فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أنه اسم غير مشتق وفيه لغات: أنام كسحاب، وآنام كساباط، وأنيم كأمير.
وجملة {فيها فاكهة} إلى آخرها مبينة لجملة {والأرض وضعها للأنام} وتقديم {فيها} على المبتدأ للاهتمام بما تحتوي عليه الأرض.
ولما كان قوله: {وضعها للأنام} يتضمن وضعًا وعِلة لذلك الوضْع كانت الجملة المبينة له مشتملة على ما فيه العبرة والامتنان.
والفاكهة: اسم لما يؤكل تفكهًا لا قوتًا مشتقة من فَكِه كفرح، إذا طابت نفسه بالحديث والضحك، قال تعالى: {فظلتم تفكَّهون} [الواقعة: 65] لأن أكل ما يلذ للأكل وليس بضروري له إنما يكون في حال الانبساط.
والفاكهة: مثل الثمار والنُقول من لَوز وجوز وفستق.
وعطف على الفاكهة النخل وهو شجر التمر، وهو أهم شجر الفاكهة عند العرب الذين نزل القرآن فيهم، وهو يثمر أصنافًا من الفاكهة من رُطب وبُسر ومن تمر وهو فاكهة وقوتٌ.
ووصف النخل بـ {ذات الأكمام} وصف للتحسين فهو اعتبار بأطوار ثمر النخل، وامتنان بجماله وحسنه كقوله تعالى: {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6] فامتنّ بمنافعها وبحسن منظرها.
و{الأكمام}: جمع كِمّ بكسر الكاف وهو وعاء ثمر النخلة ويقال له: الكُفُرَّى، فليست الأكمام مما ينتفع به فتعينّ أن ذكرها مع النخل للتحسين.
و{والحب ذو العصف}: هو الحب الذي لنباته سنابل ولها ورق وقصب فيصير تبنًا، وذلك الورق والقصب هو العصف، أي الذي تعصفه الرياح وهذا وصف لحبّ الشعير والحنطة وبهما قوام حياة معظم الناس وكذلك ما أشبههما من نحو السلت والأرُز.
وسمي العصف عصفًا لأن الرياح تعصفه، أي تحركه ووصفُ الحب بأنه {ذو العصف} للتحسين وللتذكير بمنة جمال الزرع حين ظهوره في سنبله في حقوله نظير وصف النخل بذات الأكمام ولأن في الموصوف ووصفه أقوات البشر وحيوانهم.
وقرأ الجمهور {والحب ذو العصف والريحان} برفع {الحبُّ} ورفع {الريحان} ورفع {ذو}، وقرأه حمزة والكسائي وخلف برفع {الحب} و{ذو} وبجر {الريحان} عطفًا على {العصف}.
وقرأه ابن عامر بنصب الأسماء الثلاثة وعلامة نصب {ذا العصف} الألف.
وكذلك كتب في مصحف الشام عطفًا على {الأرض} أو هو على الاختصاص.
و{الريحانُ}: ما له رائحة ذكية من الأزهار والحشائش وهو فَعْلان من الرائحة، وإنما سمي به ما له رائحة طيبة.
وهذا اعتبار وامتنان بالنبات المودعة فيه الأطياب مثل الورد والياسمين وما يسمى بالريحان الأخضر.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}.
الفاء للتفريع على ما تقدم من المنن المدمجة مع دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقّية وَحي القرآن، ودلائل عظمة الله تعالى وحكمته باستفهام عن تعيين نعمة من نعم الله يتأتى لهم إنكارها، وهو تذييل لما قبله.
و(أيِّ) استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضِدّ ما يقربه مثل قوله: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح: 1].
وقد بينته عند قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} في سورة الأنعام (130)، أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله.
والآلاء: النعم جمع: إلْي بكسر الهمزة وسكون اللام، وأَلْي بفتح الهمزة وسكون اللام وياء في آخره ويقال أَلْوُ بواو عوض الياء وهو النعمة.
وضمير المثنى في {ربكما تكذبان} خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن.
والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإِنسان المذكور في قوله: {خلق الإنسان} [الرحمن: 3] وهم المخاطبون بقوله: {ألا تطغوا في الميزان} [الرحمن: 8] الآية والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره، أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بَلْهَ المؤمن، وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله.
والمقصود الأصلي: التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعِم غيرَ المنعِم، والشهادةُ عليهم بتوحيد المؤمنين، والتكذيب مستعمل في الجحود والإِنكار.
وقيل التثنية جرت على طريقة في الكلام العربي أن يخاطبوا الواحد بصيغة المثنى كقوله تعالى: {ألقيا في جهنم كل كفار عنيد} [ق: 24] ذكر ذلك الطبري والنسفي.
ويجوز أن تكون التثنية قائمة مقام تكرير اللفظ لتأكيد المعنى مثل: لَبيك وسعديك، ومعنى هذا أن الخطاب لواحد وهو الإنسان.
وقال جمهور المفسرين: هو خطاب للإنس والجن، وهذا بعيد لأن القرآن نزل لخطاب الناس ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن، فلا يتعرض القرآن لخطابهم، وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلّف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم، وقد يُكلف الله أصنافًا بما هم أهل له دون غيرهم، كما كلّف أهل العلم بالنظر في العقائد وكما كلّفهم بالاجتهاد في الفروع ولم يكلف العامة بذلك، فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة.
وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله الأنصاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن وهم ساكتون فقال لهم لقد قرأتُها على الجن ليلةَ الجن فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنت كلما أتيت على قوله: {فبأي ألاء ربكما تكذبان} قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد».
قال الترمذي: هو حديث غريب وفي سنده زهير بن محمد وقد ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل.
وهذا الحديث لو صح فليس تفسيرًا لضمير التثنية لأن الجن سمعوا ذلك بعد نزوله فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله، وقيل الخطاب للذكور والإِناث وهو بعيد.
والتكذيب مستعمل في معنى الجحد والإِنكار مجازًا لتشنيع هذا الجحد.
وتكذيب الآلاء كناية عن الإِشراك بالله في الإِلهية.
والمعنى: فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون أنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره بَلْه إنكار جميع نعمه إذ تعبدون غيره دوامًا. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{الرحمن} بناء مبالغة من الرحمة، وهو اسم اختص الله تعالى بالاتصاف به، وحكى ابن فورك عن قوم أنهم يجعلون {الرحمن} آية تامة، كأن التقدير: {الرحمن} ربنا، قاله الرماني أو أن التقدير: الله {الرحمن}. وقال الجمهور إنما ال: {الرحمن علم القرآن} فهو جزء آية.
وقوله: {علم القرآن} تعديد نعمة أي هو من به وعلمه الناس، وخص حفاظه وفهمته بالفضل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق: أن الله تعالى ذكر {القرآن} في كتابه في أربعة وخمسين موضعًا ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه، وذكر {الإنسان} على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعًا، كلها نصت على خلقه، وقد اقترن ذكرهما في هذه السورة على هذا النحو، و: {الإنسان} اسم الجنس، حكاه الزهراوي وغيره. و: {البيان} النطق والفهم والإبانة عن ذلك بقول قاله ابن زيد والجمهور، وذلك هو الذي فضل الإنسان من سائر الحيوان، وقال قتادة: هو بيان الحلال والحرام والشرائع، وهذا جزء من {البيان} العام، وقال قتادة: {الإنسان} آدم. وقال ابن كيسان: {الإنسان}: محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص لا دليل عليه، وكل المعلومات داخلة في البيان الذي علمه الإنسان، فكأنه قال من ذلك البيان وفيه معتبر كون {الشمس والقمر بحسبان} فحذف هذا كله، ورفع {الشمسُ} بالابتداء، وهذا ابتداء تعديد نعم.
واختلف الناس في قوله: {بحسبان} فقال مكي والزهراوي عن قتادة: هو مصدر كالحساب في المعنى وكالغفران والطغيان في الوزن. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك: هو جمع حساب، كشهاب وشهبان، والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى، وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك وقتادة. وقال ابن زيد لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئًا، يريد من مقادير الزمان. وقال مجاهد: (الحسبان) الفلك المستدير، شبه بحسبان الرحى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة.
وقوله: {والنجم والشجر يسجدان} قال ابن عباس والسدي وسفيان: {النجم}. النبات الذي لا ساق له، وسمي نجمًا لأنه نجم، أي ظهر وطلع، وهو مناسب للشجر نسبة بينة. وقال مجاهد وقتادة والحسن: {النجم} اسم الجنس من نجوم السماء، والنسبة التي لها من السماء هي التي للشجر من الأرض، لأنها في ظاهرهما. وسمي {الشجر} من اشتجار غصونه وهو تداخلها.
واختلف الناس في هذا السجود، فقال مجاهد: ذلك في النجم بالغروب ونحوه، وفي الشجر بالظل واستدارته، وكذلك في النجم على القول الآخر. وقال مجاهد أيضًا ما معناه: أن السجود في هذا كله تجوز، وهو عبارة عن الخضوع والتذلل، ونحوه قول الشاعر زيد الخيل: الطويل:
ترى الأكم فيها سجدًا للحوافر

وقال: {يسجدان} وهما جمعان، لأنه راعى اللفظ، إذ هو مفرد اسم للنوع وهذا كقول الشاعر عمير بن شييم القطامي: الوافر:
ألم يحزنك أن حبال قومي ** وقومك قد تباينتا انقطاعا

وقرأ الجمهور: {والسماءَ رفعها} بالنصب عطفًا على الجملة الصغيرة وهي {يسجدان} لأن هذه الجملة من فعل وفاعل وهذه كذلك. وقرأ أبو السمال: {والسماءُ} بالرفع عطفًا على الجملة الكبيرة وهي قوله: {والنجم والشجر يسجدان} لأن هذه الجملة من ابتداء وخبر، والأخرى كذلك.
وفي مصحف ابن مسعود: {وخفض الميزان}. ومعنى: {وضع} أقر وأثبت، و{الميزان}: العدل فيما قال الطبري ومجاهد وأكثر الناس. وقال ابن عباس والحسن وقتادة: إنه الميزان المعروف.
قال القاضي أبو محمد: والميزان المعروف جزء من {الميزان} الذي يعبر به عن العدل. ويظهر عندي أن قوله: {وضع الميزان} يريد به العدل.
وقوله: {ألا تطغوا في الميزان} وقوله: {وأقيموا الوزن} وقوله: {ولا تخسروا الميزان} يريد به الميزان المعروف، وكل ما قيل محتمل سائغ.
وقوله: {ألا تطغوا} نهي عن التعمد الذي هو طغيان بالميزان. وأما ما لا يقدر البشر عليه من التحرير بالميزان فذلك موضوع عن الناس. (وأن لا) هو بتقدير لئلا، أو مفعول من أجله. و: {تطغوا} نصب، ويحتمل أن تكون (أن) مفسرة، فيكون {تطغوا} جزمًا بالنهي، وفي مصحف ابن مسعود: {لا تطغوا في الميزان} بغير أن.
وقرأ جمهور الناس: {ولا تُخسروا} من أخسر، أي نقص وأفسد، وقال بلال بن أبي بردة {تَخسِروا} بفتح التاء وكسر السين من خسر، ويقال خسر وأخسر بمعنى: نقص وأفسد، كجبر وأجبر. وقرأ بلال أيضًا فيما حكى ابن جني: {تَخسَروا}، بفتح التاء والسين من خسِر: بكسر السين.
واختلف الناس في: {الأنام} فقال ابن عباس فيما روي عنه هم بنو آدم فقط. وقال الحسن بن أبي الحسن: هم الثقلان: الجن والإنس. وقال ابن عباس أيضًا وقتادة وابن زيد والشعبي: هم الحيوان كله. و{الأكمام} في {النخل} موجودة في الموضعين، فجملة فروع النخلة في أكمام من ليفها، وطلع النخل كمائم الزهر وبه شبه كم الثوب. {والحب ذو العصف} هو البر والشعير وما جرى مجراه من الحب الذي له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه وهي العصيفة إذا يبست، ومنه قول علقمة بن عبدة: البسيط: