فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولما كان الجان الذي شمله أيضًا اسم الأنام مخلوقًا من العناصر الأربعة، وأغلبها في جبلته النار، قال تعالى: {وخلق الجانّ} أي هذا النوع المستتر عن العيون بخلق أبيهم، وهو اسم جمع للجن.
ولما كان الجن يطلق على الملائكة لاستتارهم، بين أنهم لم يرادوا به هنا فقال: {من مارج} أي شيء صاف خالص مضطرب شديد الاضطراب جدًا والاختلاط، قال البغوي: وهو الصافي من لهب النار الذي لا دخان فيه، وقال القشيري، هو اللهب المختلط بسواد النار- انتهى.
ومرجت نارهم- أي اختلطت- ببرد الزمهرير.
ولما كان المارج عامًا في النار وغيرها، بينه بقوله: {من نار} هي أغلب من عناصر، فتعين المراد بذكر النار لأن الملائكة عليهم السلام من نور لا من نار، وليس عندهم مروج ولا اضطراب، بل هم في غاية الثبات على الطاعة فيما أمروا به، وقد عرف بهذا كل مضطرب قدره لئلا يتعدى طوره.
ولما كان خلق هذين القبيلين على هذين الوجهين اللذين هما في غاية التنافي مستورًا أحدهما عن الآخر مع منع كل من التسلط على الآخر إلا نادرًا، إظهارًا لعظيم قدرته وباهر حكمته من أعظم النعم، قال مسببًا عنه: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي النعم الملوكية الناشئة عن مبدعكما ومربيكما وسيدكما {تكذبان} أي بنعمة البصر من جهة الوراء وغيرها من خلقكم على هذا النمط الغريب، وإيداعكم ما أودعكم من القوى، وجعلكم خلاصة مخلوقاته، ومن منع أحد قبيليكم عن الآخر، وتيسيره لكم الأرزاق والمنافع، وحملكم على الحنيفية السمحة، وقدرته على إعادتكم كما قدر على ابتدائكم.
ولما ذكر سبحانه هذين الجنسين اللذين أحدهما ظاهر والآخر مستتر، إرشادًا إلى التأمل فيما فيهما من الدلالة على كمال قدرته، فكانا محتاجين إلى ما هما فيه من المحل، وكان صلاحه مما دبر سبحانه فيه من منازل الشروق الذي هو سبب الأنوار والظهور، والغروب الذي هو منشأ الظلمة والخفاء، أتبعه قوله منبهًا على النظر في بديع صنعه الدال على توحيده: {رب} أي هو خالق ومدير {المشرقين} ومدبرهما على كيفية لا يقدر على شيء منها غيره {ورب المغربين} كذلك، وهذه المشارق والمغارب هي ما للشتاء من البروج، السافلة الجنوبية التي هي سبب الأمطار والثلوج، التي هي سبب الحياة والظهور، حال كون الشمس منحدرة في آفاق السماء، وما للصيف من البروج العالية في جهة الشمال التي هي سبب التهشم والأفول والشمس مصعدة في جو السماء، وما بينهما من الربيع الذي هو للنمو، والخريف الذي هو للذبول، فهي آية الإيجاد والإعدام، فأول المشارق الصيف وقت استواء الليل والنهار عند حلول الشمس بأول البروج الشمالية صاعدة وهو الكبش، يعتدل الزمان حينئذ بقطعها الجنوبية واستقبالها الشمالية، ثم آخر مشارقه إذا كانت الشمس في آخر الشمالية وأول الجنوبية عند حلولها برأس الميزان يعتدل الزمان ثانيًا لاستقبالها البروج الجنوبية، ثم بحلولها بآخر القوس ورأس الجدي يكون الانتهاء في قصر الأيام وطول الليالي لتوسطها البروج الجنوبية، ثم بحلولها كذلك عند خروجها من برج التوأمين إلى السرطان من بروج الشمال، وهي آخر درجات الشمس، يكون طول الأيام وقصر الليالي، فيختلف على هذين الفصلين الحر والبرد، وكون الشمس في أول برج الحمل هو بمثابة طلوعها من المشرق في أول كل نهار، وكونها في الاعتدال الثاني عند استقبالها البروج الجنوبية إذا حلت برأس الميزان هو بمثابة غروبها، ثم بكونها في الانتهائين في طول الأيام حين حلولها برج السرطان هو بمنزلة استوائها في الصيف في كبد السماء كما أن حلولها برأس الجدي عند الانتهاء في الشتاء في قصر الأيام وطول الليالي هو بمثابة استوائها فيما يقابل استواءها في الشتاء في كبد السماء في النهار- ذكر ذلك ابن برجان وقال بعد ذلك: سخر سبحانه لعباده جهنم- أي بواسطة الشمس- وهي أعدى عدو لهم، فأخرج لهما بواسطتها الزرع والزيتون والرمان والنخيل والأعناب والجنان المعروشات وغير المعروشات ومن كل الثمرات.
ولما كان في هذا من النعم ما لا يحصى، قال مسببًا: {فبأيَّ آلاء ربكما} الذي دبر لكم هذا التدبير العظيم {تكذبان} أي بنعمة البصر من جهة اليمين أو غيرها من تسخير الشمس والقمر دائبين دائرين لإدارة الزمان وتجديد الأيام، وعدد الشهور والأعوام، واعتدال الهواء واختلاف الأحوال على الوجه الملائم لمصالح الدنيا ومعايشها على منهاج محفوظ وقانون لا يزيغ.
ولما كانت باحة البحر لجري المراكب كساحة السماء لسير الكواكب مع ما اقتضى ذكره من تضمن ذكر المشارق والمغارب للشتاء الحاصل فيه من الأمطار ما لو جرى على القياس لأفاض البحار، فأغرقت البراري والقفار، وعلت على الأمصار وجميع الأقطار، فقال: {مرج} أي أرسل الرحمن {البحرين} أي الملح والعذب فجعلهما مضطربين، من طبعهما الاضطراب، حال كونهما {يلتقيان} أي يتماسان على ظهر الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين وفي باطنها، فجعل الحلو آية دالة على مياه الجنة، والملح آية دالة على بعض شراب أهل النار لا يروي شاربه ولا يغنيه، بل يحرق بطنه ويعييه، أو بحري فارس والروم هما ملتقيان في البحر المحيط لكونهما خليجين منه.
ولما كان التقاء المايعين ولاسيما مع الاضطراب الدائم الاختلاط فيحيل ما لأحدهما أو لكل منهما من الصفات إلى الصفات الأخرى، فتشوفت النفس إلى المانع من مثل ذلك في البحرين، قال مستأنفًا: {بينهما برزخ} أي حاجز عظيم من القدرة المجردة على الأول وتسيب الأرض على الثاني يمنعهما مع الالتقاء من الاختلاط، وقال ابن برجان: البرزخ ما ليس هو بصريح هذا ولا بصريح هذا، فكذلك السهل والجبل بينهما برزخ يسمى الخيف، كذلك الليل والنهار بينهما برزخ يسمى غبشًا، كذلك بين الدنيا والآخرة برزخ ليس من هذا ولا من هذا ولا هو خارج عنهما، وكذلك الربيعان هما برزخان بين الشتاء والصيف بمنزلة غبش أول النهار وغبش آخره، جعل بين كل صنفين من الموجودات برزخًا ليس من هذا ولا من هذا وهو منهما كالجماد والنبات والحيوان.
ولما كانت نتيجة ذلك كذلك قال: {لا يبغيان} أي لا يطغيان في هلاك الناس كما طغيا فأهلكا من على الأرض أيام نوح عليه الصلاة والسلام، ولا يبغي واحد منهما على الآخر بالممارجة، ولا يتجاوزان ما حده لهما خالقهما ومدبرهما لا في الظاهر ولا في الباطن، فمتى حفرت على جنب المالح وجدت الماء العذب، وإن قربت الحفرة منه بل كلما قربت كان أحلى، فخلطهما الله سبحانه في رأى العين وحجز بينهما في رأى عين القدرة، هذا وهما جمادان لا نطق لهما ولا إدراك، فكيف يبغي بعضكم على بعض أيها المدركون العقلاء.
ولما كان هذا أمرًا باهرًا دالًا دلالة ظاهرة على تمام قدرته لاسيما على الآخرة، قال مسببًا عنه: {فبأيَّ آلاء ربكما} أي الموجد لكما والمربي {تكذبان} أي بنعمة الإبصار من جهة اليسار أو غيره، فهلا اعتبرتم بهذه الأصول من أنواع الموجودات فصدقتم بالآخرة لعلمكم بهذه البرازخ أن موتتكم هذه برزخ وفصل بين الدنيا والآخرة كالعشاء بين الليل والنهار، ولو استقر أتم ذلك في آيات السماوات والأرض وجدتموه شائعًا في جميع الأكوان.
ولما ذكر المنة بالبحر ذكر النعمة بما ينبت فيه كما فعل بالبر، فقال معبرًا بالمبني للمفعول لأن كلًا من وجوده فيه والتسليط على إخراجه منه خارق من غير نظر إلى مخرج معين، والنعمة نفس الخروج، ولذلك قرأ غير نافع والبصريين بالبناء للفاعل من الخروج: {يخرج منهما} أي بمخالطة العذب الملح من غير واسطة أو بواسطة السحاب، فصار ذلك كالذكر والأنثى، قال الرازي: فيكون العذب العذب كاللقاح للملح، وقال أبو حيان: قال الجمهور: إنما يخرج من الأجاج في المواضع التي يقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما، وهذا مشهور عند الغواصين، وقال ابن عباس- رضى الله عنهما- وعكرمة مولاه- رضى الله عنه ـ: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر- انتهى.
فتكون الأصداف كالأرحام للنطف وماء البحر كالجسد الغاذي، والدليل على أنه من ماء المطر كما قال الأستاذ حمزة الكرماني: إن من المشهور أن السنة إذا أجدبت هزلت الحيتان، وقلت الأصداف والجواهر- انتهى.
ثم لا شك في أنهما وإن كانا بحرين فقد جمعها وصف واحد بكونهما ماء، فيسوغ إسناد الخروج إليهما كما يسند خروج الإنسان إلى جميع البلد، وإنما خرج من دار منها كما نسب الرسل إلى الجن والإنس بجمعهما في خطاب واحد فقال: {رسل منكم} [الأنعام: 130] وكذا {وجعل القمر فيهن نورًا} [نوح: 16] ومثله كثير {اللؤلؤ} وهو الدر الذي هو في غاية البياض والإشراق والصفاء {والمرجان} أي القضبان الحمر التي هي في غاية الحمرة، فسبحان من غاير بينهما في اللون والمنافع والكون- نقل هذا القول ابن عطية عن ابن مسعود- رضى الله عنه ـ، وقال: وهذا هو المشهور الاستعمال- انتهى، وقال جمع كثير: إن اللؤلؤ كبار الدر والمرجان صغاره.
ولما كان ذلك من جليل النعم، سبب عنه قوله: {فبأيِّ آلاء ربكما} أي المالك لكما الذي هو الملك الأعظم {تكذبان} مع هذه الصنائع العظمى، أبنعمة البصر من جهة الفوق أو غير ذلك من خلق المنافع في البحار وتسليطكم عليها وإخراج الحلي الغريبة وغيرها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)}.
وفي الصلصال وجهان:
أحدهما: هو بمعنى المسنون من صل اللحم إذا أنتن، ويكون الصلصال حينئذ من الصلول.
وثانيهما: من الصليل يقال: صل الحديد صليلًا إذا حدث منه صوت، وعلى هذا فهو الطين اليابس الذي يقع بعضه على بعض فيحدث فيما بينهما صوت، إذ هو الطين اللازب الحر الذي إذا التزق بالشيء ثم انفصل عنه دفعة سمع منه عند الانفصال صوت، فإن قيل: الإنسان إذا خلق من صلصال كيف ورد في القرآن أنه خلق من التراب وورد أنه خلق من الطين ومن حمأ ومن ماء مهين إلى غير ذلك نقول: أما قوله: {مّن تُرَابٍ} [الحج: 5] تارة، و{مّن مَّاء مَّهِينٍ} [المرسلات: 20] أخرى، فذلك باعتبار شخصين آدم خلق من الصلصال ومن حمأ وأولاده خلقوا من ماء مهين، ولولا خلق آدم لما خلق أولاده، ويجوز أن يقال: زيد خلق من حمأ بمعنى أن أصله الذي هو جده خلق منه، وأما قوله: {مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] {مّنْ حَمَإٍ} [الحجر: 26] وغير ذلك فهو إشارة إلى أن آدم عليه السلام خلق أولًا من التراب، ثم صار طينًا ثم حمأ مسنونًا ثم لازبًا، فكأنه خلق من هذا ومن ذاك، ومن ذلك، والفخار الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف مستعمل على أصل الاشتقاق، وهو مبالغة الفاخر كالعلام في العالم، وذلك أن التراب الذي من شأنه التفتت إذا صار بحيث يجعل ظرف الماء والمائعات ولا يتفتت ولا ينقع فكأنه يفخر على أفراد جنسه.
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15).
وفي الجان وجهان أحدهما: هو أبو الجن كما أن الإنسان المذكور هنا هو أبو الإنس وهو آدم ثانيهما: هو الجن بنفسه فالجان والجن وصفان من باب واحد، كما يقال: ملح ومالح، أو نقول الجن اسم الجنس كالملح والجان مثل الصفة كالمالح.
وفيه بحث: وهو أن العرب تقول: جن الرجل ولا يعلم له فاعل يبني الفعل معه على المذكور، وأصل ذلك جنه الجان فهو مجنون، فلا يذكر الفاعل لعدم العلم به، ويقتصر على قولهم: جن فهو مجنون، وينبغي أن يعلم أن القائل الأول لا يقول: الجان اسم علم لأن الجان للجن كآدم لنا، وإنما يقول بأن المراد من الجان أبوهم، كما أن المراد من الإنسان أبونا آدم، فالأول منا خلق من صلصال، ومن بعده خلق من صلبه، كذلك الجن الأول خلق من نار، ومن بعده من ذريته خلق من مارج، والمارج المختلط ثم فيه وجهان أحدهما: أن المارج هو النار المشوبة بدخان والثاني: النار الصافية والثاني أصح من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ: فلأنه تعالى قال: {مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ} أي نار مارجة، وهذا كقول القائل: هو مصوغ من ذهب فإن قوله من ذهب فيه بيان تناسب الأخلاط فيكون المعنى الكل من ذهب غير أنه يكون أنواعًا مختلفة مختلطة بخلاف ما إذا قلت: هذا قمح مختلط فلك أن تقول: مختلط بماذا فيقول: من كذا وكذا فلو اقتصر على قوله: من قمح وكان منه ومن وغيره أيضًا لكان اقتصاره عليه مختلط بما طلب من البيان وأما المعنى: فلأنه تعالى كما قال: {خَلَقَ الإنسان مِن صلصال} [الرحمن: 14] أي من طين حر كذلك بين أن خلق الجان من نار خالصة فإن قيل: فكيف يصح قوله: {مَّارِجٍ} بمعنى مختلط مع أنه خالص؟ نقول: النار إذا قويت التهبت، ودخل بعضها في بعض كالشيء الممتزج امتزاجًا جيدًا لا تميز فيه بين الأجزاء المختلطة وكأنه من حقيقة واحدة كما في الطين المختمر، وذلك يظهر في التنور المسجور، إن قرب منه الحطب تحرقه فكذلك مارج بعضها ببعض لا يعقل بين أجزائها دخان وأجزاء أرضية، وسنبين هذا في قوله تعالى: {مَرَجَ البحرين} [الرحمن: 19] فإن قيل: المقصود تعديد النعم على الإنسان، فما وجه بيان خلق الجان؟ نقول: الجواب عندي من وجوه أحدها: ما بينا أن قوله: