فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذه واحدة!! ثم ماذا؟
{الرَّحْمنُ} ما شأنه؟ وما مظاهر رحمته؟.. ذاك سؤال! {عَلَّمَ القرآن}..
وهذا جواب.. يقوم من ورائه سؤال:
كيف علم القرآن؟
{خَلَقَ الْإِنْسانَ}..
وهذا جواب.. يثير سؤالا:
وماذا بين خلق الإنسان، وتعليم القرآن؟
{عَلَّمَهُ الْبَيانَ} وهذا هو الجواب.. فبالبيان الذي علمه اللّه الإنسان، تعلم القرآن..
ومن وراء هذا الجواب سؤال؟
وأي شيء يقرؤه هذا الإنسان الذي خلقه اللّه مستعدا للقراءة والبيان لما يقرأ؟..
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ}..
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ}..
{وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ}..
هذا هو جواب السؤال.. فتلك هي الصحف المنشورة، التي يقرأ فيها هذا الإنسان المهيأ للقراءة، المجهز بأدوات البيان والكشف، بما أودع فيه الخالق من عقل، وقلب، وسمع، وبصر، ولسان يصور به ما رأى ببصره، وما سمع بأذنه، وما وقر في قلبه، وما تشكل في عقله- يصور ذلك كله بكلمات واضحة مبينة، يهتدى بهديها، ويمشى في حياته على ضوئها..!. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ القرآن (2)}.
هذه آية واحدة عند جمهور العادِّين.
ووقع في المصاحف التي برواية حفص عن عاصم علامةُ آية عقب كلمة {الرحمن}، إذ عدّها قراء الكوفة آية فلذلك عد أهل الكوفة آي هذه السورة ثمانيًا وسبعين.
فإذا جعل اسم {الرحمن} آية تعين أن يكون اسم (الرحمن): إما خبرًا لمبتدأ محذوف تقديره: هو الرحمن، أو مبتدأ خبره محذوف يقدر بما يناسب المقام.
ويجوز أن يكون واقعًا موقع الكلمات التي يراد لفظها للتنبيه على غلط المشركين إذ أنكروا هذا الاسم قال تعالى: {قالوا وما الرحمن} كما تقدم في سورة الفرقان (60)، فيكون موقعه شبيهًا بموقع الحروف المقطَّعة التي يُتَهجّى بها في أوائل بعض السور على أظهر الوجوه في تأويلها وهو التعريض بالمخاطبين بأنهم أخطأوا في إنكارهم الحقائق.
وافتتح {باسم الرحمن} فكان فيه تشويق جميع السامعين إلى الخبر الذي يخبر به عنه إذ كان المشركون لا يألفون هذا الاسم قال تعالى: {قالوا وما الرحمن} [الفرقان: 60]، فهم إذا سمعوا هذه الفاتحة ترقبوا ما سيرد من الخبر عنه، والمؤمنون إذا طرق أسماعهم هذا الاسم استشرفوا لما سيرد من الخبر المناسب لوصفه هذا مما هم متشوقون إليه من آثار رحمته.
على أنه قد قيل: إن هذه السورة نزلت بسبب قول المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم {إنما يعلمه بشر} [النحل: 103]، أي يعلمه القرآن فكان الاهتمام بذكر الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أقوى من الاهتمام بالتعليم.
وأوثر استحضار الجلالة باسم {الرحمن} دون غيره من الأسماء لأن المشركين يأبون ذكره فجمع في هذه الجملة بين ردَّين عليهم مع ما للجملة الاسمية من الدلالة على ثبات الخبر، ولأن معظم هذه السورة تعداد للنعم والآلاء فافتتاحها باسم {الرحمن} براعة استهلال.
وقد أُخبر عن هذا الاسم بأربعة أخبار متتالية غير متعاطفة رابعها هو جملة {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن: 5] كما سيأتي لأنها جيء بها على نمط التعديد في مقام الامتنان والتوقيف على الحقائق والتبكيت للخصم في إنكارهم صريح بعضها، وإعراضهم عن لوازم بعضها كما سيأتي، ففصل جملتي {خلق الإنسان علمه البيان} [الرحمن: 3، 4] عن جملة {علم القرآن} خلاف مقتضى الظاهر لنكتة التعديد للتبكيت.
وعطف عليها أربعة أُخر بحرف العطف من قوله: {والنجم والشجر يسجدان} إلى قوله: {والأرض وضعها للأنام} [الرحمن: 6 10] وكلها دالة على تصرفات الله ليعلمهم أن الاسم الذي استنكروه هو اسم الله وأن المسمى واحد.
وجيء بالمسند فعلًا مؤخرًا عن المسند إليه لإِفادة التخصيص، أي هو علَّم القرآن لا بشرٌ علمه وحذف المفعول الأول لفعل {علم القرآن} لظهوره، والتقدير: علّم محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنهم ادعوا أنه معلَّم وإنما أنكروا أن يكون معلِّمه القرآن هو الله تعالى وهذا تبكيت أول.
وانتصب {القرآن} على أنه مفعول ثان لفعل {علم}، وهذا الفعل هنا معدَى إلى مفعولين فقط لأنه ورد على أصل ما يفيده التضعيف من زيادة مفعول آخر مع فاعل فعلِه المجرد، وهذا المفعول هنا يصلح أن يتعلق به التعليم إذ هو اسم لشيء متعلق به التعليم وهو القرآن، فهو كقول معن بن أوس:
أعلِّمه الرماية كلَّ يوم

وقوله تعالى: {وإذ علمتك الكتاب} في سورة العقود (110) وقوله: {وما علمناه الشعر} في سورة يس (69)، ولا يقال: علّمته زيدًا صديقًا، وإنما يقال: أعلمته زيدًا صديقًا، ففعل عَلِم إذا ضُعّف كان بمعنى تحصيل التعليم بخلافه إذ عُدّي بالهمزة فإنه يكون لتحصيل الإِخبار والإِنباء.
وقد عدد الله في هذه السورة نعمًا عظيمة على الناس كلهم في الدنيا، وعلى المؤمنين خاصة في الآخرة وقدم أعظمها وهو نعمة الدين لأن به صلاح الناس في الدنيا، وباتباعهم إياه يحصل لهم الفوز في الآخرة.
ولما كان دين الإسلام أفضل الأديان، وكان هو المنزّل للناس في هذا الإِبَّان، وكان متلقى من أفضل الوحي والكتب الإِلهية وهو القرآن، قدمه في الإِعلام وجعله مؤذنًا بما يتضمنه من الدين ومشيرًا إلى النعم الحاصلة بما بين يديه من الأديان كما قال: {هذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه} [الأنعام: 92].
ومناسبة اسم {الرحمن} لهذه الاعتبارات منتزعة من قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].
و{القرآن}: اسم غلب على الوحي اللفظي الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم للإِعجاز بسورة منه وتعبُّد ألفاظه.
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3).
خبر ثان، والمراد بالإِنسان جنس الإِنسان وهذا تمهيد للخبر الآتي وهو {علمه البيان} [الرحمن: 4].
وهذه قضية لا ينازعون فيها ولكنهم لما أعرضوا عن موجَبها وهو إفرادُ الله تعالى بالعبادة، سيق لهم الخبر بها على أسلوب التعديد بدون عطف كالذي يَعُد للمخاطب مواقع أخطائه وغفلته، وهذا تبكيت ثاننٍ.
ففي خلق الإِنسان دلالتان: أولاهما: الدلالة على تفرد الله تعالى بالإِلهية، وثانيتهما: الدلالة على نعمة الله على الإِنسان.
والخلق: نعمة عظيمة لأن فيها تشريفًا للمخلوق بإخراجه من غياهب العدم إلى مَبْرَز الوجود في الأعيان، وقُدّم خلق الإِنسان على خلق السماوات والأرض لما علمت آنفًا من مناسبة إردافه بتعليم القرآن.
ومجيء المسند فعلًا بعد المسند إليه يفيد تقوّي الحكم.
ولك أن تجعله للتخصيص بتنزيلهم منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لأنهم عبدوا غيره.
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4).
خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإِبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإِيجاد، أي علّم جنس الإِنسان أن يُبين عما في نفسه ليفيده غيره ويستفيد هو.
والبيان: الإِعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق وبه تميز الإِنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.
وأما البيان بغير النطق من إشارة وإيماء ولمح النظر فهو أيضًا من مميزات الإنسان وإن كان دون بيان النطق.
ومعنى تعليم الله الإِنسان البيانَ: أنه خلق فيه الاستعداد لعلم ذلك وألهمه وضع اللغة للتعارف، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} في سورة البقرة (31).
وفيه الإِشارة إلى أن نعمة البيان أجل النعم على الإنسان، فعدّ نعمة التكاليف الدينية وفيه تنويه بالعلوم الزائدة في بيان الإنسان وهي خصائص اللغة وآدابها.
ومجيء المسند فعلًا بعد المسند إليه لإِفادة تقوّي الحكم.
وفيه من التبكيت ما علمته آنفًا، ووجهه أنهم لم يشكروه على نعمة البيان إذ صرفوا جزءًا كبيرًا من بيانهم فيما يلهيهم عن إفراد الله بالعبادة وفيما ينازعون به من يدعوهم إلى الهدى. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في الإنسان:
وهو اسم على وزن فِعلان.
وجمعه من حيث اللفظ أَناسِين؛ كسِرحان وسراحين، غير أَنَّ الجمع الأَصلىّ غير مستعمل.
وجمعه المعروف ناس وأُناس وأَنَس وآنُس.
والإِنس جمع جنس.
وفى الأَناسىّ خلاف: فقيل: جمع إِنسِىّ؛ ككُرسىّ وكراسىّ.
وقيل: الإِنْس جمع إِنسىّ؛ كروم ورومىّ وزَنْج وزَنْجىّ.
وقيل: الأَناسِىّ جمع إِنسان، وأَصله أَناسين، حذفوا نونه، وعَوّضوا عنه ياءً؛ اجتمع ياءَان فأَدغموا، فصار، أَناسىّ.
والناس تخفيف الأُناس، حذفوا الهمزة طلبا للخفَّة.
والأَنيس أَيضا بمعنى الإِنسان.
سمّى به؛ لأَنَّه يأَنس ويؤنس به.
وقيل: للإِنسان أُنْسانِ: أُنس بالحقِّ وأُنس بالخَلق.
فرحة تأَنس بالحق، وجسمه يأنس بالخَلْق.
وقيل: لأَنَّ أُنْسًا بالعقبى، وأُنْسًا بالدّنيا.
وإِلى هذا المعنى أَشار القائل:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدّثى ** وأَبحتُ منى ظاهرى لجليسى

فالجسم منى للجليس مؤانِس ** وحبيب قلبى في الفؤاد أَنيسى

ويقال: إِنَّ اشتقاق الإِنسان من الإِيناس.
وهو الإِبصار والعلم والإِحساس لوقوفه على الأَشياءِ بطريق العلم، ووصوله إِليها بواسطة الرُّؤية، وإِدراكه لها بوسيلة الحواسّ.
وقيل: اشتقاقه من النَوْس بمعنى التَّحرك؛ سمّى لتحرّكه في الأُمور العظام، وتصرُّفه في الأَحوال المختلفة، وأَنواع المصالح وقيل: أَصل النَّاس النَّاسى.
قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} بالرّفع وبالجرّ.
والجرّ إشارة إِلى أَصله: إِشارة إلى عَهد آدم، حيث قال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ}، وقال الشاعر:
وسمّيت إِنسانًا لأَنَّك ناسى

وقال الآخر:
فاغفر فأَوّل ناس أَوّل النَّاسى

وفى المثل: الإِنسان عُرْضة النسيان، وجلسة النّسوان.
وقيل: عجبًا للإِنسان، كيف يُفلح بين النسيان والنِّسوان.