فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)}.
قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثًا وبقاءًا وفي سائر أحوالهم سؤالًا مستمرًا بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلًا فهم في كل آن سائلون.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي صالح {يَسْأَلُهُ مَن في السموات} الرحمة، ومن في {الأرض} المغفرة والرزق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج {يَسْأَلُهُ} الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة.
وأهل الأرض يسألونهما جميعًا وما تقدم أولى، ولا دليل على التخصيص، والظاهر أن الجملة استئناف.
وقيل: هي حال من الوجه والعامل فيها {يبقى} [الرحمن: 27] أي هو سبحانه دائم في هذه الحال، ولا يخفى حاله على ذي تمييز {والأرض كُلَّ يَوْمٍ} كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات.
{هُوَ في شَأْنٍ} من الشؤون التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصًا، ويفنى آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة، وأخرج البخاري في (تاريخه) وابن ماجه، وابن حبان، وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه ال: «من شأنه أن يغفر ذنبًا ويفرج كربًا ويرفع قومًا ويضع آخرين» زاد البزار «ويجيب داعيًا» وقيل: إن لله تعالى في كل يوم ثلاث عساكر: عسكر من الاصلاب إلى الأرحام، وعسكر من الأرحام إلى الدنيا، وعسكر من الدنيا إلى القبور، والظاهر أن المراد بيان كثرة شؤونه تعالى في الدنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا.
وقال ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء.
وثانيهما: اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب، وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئًا فرد عز وجل عليهم بذلك، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، وانتصب {السماوات والأرض كُلَّ يَوْمٍ} على الظرف، والعامل فيه هو العامل في قوله تعلى: {فِى شَأْنٍ}، و{هُوَ} ثابت المحذوف: فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حينًا فحينًا.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} الفراغ في اللعنة يقتضي سابقة شغل.
والفراغ للشيء يقتضي لاحقيته أيضًا، والله سبحانه لا يشغله شأن عنشأن فجعل انتهاء الشؤون المشار إليها بقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ شَأْنٍ} [الرحمن: 29] يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغًا لهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال: فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء وأخذه تعالى في جزائهم فحسب بحال من فرغ له، وجازت الاستعارة التصريحية التبعية في {سَنَفْرُغُ} بأن يكون المراد سنأخذ في جزائكم فقط الاشتراك الأخذ في الجزاء فقط، والفراغ عن جميع المهام إلى واحد في أن المعنى به ذلك الواحد، وقيل: المراد التوفر في الانتقام والنكاية، وذلك أن الفراغ للشيء يستعمل في التهديد كثيرًا كأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبق له شغل غيره فيدل على التوفر المذكور، وهو كناية فيمن يصح عليه، ومجاز في غير كالذي نحن فيه، ولعل مراد ابن عباس والضحاك بقولهما كما أخرج ابن جرير عنهما هذا وعيد من الله تعالى لعباده ما ذكر، والخطاب عليه قيل: للمجرمين، وتعقب بأن النداء الآتي يأباه، نعم المقصود بالتهديد هم، وقيل: لا مانع من تهديد الجميع، ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يوم القيامة، وقول ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك توعدًا بعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه، وقيل: إن فرغ يكون بمعنى قصد، واستدل عليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير:
ألان وقد فرغت إلى نمير ** فهذا حين كنت لهم عذابًا

أي قصدت، وأنشد النحاس:
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل

وفي الحديث: «لأتفرغن لك يا خبيث» قال صلى الله عليه وسلم مخاطبًا به أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك، ونقل هذا عن الخليل والكسائي، والفراء، والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك، فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقًا تنجيزيًا بجزائهم، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو حيوة، وزيد بن علي {سيفرغ} بياء الغيبة، وقرأ قتادة، والأعرج {سَنَفْرُغُ} بنون العظمة.
وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها وهو لغة تميم كما أن {سَنَفْرُغُ} في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز، وقرأ أبو السمال وعيسى {سَنَفْرُغُ} بكسر النون وفتح الراء وهي على ما قال أبو حاتم لغة سفلى مضر، وقرأ الأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما، وابن أبي عبلة، والزعفراني {سيفرغ} بضم الياء وفتح الراء مبنيًا للمفعول؛ وقرأ عيسى أيضًا {سَنَفْرُغُ} بفتح النون وكسر الراء، والأعرج أيضًا {سيفرغ} بفتح الياء والراء وهي لغة، وقرئ {سأفرغ} بهمزة المتكلم وحده، وقرأ أبيّ {سَنَفْرُغُ} إليكم عداه بإلى فقيل: للحمل على القصد، أو لتضمينه معناه أي {سَنَفْرُغُ} قاصدين إليكم.
{أَيُّهَ الثقلان} هما الإنس والجن من ثقل الدابة وهو ما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والإنس والجن ثقلاها، وما سواهما على هذا كالعلاوة، وقال غير واحد: سميا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شأنهما.
ويقال لكل عظيم القدر مما يتنافس فيه: ثقل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» وقيل: سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف، وعن الحسن لثقلهما بالذنوب.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)}.
الجملة عطف على جملة {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن: 22] لأن هذا من أحوال البحرين وقد أغنت إعادة لفظ البحر عن ذكر ضمير البحرين الرابط لجملة الحال بصاحبها.
واللام للملك وهو مِلك تسخير السير فيها، قال تعالى: {ومن آياته الجوارِ في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الرياح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا} [الشورى: 32 34].
فالمعنى: أن الجواري في البحر في تصرفه تعالى، قال تعالى: {والفلك تجري في البحر بأمره} [الحج: 65].
والإِخبار عن الجواري بأنها له للتنبيه على أن إنشاء البحر للسفن لا يخرجها عن ملك الله.
والجوارِ صفة لموصوف محذوف دل عليه متعلقه وهو قوله: {في البحر}.
والتقدير: السفن الجواري إذ لا يجري في البحر غير السفن.
وكتب في المصحف الإِمام {الجوار} براء في آخره دون ياء وقياس رسمه أن يكون بياء في آخره، فكتب بدون ياء اعتدادًا بحالة النطق به في الوصل إذ لا يقف القارئ عليه ولذلك قرأه جميع العشرة بدون ياء في حالة الوصل والوقف لأن الوقف عليه نادر في حال قراءة القارئين.
وقرأ الجمهور {المنشئات} بفتح الشين، فهو اسم مفعول، إذا أُوجد وصُنع، أي التي أنشأها الناس بإلهام من الله فحصل من الكلام مِنَّتان مِنة تسخير السفن للسير في البحر ومنّة إلهام الناس لإِنشائها.
وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم بكسر الشين فهو اسم فاعل.
فيجوز أن يكون المنشئات مشتقًا من أنشأ السير إذا أسرع، أي التي يسير بها الناس سيرًا سريعًا.
قال مجاهد: المنشئات التي رفعت قلوعها.
والآية تحتمل المعنيين على القراءتين باستعمال الاشتقاق في معنيي المشتق منه ويكون في ذلك تذكيرًا بنعمة إلهام الناس إلى اختراع الشراع لإِسراع سير السفن وهي مما اخترع بعد صنع سفينة نوح.
ووصفت الجَوَارِي بأنها كالأعلام، أي الجبال وصفًا يفيد تعظيم شأنها في صنعها المقتضي بداعة إلهام عقول البشر لصنعها، والمقتضى عظم المِنّة بها لأن السفن العظيمة أمكن لحمل العدد الكثير من الناس والمتاع.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)}.
{فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.
تكرير لنظيره المتقدم أولًا.
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)}.
لما كان قوله: {وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام} [الرحمن: 24] مؤذنًا بنعمة إيجاد أسباب النجاة من الهلاك وأسباب السعي لتحصيل ما به إقامة العيش إذ يَسَّر للناس السفن عونًا للناس على الأسفار وقضاء الأوطار مع السلامة من طغيان ماء البحار، وكان وصف السفن بأنها كالأعلام توسعة في هذه النعمة أتبعه بالموعظة بأن هذا لا يحول بين الناس وبين ما قدره الله لهم من الفناء، على عادة القرآن في الفُرص للموعظة والتذكير كقوله: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء: 78].
وفائدة هذا أن لا ينسوا الاستعداد للحياة الباقية بفعل الصالحات، وأن يتفكروا في عظيم قدرة الله تعالى ويقبلوا على توحيده وطلب مرضاته.
ووقوع هذه الجملة عقب ما عدد من النعم فيه إيماء إلى أن مصير نعم الدنيا إلى الفناء.
والجملة استئناف ابتدائي.
وضمير {عليها} مراد به الأرض بقرينة المقام مثل {حتى توارت بالحجاب} [ص: 32]، أي الشمس ومثله في القرآن وكثير وفي كلام البلغاء.
ومعنى {فانٍ}: أنه صائر إلى الفناء، فهذا من استعمال اسم الفاعل لزمان الاستقبال بالقرينة مثل {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30].
والمراد بـ {من عليها}: الناس لأنهم المقصود بهذه العبر، ولذلك جيء بـ (من) الموصولة الخاصة بالعقلاء.
والمعنى: أن مصير جميع من على الأرض إلى الفناء، وهذا تذكير بالموت وما بعده من الجزاء.
و{وجه ربك}: ذاته، فذكر الوجه هنا جار على عرف كلام العرب.
قال في (الكشاف): والوجه يعبر به عن الجملة والذات. اهـ.
وقد أضيف إلى اسمه تعالى لفظ الوجه بمعان مختلفة منها ما هنا ومنها قوله: {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] وقوله: {إنما نطعمكم لوجه الله} [الإنسان: 9].
وقد علم السامعون أن الله تعالى يستحيل أن يكون له وجه بالمعنى الحقيقي وهو الجزء الذي في الرأس.
واصطلح علماء العقائد على تسمية مثل هذا بالمتشابه وكان السلف يحجمون عن الخوض في ذلك مع اليقين باستحالة ظاهره على الله تعالى، ثم تناوله علماء التابعين ومن بعدهم بالتأويل تدريجًا إلى أن اتضح وجه التأويل بالجرْي على قواعد علم المعاني فزال الخفاء، واندفع الجفاء، وكلا الفريقين خيرة الحنفاء.