فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعًا «إن الله لو أغفل شيئًا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى؛ وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علمًا حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن جمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} [القمر: 17] وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى، و{الرحمن} مبتدأ، والجملة بعده خبره كما هو الظاهر، وإسناد تعليمه إلى اسم {الرحمن} للإيذان بأنه من آتار الرحمة الواسعة وأحكامها، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه، وقيل: {الرحمن} خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي الله الرحمن، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز وجل وهو خلاف الظاهر، ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى: {خَلَقَ الإنسان} لأن أصل النعم عليه، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها، وقيل: لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنًا وإن كان الأمر بالعكس خارجًا، والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة، ثم أتبع عز وجل ذلك بنعمة تعليم {البيان} فقال سبحانه: {عَلَّمَهُ البيان} لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
والمراد بتعليمه نحو ما مر، وفي (الإرشاد) أن قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان} [الرحمن: 3] تعيين للمتعلم، وقوله سبحانه: {عَلَّمَهُ البيان} تبيين لكيفية التعليم، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن.
وقيل: بناءًا على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعًا فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ في كتاب مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 77 79] وفي (النظم الجليل) عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أمورًا علوية وأمورًا سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضًا؛ وقال الضحاك: {البيان} الخير والشر، وقال ابن جريج: سبيل الهدى وسبيل الضلالة، وقال يمان: الكتابة والكل كما ترى، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه الله تعالى بيانًا في قوله سبحانه: {هذا بَيَانٌ} [آل عمران: 138] وأعيد ليكون الكلام تفصيلًا لإجمال {علم القرآن} [الرحمن: 2] وهذا في غاية البعد.
وقال قتادة: {الإنسان} آدم.
و{البيان} علم الدنيا والآخرة، وقيل: {البيان} أسماء الأشياء كلها.
وقيل: التكلم بلغات كثيرة، وقيل: الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
وقال ابن كيسان: {الإنسان} محمد صلى الله عليه وسلم.
وعليه قيل: المراد بالبيان بيان المنزل.
والكشف عن المراد به كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفًا، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مرادًا به النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهذه أقوال بين يديك، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولًا.
ثم إن كلًا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة {عَلَّمَ القرءان} [الرحمن: 2] وكذا قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)}. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

55- سورة الرحمن عروس القرآن.
نزولها: مدينة عدد آياتها: ثمان وسبعون آية.
مناسبتها لما قبلها:
بين سورة {الرحمن} هذه، والسورة التي قبلها {القمر} أكثر من مناسبة:
فأولا: ختمت سورة {القمر} بهذه ال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.. ومن صفات المليك المقتدر، الرحمة، لا الجبروت، شأن المالكين المقتدرين، وبهذه الرحمة التي وسعت كل شيء أرسل الرسل يدعون عباده إليه، ويطبّون للآفات والعلل التي أوردتهم موارد الضلال.. فاستجاب كثير منهم، ووجد السلامة والعافية في هذه الرحمة المرسلة من اللّه سبحانه على يد رسله.. فكان بدء سورة {الرحمن} بهذا الاسم الكريم موصولا بختام سورة {القمر}، جاعلا منهما سورة واحدة..
وثانيا: النظم الذي جاءت عليه سورة {القمر}، يشابه النظم الذي جاءت عليه سورة {الرحمن}، من حيث تكرار بعض المقاطع مرات متعددة..
فقد كرو في سورة {القمر} قوله تعالى: {فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ} أربع مرات، وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.. كرر أربع مرات أيضا..
وفى سورة {الرحمن} كرر قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} إحدى وثلاثين مرة!
ففى هذه المتتاليات: {فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ} ثم {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ثم {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}- في هذه المتتاليات، تدرّج من الإنذار والتخويف من عذاب اللّه، إلى عرض وسيلة النجاة من عذاب اللّه وتيسير الاتصال بها والوصول إليها، وهى القرآن الكريم. إلى مساءلة هؤلاء المدعوّين إلى كتاب اللّه، كيف يكذبون بآلاء اللّه ونعمه التي من أعظمها وأجلّها هذا الكتاب الذي يدعون إليه؟
بسم اللّه الرحمن الرحيم.
الآيات: (1- 13) [الرحمن: الآيات 1- 13].
{الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ القرآن (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الرحمن}.
سورة الرحمن ونظمها:
في سورة الرحمن ظاهرة ملفتة للأنظار، داعية إلى التساؤل عنها والبحث عما وراءها من أسرار.. تلك هي التكرار الملتزم في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} فقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، خلال آيات السورة البالغ عددها ثمانيا وسبعين آية..
وقد كان هذا التكرار مدخلا من مداخل الطعن على القرآن، عند كثيرين من مرضى العقول والقلوب، من المستشرقين والمتتلمذين عليهم.. إذ عدوّا هذا التكرار مخلّا ببلاغة الكلام، جائرا على فصاحته، ثم يجاوزون هذا إلى القول بأن هذا التكرار الذي جاء خارجا على الأسلوب العام للقرآن، إنما يمثل حالا من أحوال الصّرع الذي كان يعرض للنبىّ! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقولونَ إِلَّا كَذِبًا}.. ولا نعرض لدحض هذه المفتريات، إذ كانت تحمل في كيانها أكثر من شاهد يشهد عليها بالكذب والافتراء.. وحسبنا أن نقف بين يدى هذا الإعجاز المبين من آيات اللّه..
فهذا المقطع الذي بدأت به السورة الكريمة، هو مقدمة موسيقية علوّية اللحن، قدسية النغم، لا تكاد تتحرك بها الشفاه، وتتصل بها الآذان، حتى يتفتق من أكمامها هذا الجلال المهيب، الذي يملأ القلوب مهابة وخشية، وحتى يشيع في النفوس روحا وانتشاء.. سواء في ذلك من وقف عند تناغم الألفاظ، وتجاوب جرسها، أم من جمع إلى هذا ما يفتح اللّه له من علم يرى في أضوائه جلال المعنى، وصدقه المصفّى من شوائب الباطل والضلال..
فالنظم الذي جاءت عليه هذه الآيات، مستغن بنفسه عن أن يحمل كلماته ما تحمل اللغة من دلالات ومفاهيم، متعارفة بين أهلها، وحسبه أن يفعل بنغمه الموسيقى، ما لا تفعل أروع ألحان الموسيقى من روح وانتشاء! فكيف إذا حمل هذا النغم مع ذلك أدق وأصدق وأحكم ما تحمل الكلمات من معنى؟..
انظر كيف يطلع هذا المطلع على تلك الصورة الرائعة الفريدة من النظم..
فأنت بين يدى خمس آيات تلاحمت، وتماسكت دون أن يقوم بينها حرف عطف:
{الرَّحْمنُ عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ}..
إن ما بينها من تجاوب وتآلف، يجعلها في غنى عن أن يقوم بينها عاطف يعطف بعضها على بعض، ويجمع بعضها إلى بعض..!
ثم انظر كيف كانت كلمة {الرحمن} التي بدئت بها السورة، هي الميزان الذي تجرى أحكامه على آيات السورة كلها، وتنضبط عليه أنغامها، وتتألف منه وحدة اللحن كله.. فيكون أشبه {بالرتم} الذي يمسك باللحن الموسيقى من مطلعه إلى نهايته!..
{الرحمن}.. إنه الذي يمسك بأجزاء السورة كلها، لفظا ومعنى.. فالرحمن، تتدفق من رحمته هذه النّعم، التي تعرضها السورة في كل آية من آياتها، وقد تصدر القرآن- ومعناه القراءة الواعية في صحف الوجود وفى كتب العلم وأجلها القرآن الكريم- تصدّر كلّ هذه النعم..
فإنه بغير هذه القراءة لا يهتدى الإنسان إلى اللّه سبحانه، ولا يتعرف على خالقه، ولا تقوم قدماه على طريق الحق والخير.. ثم يجىء الإنسان على رأس المخلوقات جميعها، إذ هو وحده الذي حمل الأمانة، أي العقل والتكليف، من بينها جميعا، فيكون هو التلقي لمجتمع كلمات اللّه، القارئ المستبصر، الذي يكشف بقراءته دلائل القدرة الإلهية.. فيؤمن باللّه، ويقوم على خلافته في الأرض، وبقيم موازين العدل فيها.. ثم انظر مرة أخرى إلى هذا التدبير الحكيم الذي تطلع به عليك هذه المقدمة من الفواصل المتتابعة، المتماثلة، مع فاصلة الآية المكررة.. {الرحمن}.. {القرآن}.. {الإنسان}.. {البيان}.. {بحسبان}.. {يسجدان}.. {الميزان}.. {الميزان}.. {الميزان}.. {للأنام}.. {الأكمام}.. {الريحان}..
فهذه اثنتا عشرة فاصلة، سبقت المقطع الذي سيتكرر في السورة في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} فيكون أشبه بمقدمة لهذا التكرار، إذ يكون من شأنه أن يقيم الأذن على هذا النغم، ويربطها به، فإذا تكررت هذه الآية بعد ذلك، لم تجد الطريق إلى الأذن مسدودا عليها، أو مستوحشا منها، بل إن الأذن لتتفتح لها، وتدعوها إليها، وتجذبها نحوها..
وانظر مرة ثالثة..
فلقد سبق هذا التكرار المنتظر، تكرار آخر، يمهد له، ويهيىء السمع واللسان لاستقباله..
وذلك بأن تكررت كلمة {الميزان} ثلاث مرات في ثلاث فواصل متتابعة، دون أن يفصل بينها فاصل آخر.. ولا شك أن هذا تمهيد بليغ للتكرار الذي سيبدأ بعد هذه الفواصل مباشرة بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} والذي سيتكرر إحدى وثلاثين مرة..
ثم انظر مرة رابعة في هذا المطلع.. تجد السورة قد بدئت بآية، هي كلمة واحدة، ثم بثلاث آيات، كل آية فيها من كلمتين..
{الرحمن}..
{علم القرآن}..
{خلق الإنسان}..