والتّمْر والملح المنصوص عليها، وما في معناها كالأرز والذرة والدّخْن والسِّمْسِم، والقَطَانِيّ كالفول والعَدَس واللُّوبْياء والحِمّص، وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون، واختُلف في التين، ويلحق بها العسل والسكر.
فهذا كله يدخله الربا من جهة النَّسَاء.
وجائز فيه التفاضل لقوله عليه السلام: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد» ولا ربا في رطب الفواكه التي لا تبقى كالتفّاح والبطّيخ والرُّمان والكُمِّثْرى والقِثّاء والخيار والباذَنْجان وغير ذلك من الخضروات.
قال مالك: لا يجوز بيع البيض بالبيض متفاضلًا؛ لأنه مما يدّخر، ويجوز عنده مِثْلًا بمثْل.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: جائزٌ بيضة ببيضتين وأكثر؛ لأنه مما لا يدّخر، وهو قول الأُوزاعيّ. اهـ.