فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقال: فلان في زمان كذا فارغ لأن فلانًا هو المرئي لا الزمان والأصل أن هذا الزمان من أزمنة فلان فارغ فيمكنه وصفه للفعل فيه، وقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} استعمال على ملاحظة الأصل، لأن المكان إذا خلا يقال: لكذا ولا يقال: إلى كذا فكذلك الزمان لكن لما نقل إلى الفاعل وقيل: الفاعل على فراغ وهو عند الفراغ يقصد إلى شيء آخر قيل في الفاعل: فرغ من كذا إلى كذا، وفي الظرف يقال: فرغ من كذا لكذا فقال لكم على ملاحظة الأصل، وهو يقوي ما ذكرنا أن المانع ليس بالنسبة إلى الفعل بل بالنسبة إلى الفعل.
وأما {أَيُّهَ} فنقول: الحكمة في نداء المبهم والإتيان بالوصف بعده هي أن المنادي يريد صون كلامه عن الضياع، فيقول أولًا: يا أي نداء لمبهم ليقبل عليه كل من يسمع ويتنبه لكلامه من يقصده، ثم عند إقبال السامعين يخصص المقصود فيقول: الرجل والتزم فيه أمران أحدهما: الوصف بالمعرف باللام أو باسم الإشارة، فتقول: يا أيها الرجل أو يا أيهذا لا الأعرف منه وهو العلم، لأن بين المبهم الواقع على كل جنس والعلم المميز عن كل شخص تباعدًا وثانيهما: توسط (هاء) التنبيه بينه وبين الوصف لأن الأصل في أي الإضافة لما أنه في غاية الإبهام فيحتاج إلى التمييز، وأصل التمييز على ما بينا الإضافة، فوسط بينهما لتعويضه عن الإضافة، والتزم أيضًا حذف لام التعريف عند زوال أي فلا تقول: يا الرجل لأن في ذلك تطويلًا من غير فائدة، فإنك لا تفيد باللام التنبيه الذي ذكرنا، فقولك: يا رجل مفيد فلا حاجة إلى اللام فهو يوجب إسقاط اللام عند الإضافة المعنوية، فإنها لما أفادت التعريف كان إثبات اللام تطويلًا من غير فائدة لكونه جمعًا بين المعرفين، وقوله تعالى: {الثقلان} المشهور أن المراد الجن والإنس وفيه وجوه أحدها: أنهما سميا بذلك لكونهما مثقلين بالذنوب ثانيهما: سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض فإن التراب وإن لطف في الخلق ليتم خلق آدم لكنه لم يخرج عن كونه ثقيلًا، وأما النار فلما ولد فيها خلق الجن كثفت يسيرًا، فكما أن التراب لطف يسيرًا فكذلك النار صارت ثقيلة، فهما ثقلان فسميا بذلك ثالثها: الثقيل أحدهما: لا غير وسمي الآخر به للمجاورة والاصطحاب كمايقال: العمران والقمران وأحدهما عمر وقمر، أو يحتمل أن يكون المراد العموم بالنوعين الحاصرين، تقول: يا أيها الثقل الذي هو كذا، والثقل الذي ليس كذا، والثقل الأمر العظيم.
قال عليه السلام: «إني تارك فيكم الثقلين». اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَهُ الجوار} يعني السفن.
{المنشئات} قراءة العامة {المنشئات} بفتح الشين؛ قال قتادة: أي المخلوقات للجري مأخوذ من الإنشاء.
وقال مجاهد: هي السفن التي رُفِعَ قِلْعها؛ قال: وإذا لم يُرفع قِلْعها فليست بمنشَئات.
وقال الأخفش: إنها الَمجريات.
وفي الحديث: أن عليًّا رضي الله عنه رأى سفنًا مُقْلَعة، فقال: وربّ هذه الجوارِي المنشآت ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله.
وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم باختلاف عنه {الْمُنْشِئآتُ} بكسر الشين أي المنشِئات السير؛ أضيف الفعل إليها على التجوز والاتساع.
وقيل: الرافعات الشُّرُع أي القُلُع.
ومن فتح الشين قال: المرفوعات الشُّرَع.
{كالأعلام} أي كالجبال، والعَلَم الجبل الطويل، قال:
إذا قَطَعْنَ عَلَمًا بَدَا عَلَمٌ

فالسفن في البحر كالجبال في البر، وقد مضى في (الشورى) بيانه.
وقرأ يعقوب {الْجَوَارِي} بياء في الوقف؛ وحذف الباقون.
قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} الضمير في {عَلَيْهَا} للأرض، وقد جرى ذكرها في أول السورة في قوله تعالى: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} وقد يقال: هو أكرم مَنْ عليها، يعنون الأرض وإن لم يجر لها ذكر.
وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض فنزلت: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] فأيقنت الملائكة بالهلاك؛ وقاله مقاتل.
ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام.
وقيل: وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب.
{ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ويبقى الله؛ فالوجه عبارة عن وجوده وذاته سبحانه؛ قال الشاعر:
قَضَى على خَلْقه المنايا ** فكلُّ شيء سواه فانِي

وهذا الذي ارتضاه المحققون من علمائنا: ابن فورك وأبو المعالي وغيرهم.
وقال ابن عباس: الوجه عبارة عنه كما قال: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} وقال أبو المعالي: وأما الوجه فالمراد به عند معظم أئمتنا وجود الباري تعالى، وهو الذي ارتضاه شيخنا.
ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} والموصف بالبقاء عند تعرض الخلق للفناء وجود الباري تعالى.
وقد مضى في (البقرة) القول في هذا عند قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} وقد ذكرناه في الكتاب الأسنى مستوفى.
قال القشيري: قال قوم هو صفة زائدة على الذات لا تُكَيف، يحصل بها الإقبال على من أراد الربّ تخصيصه بالإكرام.
والصحيح أن يقال: وجهه وجوده وذاته، يقال: هذا وجه الأمر ووجه الصواب وعين الصواب.
وقيل: أي يبقى الظاهر بأدلته كظهور الإنسان بوجهه.
وقيل: وتبقى الجهة التي يتقرب بها إلى الله.
{ذُو الجلال} الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح؛ يقال: جَلَّ الشيءُ أي عَظُم وأجللته أي عظّمته، والجلال اسم من جلّ.
{والإكرام} أي هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك؛ كما تقول: أنا أكرمك عن هذا؛ ومنه إكرام الأنبياء والأولياء.
وقد أتينا على هذين الاسمين لغةً ومعنًى في الكتاب الأسنى مستوفًى.
وروى أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَلِظُّوا بيا ذا الجلالِ والإكرام» وروي أنه من قول ابن مسعود؛ ومعناه: الزموا ذلك في الدعاء.
قال أبو عبيد: الإلظاظ لزوم الشيء والمثابرة عليه.
ويقال: الإلظاظ الإلحاح.
وعن سعيد المقبري: أن رجلًا أَلَحَّ فجعل يقول: اللّهم يا ذا الجلال والإكرام! اللّهم يا ذا الجلال والإكرام! فنودي: إني قد سمعت فما حاجتك؟
قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} قيل: المعنى يسأله من في السموات الرحمة، ومن في الأرض الرزق.
وقال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة ولا يسألونه الرزق؛ وأهل الأرض يسألونهما جميعًا.
وقال ابن جريج: وتسأل الملائكة الرزق لأهل الأرض؛ فكانت المسألتان جميعًا من أهل السماء وأهل الأرض لأهل الأرض.
وفي الحديث: «إن من الملائكة مَلكًا له أربعة أوجه وجه كوجه الإنسان وهو يسأل الله الرزق لبني آدم ووجه كوجه الأسد وهو يسأل الله الرزق للسباع ووجه كوجه الثور وهو يسأل الله الرزق للبهائم ووجه كوجه النّسر وهو يسأل الله الرزق للطير» وقال ابن عطاء: إنهم سألوه القوّة على العبادة.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} هذا كلام مبتدأ.
وانتصب {كُلَّ يَوْمٍ} ظرفًا، لقوله: {فِي شَأْنٍ} أو ظرفًا للسؤال؛ ثم يبتدىء {هُوَ فِي شَأْنٍ}.
وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: من شأنه أن يغفر ذنبًا ويفرّج كربًا ويرفع قومًا ويضع آخرين». وعن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «في قول الله عز وجل: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: يغفر ذنبًا ويكشف كربًا ويجيب داعيًا». وقيل: من شأنه أن يحيي ويميت، ويُعزّ ويذل، ويرزق ويمنع.
وقيل: أراد شأنه في يومي الدنيا والآخرة.
قال ابن بحر: الدهر كله يومان، أحدهما مدة أيام الدنيا، والآخر يوم القيامة، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة الجزاء والحساب، والثواب والعقاب.
وقيل: المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا وهو الظاهر.
والشأن في اللغة الخطب العظيم والجمع الشؤون والمراد بالشأن هاهنا الجمع كقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] وقال الكلبي: شأنه سوق المقادير إلى المواقيت.
وقال عمرو بن ميمون في قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من شأنه أن يميت حَيًّا، ويُقِرَّ في الأرحام ما شاء، ويُعزّ ذليلًا، ويُذلّ عزيزًا.
وسأل بعض الأمراء وزيره عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فلم يعرف معناها، واستمهله إلى الغد فانصرف كئيبًا إلى منزله فقال له غلام له أسود: ما شأنك؟ فأخبره.
فقال له: عد إلى الأمير فإني أفسرها له، فدعاه فقال: أيها الأمير! شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيّ من الميّت، ويخرج الميّت من الحيّ، ويَشفي سقيمًا، ويُسقم سليمًا، ويَبتلي معافًى، ويعافي مبتلًى، ويُعزّ ذليلًا، ويذل عزيزًا، ويُفقر غنيًّا، ويغني فقيرًا؛ فقال له: فَرَّجت عني فَرَّج الله عنك، ثم أمر بخلع ثياب الوزير وكساها الغلام؛ فقال: يا مولاي، هذا من شأن الله تعالى.
وعن عبد الله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] وقد صح أن الندم توبة.
وقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وقد صح أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم.
وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله.
وأما قوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها.
وأما قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلًا ولي أن أجزيه بواحدة ألفًا فضلًا.
فقام عبد الله وقبل رأسه وسوغ خراجه.
قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان}.
يقال: فَرَغت من الشغل أفرغُ فُروغًا وفَرَاغًا وتفرّغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلته.
والله تعالى ليس له شغل يفرغ منه، إنما المعنى سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم، وهذا وعيد وتهديد لهم كما يقول القائل لمن يريد تهديده: إذًا أتفرغ لك أي أقصدك.
وفرغ بمعنى قصد؛ وأنشد ابن الأنباري في مثل هذا لجرير:
ألاَن وقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ ** فهذا حينَ كُنْتُ لها عَذابَا

يريد وقد قصدت.
وقال أيضًا وأنشده النحاس: