فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصَّرْع من جهة الجِنّ، وزعم أنه من فِعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مَسٌّ، وقد مضى الردّ عليهم فيما تقدّم من هذا الكتاب.
وقد روى النسائيّ عن أبي اليَسَر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: «اللّهم إني أعوذ بك من التّرَدِّي والهدم والغرق والحريق وأعوذ بك أن يتخَبّطني الشيطان عند الموت وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مُدْبِرًا وأعوذ بك أن أموت لَدِيغا» ورُوي من حديث محمد بن المُثَنَّى حدّثنا أبو داود حدّثنا همّام عن قَتادة عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللَّهم إني أعوذ بك من الجنون والجُذام والبَرَص وسَيِّء الأسقام» والمس: الجنون؛ يقال: مُسَّ الرّجلُ وأَلِسَ؛ فهو ممسوس ومألُوس إذا كان مجنونًا؛ وذلك علامة الربا في الآخرة.
وروي في حديث الإسراء: «فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضَّخْم متصدين على سابلة آلِ فرعون وَآلُ فرعون يُعرضون على النار بُكْرَةً وَعَشِيًّا فيُقْبِلون مثل الإبل المَهْيُومة يتخبّطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحسّ بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون بَرَاحًا حتى يغشاهم آل فرعون فيطئونهم مقبلين ومدبرين فذلك عذابهم في البَرْزَخ بين الدنيا والآخرة وآل فرعون يقولون اللهم لا تُقِمِ الساعة أبدًا؛ فإن الله تعالى يقول: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] قلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ}» والمسّ الجنون وكذلك الأَوْلَق والأُلْس والرّود. اهـ.

.قال الفخر:

للمفسرين في الآية أقوال:
الأول: أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا، فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا، فعلى هذا معنى الآية: أنهم يقومون مجانين، كمن أصابه الشيطان بجنون.
والقول الثاني: قال ابن منبه: يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعًا} [المعارج: 43] إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا، فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون، ويسقطون، ويريدون الإسراع، ولا يقدرون، وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن، وهذا ليس من الجنون في شيء، ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم، يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: {الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس}.
والقول الثالث: أنه مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطًا، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطًا في حب الدنيا متهالكًا فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجابًا بينه وبين الله تعالى، فالخبط الذي كان حاصلًا في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة، وأوقعه في ذل الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس} الجملة خبر الابتداء وهو {الَّذِينَ}.
والمعنى من قبورهم؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جُبير وقَتادة والربيع والضّحاك والسُّدِّي وابن زيد.
وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه.
وقالوا كلهم: يُبعث كالمجنون عقوبةً له وتمقِيتًا عند جميع أهل المَحْشَر.
ويُقوِّي هذا التأويل المُجْمَع عليه أن في قراءة ابن مسعود {لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم}.
قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بِحرْص وجَشَع إلى تجارة الدنيا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفِزّه حتى تضطرب أعضاؤه؛ وهذا كما تقول لمسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته إما مِن فزع أو غيره: قد جُنّ هذا! وقد شبّه الأَعْشَى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:
وتُصبِح عن غِبّ السُّرَى وكأنّما ** أَلَمَّ بها من طائِف الجِنّ أوْلَقُ

وقال آخر:
لَعَمْرُك بي من حُبِّ أسماءَ أَوْلَقُ

لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعّف هذا التأويل.
و{يَتَخَبَّطُهُ} يتفعّله من خَبَط يخبِط؛ كما تقول: تملّكه وتعبّده.
فجعل الله هذه العلامة لأكَلَة الربا؛ وذلك أنه أرباه في بطونهم فأثقلهم، فهم إذا خرجوا من قبورهم يقومون ويسقطون.
ويقال: إنهم يبعثون يوم القيامة قد انتفخت بطونهم كالحُبَالَى، وكلما قاموا سقطوا والناس يمشون عليهم.
وقال بعض العلماء: إنما ذلك شِعارٌ لهم يُعرفون به يوم القيامة ثم العذاب من وراء ذلك؛ كما أن الغَالَّ يجيء بما غَلَّ يوم القيامة بشهرة يشهّر بها ثم العذاب من وراء ذلك.
وقال تعالى: {يَأْكُلُونَ} والمراد يكسبون الربا ويفعلونه.
وإنما خَصّ الأكل بالذِّكر لأنه أقوى مقاصد الإنسان في المال؛ ولأنه دالّ عى الجشع وهو أشدّ الحرص؛ يقال: رجل جَشِع بيّن الجَشَع وقوم جَشِعون؛ قاله في المُجْمَل.
فأُقيم هذا البعض من توابع الكسب مقام الكسب كلّه؛ فاللباس والسكنى والادّخار والإنفاق على العيال داخل في قوله: {الذين يَأْكُلُونَ}. اهـ.

.قال الفخر:

القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة، وهي أن من اشترى ثوبًا بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال، فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال، لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين، فهذا في ربا النقد، وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضًا، لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر، وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين، وذلك لأنه إنما جاز هناك، لأنه حصل التراضي من الجانبين، فكذا هاهنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضًا، فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات، ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة، ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة، فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئًا فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة، إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعًا في الزيادة، والمديون يرده عند وجدان المال، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال، فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة، فهذا هو شبهة القوم، والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد، وهو قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس، وهو من عمل إبليس، فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم عارض النص بالقياس، فقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] [ص: 76].
واعلم أن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف، فقالوا: لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة، فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس، وذكر القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين، فقال: من باع ثوبًا يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلًا بالعشرين، فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلًا للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئًا بغير عوض، أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل، لأن الامهال ليس مالًا أو شيئًا يشار إليه حتى يجعله عوضًا عن العشرة الزائدة، فظهر الفرق بين الصورتين. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} معناه عند جميع المتأوّلين في الكفار، ولهم قيل: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} ولا يقال ذلك لمؤمن عاص بل ينقض بيعه ويرد فعله وإن كان جاهلًا؛ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مَن عمل عَملًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ» لكن قد يأخذ العصاة في الربا بطرف من وعيد هذه الآية. اهـ.

.قال الفخر:

ظاهر قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه، وأكله مع التحريم، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر.
فإن قيل: مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا.
قلنا: إن قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط، وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية، وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل، وذكرنا عليه وجوهًا من الدلائل، فأنتم حملتموه على التصرف في الربا، ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته، وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال، يقال: فلان يأكل مال الله قضمًا خصمًا، أي يستحل التصرف فيه، وإذا حملنا الأكل على الاستحلال، صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها، فهذا ما يدل عليه لفظ الآية، إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا، لا على وعيد من يستحل هذا العقد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقولهم: {إنما البيع مثل الربا} قصر إضافي للردّ على من زعم تخالف حكمهما فحرم الربا وأحل البيع، ولمّا صُرح فيه بلفظ مِثل ساغ أن يقال البيع مثل الربا كما يسوغ أن يقال الربا مثل البيع، ولا يقال: إنّ الظاهر أن يقولوا إنّما الربا مثل البيع لأنّه هو الذي قصد إلحاقه به، كما في سؤال الكشاف وبنى عليه جعل الكلام من قبيل المبالغة؛ لأنّا نقول: ليسوا هم بصدد إلحاق الفروع بالأصول على طريقة القياس بل هم كانوا يتعاطون الربا والبيع، فهما في الخطور بأذهانهم سواء، غير أنّهم لما سمعوا بتحريم الربا وبقاء البيع على الإباحة سبق البيعُ حينئذ إلى أذهانهم فأحضروه ليثبتوا به إباحة الربا، أو أنّهم جعلوا البيع هو الأصل تعريضًا بالإسلام في تحريمه الربا على الطريقة المسمّاة في الأصول بقياس العكس؛ لأنّ قياس العكس إنّما يُلتجأ إليه عند كفاح المناظرة؛ لا في وقت استنباط المجتهد في خاصّة نفسه.
وأرادوا بالبيع هنا بيع التجارة لا بيع المحتاج سلعته برأس ماله. اهـ.