فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



البحث الثالث: لله تعالى رحمتان سابقة ولاحقة فالسابقة هي التي بها خلق الخلق واللاحقة هي التي أعطى بها الخلق بعد إيجاده إياهم من الرزق والفطنة وغير ذلك فهو تعالى بالنظر إلى الرحمة السابقة رحمن، وبالنظر إلى اللاحقة رحيم، ولهذا يقال: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، فهو رحمن، لأنه خلق الخلق أولًا برحمته، فلما لم يوجد في غيره هذه الرحمة ولم يخلق أحد حدًا لم يجز أن يقال لغيره: رحمن، ولما تخلق الصالحون من عباده ببعض أخلاقه على قدر الطاقة البشرية، وأطعم الجائع وكسا العاري، وجد شيء من الرحمة اللاحقة التي بها الرزق والإعانة فجاز أن يقال له رحيم، وقد ذكرنا هذا كله في تفسير سورة الفاتحة غير أنا أردنا أن يصير ما ذكرنا مضمومًا إلى ما ذكرناه هناك، فأعدناه هاهنا لأن هذا كله كالتفصيل لما ذكرناه في الفاتحة.
المسألة الثانية:
{الرحمن} مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي قوله: {عَلَّمَ القرءان} وقيل {الرحمن} خبر مبتدأ تقديره هو الرحمن، ثم أتى بجملة بعد جملة فقال: {عَلَّمَ القرءان} والأول أصح، وعلى القول الضعيف الرحمن آية.
المسألة الثالثة:
قوله تعالى: {عَلَّمَ القرءان} لابد له من مفعول ثان فما ذلك؟ نقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: قيل: علم بمعنى جعله علامة أي هو علامة النبوة ومعجزة وهذا يناسب قوله تعالى: {وانشق القمر} [القمر: 1] على ما بينا أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيئة وهو أنه شق مالا يشقه أحد غيره، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة، وهو أنه نشر من العلوم مالا ينشره غيره، وهو ما في القرآن، وعلى هذا الوجه من الجواب ففيه احتمال آخر، وهو أنه جعله بحيث يعلم فهو كقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} [القمر: 17] والتعليم على هذا الوجه مجاز.
يقال: إن أنفق على متعلم وأعطى أجرة على تعليمة علمه وثانيهما: أن المفعول الثاني لابد منه وهو جبريل وغيره من الملائكة علمهم القرآن ثم أنزله على عبده كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] ويحتمل أن يقال: المفعول الثاني هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن القرآن كلام الله تعالى لا كلام محمد، وفيه وجه ثالث: وهو أنه تعالى علم القرآن الإنسان، وهذا أقرب ليكون الإنعام أتم والسورة مفتتحة لبيان الأعم من النعم الشاملة.
المسألة الرابعة:
لم ترك المفعول الثاني؟ نقول: إشارة إلى أن النعمة في تعميم التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، يقال: فلان يطعم الطعام إشارة إلى كرمه، ولا يبين من يطعمه.
المسألة الخامسة:
ما معنى التعليم؟ نقوله على قولنا له مفعول ثان إفادة العلم به، فإن قيل: كيف يفهم قوله تعالى: {عَلَّمَ القرءان} مع قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله}؟ [آل عمران: 7] نقول: من لا يقف عند قوله: {إِلاَّ الله} ويعطف: {الراسخون} على الله عطف المفرد على المفرد لا يرد عليه هذا، ومن يقف ويعطف قوله تعالى: {والراسخون فِي العلم} على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} عطف جملة على جملة يقول: إنه تعالى علم القرآن، لأن من علم كتابًا عظيمًا ووقع على ما فيه، وفيه مواضع مشكلة فعلم ما في تلك المواضع بقدر الإمكان، يقال: فلان يعلم الكتاب الفلاني ويتقنه بقدر وسعه، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين، وكذلك القول في تعليم القرآن، أو تقول: لا يعلم تأويله إلا الله وأما غيره فلا يعلم من تلقاء نفسه مالم يعلم، فيكون إشارة إلى أن كتاب الله تعالى ليس كغيره من الكتب التي يستخرج ما فيها بقوة الذكاء والعلوم.
ثم قال تعالى: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في وجه الترتيب وهو على وجهين أحدهما: ما ذكرنا أن المراد من علم علم الملائكة وتعليمه الملائكة قبل خلق الإنسان، فعلم تعالى ملائكته المقربين القرآن حقيقة يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِي كتاب مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 77 79] ثم قال تعالى: {تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين} [الواقعة: 80] إشارة إلى تنزيله بعد تعليمه، وعلى هذا ففي النظم حسن زائد وذلك من حيث إنه تعالى ذكر أمورًا علوية وأمورًا سفلية، وكل علوي قابله بسفلي، وقدم العلويات على السفليات إلى آخر الآيات، فقال: {عَلَّمَ القرءان} إشارة إلى تعليم العلويين، وقال: {عَلَّمَهُ البيان} إشارة إلى تعليم السفليين، وقال: {الشمس والقمر} [الرحمن: 5] في العلويات وقال في مقابلتهما من السفليات: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6].
ثم قال تعالى: {والسماء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] وفي مقابلتها: {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10]، وثانيهما: أن تقديم تعليم القرآن إشارة إلى كونه أتم نعمة وأعظم إنعامًا، ثم بين كيفية تعليم القرآن، فقال: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} وهو كقول القائل: علمت فلانًا الأدب حملته عليه، وأنفقت عليه مالي، فقوله: حملته وأنفقت بيان لما تقدم، وإنما قدم ذلك لأنه الإنعام العظيم.
المسألة الثانية:
ما الفرق بين هذه السورة وسورة العلق، حيث قال هناك: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ} [العلق: 1] ثم قال: {وَرَبُّكَ الأكرم الذي عَلَّمَ بالقلم} [العلق: 3، 4] فقدم الخلق على التعليم؟ نقول: في تلك السورة لم يصرح بتعليم القرآن فهو كالتعليم الذي ذكره في هذه السورة بقوله: {عَلَّمَهُ البيان} بعد قوله: {خَلَقَ الإنسان}.
المسألة الثالثة:
ما المراد من الإنسان؟ نقول: هو الجنس، وقيل: المراد محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: المراد آدم والأول أصح نظرًا إلى اللفظ في {خُلِقَ} ويدخل فيه محمد وآدم وغيرهما من الأنبياء.
المسألة الرابعة:
ما البيان وكيف تعليمه؟ نقول: من المفسرين من قال: البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده، فإن به يمتاز الإنسان عن غيره عن الحيوانات، وقوله: {خَلَقَ الإنسان} إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص، و{عَلَّمَهُ البيان} إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره.
وقد خرج ما ذكرنا أولًا أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ماذكره إجمالًا بقوله تعالى: {عَلَّمَ القرءان} كما قلنا في المثال حيث يقول القائل: علمت فلانًا الأدب حملته عليه، وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر، وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير، قال تعالى: {هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وقد سمى الله تعالى القرآن فرقانًا وبيانًا والبيان فرقان بين الحق والباطل، فصح إطلاق البيان، وإرادة القرآن.
المسألة الخامسة:
كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول: أما إن قلنا: إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن، فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه، ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن، فقال: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ} وقد بين ذلك، وأما إن قلنا: المراد {عَلَّمَ القرءان} الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به، وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة راجعة إلى الإنسان (1) وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة، فقال: {عَلَّمَهُ البيان} أي علم الإنسان تعديدًا للنعم عليه ومثل هذا قال في: {اقرأ} قال مرة: {عَلَّمَ بالقلم} من غير بيان المعلم، ثم قال مرة أخرى: {عَلَّمَ الإنسان ما لَمْ يَعْلَمْ} وهو البيان، ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله. اهـ.
وقال القرطبي:
قوله تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن}.
قال سعيد بن جبير وعامر الشَّعْبي: {الرحمن} فاتحة ثلاث سور إذا جُمعن كن اسما من أسماء الله تعالى (الار) و(حام) و(نا) فيكون مجموع هذه {الرحمن عَلَّمَ القرآن} أي علّمه نبيّه صلى الله عليه وسلم حتى أدّاه إلى جميع الناس.
وأنزلت حين قالوا: وَمَا الرحمن؟ وقيل: نزلت جوابًا لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلّمه بشر وهو رحمن اليمامة؛ يعنون مسيلِمة الكذّاب، فأنزل الله تعالى: {الرحمن} {عَلَّمَ القرآن} وقال الزجاج: معنى {عَلَّمَ القرآن} أي سهّله لأن يُذكر ويُقرأ كما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] وقيل: جعله علامة لما تعبد الناس به.
{خَلَقَ الإنسان} قال ابن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام.
{عَلَّمَهُ البيان} أسماء كل شيء.
وقيل: علمه اللغات كلها.
وعن ابن عباس أيضًا وابن كيسان: الإنسان هاهنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم والبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال.
وقيل: ما كان وما يكون؛ لأنه بَيّن عن الأوّلين والآخرين ويوم الدِّين.
وقال الضحاك: {البيان} الخير والشر.
وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره؛ وقاله قتادة.
وقيل: {الإنْسَانَ} يراد به جميع الناس فهو اسم للجنس و{الْبَيَانَ} على هذا الكلامُ والفهم، وهو مما فُضّل به الإنسان على سائر الحيوان.
وقال السديّ: علّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به.
وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم.
نظيره: {عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4-5]. اهـ.

.قال الألوسي:

{الرحمن عَلَّمَ القرءان}.
لأنه أعظم النعم شأنًا وأرفعها مكانًا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه ومناطه، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه، ونصبه على أنه مفعول ثان لعلم ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه أي علم الإنسان القرآن وهذا المفعول هو الذي كان فاعلًا قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال: علم لابد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، ويمكن أن يقال: أراد أنه لابد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه، وقيل: المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام، وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى القولين يتضمن ذلك الإشارة إلى القرآن كلام الله عز وجل، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام، ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام تردد مّا بناءًا على ما في الإتقان نقلًا عن ابن الصلاح من أن قراءة القرآن كرامة أكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس، وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثنى منه جبريل عليه السلام، وقيل: {عِلْمٍ} من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر، أو علامة للنبوة ومعجزة، وهذا على ما قيل: يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى: {وانشق القمر} [القمر: 1] وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة.
وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم، والمراد بتعليم القرآن قيل: إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتدّ به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئًا فيه.