فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضمير المخاطب في قوله: {وجه ربك} خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وفيه تعظيم لقدر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم غير مرة.
والمقصود تبليغه إلى الذين يتلى عليهم القرآن ليذكَّروا ويعتبروا.
ويجوز أن يكون خطابًا لغير معينّ ليعمّ كل مخاطب.
ولما كان الوجه هنا بمعنى الذات وصف بـ {ذو الجلال}، أي العظمة و{الإكرام}، أي المنعم على عباده وإلا فإن الوجه الحقيقي لا يضاف للإِكرام في عرف اللغة، وإنما يضاف للإِكرام اليد، أي فهو لا يفقد عبيده جلاله وإكرامه، وقد دخل في الجلال جميع الصفات الراجعة إلى التنزيه عن النقص وفي الإِكرام جميع صفات الكمال الوجودية وصفات الجمال كالإِحسان.
وتفريع {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إنما هو تفريع على جملة {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} كما علمت من أنه يتضمن معاملة خلقه معاملة العظيم الذي لا تصدر عنه السفاسف، الكريم الذي لا يقطع إنعامه، وذلك من الآلاء العظيمة.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)}.
تكرير كما تقدم وهذا الموقع ينادي على أن ليست هذه الجملة تذييلًا لجملة {كل من عليها فان} [الرحمن: 26]، ولا أن جملة {كل من عليها فان} تتضمن نعمة إذ ليس في الفناء نعمة.
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)}.
{يَسْأَلُهُ مَن في السماوات والأرْض}.
استئناف، والمعنى أن الناس تنقرض منهم أجيال وتبقى أجيال وكلُ باق محتاج إلى أسباب بقائه وصلاح أحواله فهم في حاجة إلى الذي لا يفنى وهو غير محتاج إليهم.
ولما أفضى الإِخبار إلى حاجة الناس إليه تعالى أتبع بأن الاحتياج عام أهل الأرض وأهل السماء.
فالجميع يسألونه، فسؤال أهل السماوات وهم الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ويسألون رضى الله تعالى، ومَنْ في الأرض وهم البشر يسألونه نعم الحياة والنجاة في الآخرة ورفع الدرجات في الآخرة.
وحذف مفعول {يسئله} لإِفادة التعميم، أي يسألونه حوائجهم ومهامهم من طلوع الشمس إلى غروبها.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَانٍ}.
يجوز أن تكون الجملة حالًا من ضمير النصب في {يسئله} أو تذييلًا لجملة {يسئله من في السموات والأرض}، أي كلّ يوم هو في شأن من الشؤون للسائلين وغيرهم فهو تعالى يُبرم شؤونًا مختلفة من أحوال الموجودات دوامًا، ويكون {كل يوم} ظرفًا متعلقًا بالاستقرار في قوله: {هو في شأن}، وقدم على ما فيه متعلّقهُ للاهتمام بإفادة تكرر ذلك ودوامه.
والمعنى: في شأن من شؤون من في السماوات والأرض من استجابة سُؤلٍ، ومن زيادة، ومن حرمان، ومن تأخير الاستجابة، ومن تعويض عن المسؤول بثواب، كما ورد في أحاديث الدعاء أن استجابته تكون مختلفة، وتقدم عند قوله تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60].
ومعنى {في} على هذا التفسير تقويَة ثبوت الشؤون لله تعالى وهي شؤون تصرّفه ومظاهر قدرته، كما قال الحسين بن الفضل النيسابوري: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها.
و{يوم} مستعمل مجازًا في الوقت بعلاقة الإِطلاق، إذ المعنى: كل وقت من الأوقات ولو لحظة، وليس المراد باليوم الوقت الخاص الذي يمتد من الفجر إلى الغروب.
وإطلاق اليوم ونحوه على مطلق الزمان كثير في كلام العرب كقولهم: الدهر يومان يوم نُعُم ويوم بُؤس، وقال عمرو بن كلثوم:
وإنّ غَدًا وإن اليومَ رهن ** وبَعد غَدٍ لِمَا لا تعلمين

أراد الزمان المستقبل والحاضر والمستقبل البعيد وإلا فأي فرق بين غد وبعد غد.
والشأن: الشيء العظيم والحدث المهم من مخلوقات وأعمال من السماوات والأرض، وفي الحديث: «أنه تعالى كل يوم يغفر ذنبًا ويفرج كربًا ويرفع أقوامًا ويضع آخرين» وهو تعالى يأمر وينهي ويحيي ويميت ويعطي ويمنع ونحو ذلك وإذا كان في تصرفه كل شأن فما هو أقل من الشأن أولى بكونه من تصرفه.
والظرفية المستعملة فيها حرف {في} ظرفية مجازية مستعارة لشدة التلبس والتعلق بتصرفات الله تعالى بمنزلة إحاطة الظرف بالمظروف أو بأسئلة المخلوقات الذين في السماء والأرض.
والمعنى: أنه تعالى كل يوم تتعلق قدرته بأمور يبرزها ويتعلق أمره التكويني بأمور من إيجاد وإعدامٍ.
ومن أحاسن الكلم في تفسير هذه الآية قول الحسين بن الفضل لما سأله عبد الله بن طاهر قائلًا: قد أشكل عليّ قوله هذا: وقد صح أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة.
فقال: إنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها. وقد أجمل الحُسين بن الفضل الجواب بما يقنع أمثال عبد الله بن طاهر، وإن كان الإِشكال غير وارد إذ ليس في الآية أن الشؤون تخالف ما سطره قلم العلم الإِلهي، على أن هذا الجواب لا يجري إلا على أحد الوجوه في تفسير قوله: {كل يوم هو في شأن} كما علمت آنفًا.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}.
تكرير لنظائره.
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)}.
هذا تخلّص من الاعتبار بأحوال الحياة العاجلة إلى التذكير بأحوال الآخرة والجزاء فيها انتُقل إليه بمناسبة اشتمال ما سَبق من دلائل سعة قدرة الله تعالى، على تعريض بأن فاعل ذلك أهلّ للتوحيد بالإِلهية، ومستحق الإِفراد بالعبادة، وإذ قد كان المخاطبون بذلك مشركين مع الله في العبادة انتُقل إلى تهديدهم بأنهم وأولياءَهم من الجن المسوِّلين لهم عبادة الأصنام سيعرضون على حكم الله فيهم.
وحرف التنفيس مستعمل في مطلق التقريب المكنَّى به عن التحقيق، كما تقدم في قوله تعالى: {قال سوف أستغفر لكم ربي} في سورة يوسف (98).
والفراغ للشيء: الخلوُ عما يشغل عنه، وهو تمثيل للاعتناء بالشيء، شبّه حال المقبل على عمل دون عملٍ آخر بحال الوعاء الذي أُفْرغَ مما فيه ليُملأ بشيء آخر.
وهذا التمثيل صالح للاستعمال في الاعتناء كما في قول أبي بكر الصديق لابنه عبد الرحمان افْرُغْ إلى أضيافك (أي تخل عن كل شغل لتشتغل بأضيافك وتتوفر على قراهم) وصالح للاستعمال في الوعيد، كقول جرير:
أَلاَنَ وقد فرغت إلى نَمير ** فهذا حين كنتُ لها عذابًا

والمناسب لسياق الآية باعتبار السابق واللاحق، أن تحمل على معنى الإِقبال على أمور الثقلين في الآخرة، لأن بعده {يعرف المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41]، وهذا لكفار الثقلين وهم الأكثر في حين نزول هذه الآية.
و{الثقلان}: تثنية ثَقَل، وهذا المثنى اسم مفرد لمجموع الإِنس والجن.
وأحسب أن الثّقَل هو الإِنسان لأنه محمول على الأرض، فهو كالثقل على الدابة، وأن إطلاق هذا المثنى على الإنس والجن من باب التغليب، وقيل غير هذا مما لا يرتضيه المتأمل.
وقد عد هذا اللفظ بهذا المعنى مما يستعمل إلا بصيغة التثنية فلا يطلق على نوع الإنسان بانفراده اسم الثقل ولذلك فهو مثنى اللفظ مفرد الإطلاق.
وأظن أن هذا اللفظ لم يطلق على مجموع النوعين قبل القرآن فهو من أعلام الأجناس بالغلبة، ثم استعمله أهل الإسلام، قال ذو الرمة:
وميَّة أحسن الثقلين وَجها ** وسَالِفَةً وأحسنُهُ قَذالًا

أراد وأحسن الثقلين، وجعل الضمير له مفردًا.
وقد أخطأ في استعماله إذ لا علاقة للجن في شيء من غرضه.
وقرأ الجمهور {سنفرغ} بالنون.
وقرأه حمزة والكسائي بالياء المفتوحة على أن الضمير عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات.
وكُتب {أيه} في المصحف بهاء ليس بعدها ألف وهو رسم مراعى فيه حال النطق بالكلمة في الوصل إذ لا يوقف على مثله، فقرأها الجمهور بفتحة على الهاء دون ألف في حالتي الوصل والوقف.
وقرأها أبو عمرو والكسائي بألف بعد الهاء في الوقف.
وقرأه ابن عامر بضم الهاء تبعًا لضم الياء التي قبلها وهذا من الإِتباع.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)}.
تكرير لنظائره وليس هو خطابًا للثقلين ولا تذييلًا للجملة التي قبله إذ ليس في الجملة التي قبله ذكر نعمة على الثقلين بل هي تهديد لهما. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)}.
قال كثير من المفسرين: {الإنسان} آدم. وقال آخرون: أراد اسم الجنس، وساغ ذلك من حيث أبوهم مخلوق من الصلصال.
واختلف الناس في اشتقاق الصلصال، فقال مكي فيما حكى النقاش: هو من صلّ اللحم وغيره إذا نتن، فهي إشارة إلى الحمأة. وقال الطبري وجمهور المفسرين: هو من صلّ إذا صوت، وذلك في الطين لكرمه وجودته، فهي إشارة إلى ما كان من تربة آدم من الطين الحر، وذلك أن الله تعالى خلقه من طيب وخبيث ومختلف اللون، فمرة ذكر في خلقه هذا، ومرة هذا، وكل ما في القرآن في ذلك صفات ترددت على التراب الذي خلق منه. و(الفخار): الطين الطيب إذا مسه الماء فخر أي ربا وعظم.
و: {الجان} اسم جنس، كالجنة. و: (المارج) اللهب المضطرب من النار. قال ابن عباس: وهو أحسن النار المختلط من ألوان شتى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر: «كيف بك إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم».
وكرر قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} تأكيدًا أو تنبيهًا لنفوس وتحريكًا لها، وهذه طريقة من الفصاحة معروفة، وهي من كتاب الله في مواضع، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كلام العرب وذهب قوم منهم ابن قتيبة وغيره إلى أن هذا التكرار إنما هو لما اختلفت النعم المذكورة كرر التوقيف مع كل واحدة منها، وهذا حسن. قال الحسين بن الفضي: التكرار لطرد الغفلة ولا تأكيد.
وخص ذكر {المشرقين والمغربين} بالتشريف في إضافة الرب إليهما لعظمهما في المخلوقات وأنهما طرفا آية عظيمة وعبرة وهي الشمس وجريها. وحكى النقاش أن {المشرقين} مشرقا الشمس والقمر، {والمغربين} كذلك على ما في ذلك من العبر، وكل متجه، ومتى وقع ذكر المشرق والمغرب فهي إشارة إلى الناحيتين بجملتهما، ومتى وقع ذكر المشارق والمغارب فهي إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه، ومتى ذكر المشرقان والمغربان، فهي إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب، لأن ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. قال مجاهد: هو مشرق الصيف ومغربه، ومشرق الشتاء ومغربه.
{مرج البحرين} معناه: أرسلهما إرسالًا غير منحاز بعضهما من بعض، ومنه مرجت الدابة، ومنه الأمر المريج، أي المختلط الذي لم يتحصل منه شيء، ومنه من {مارج من نار} [الرحمن: 15].
واختلف الناس في {البحرين} فقال الحسن وقتادة: بحر فارس وبحر الروم. وقال الحسن أيضًا: بحر القلزم واليمن وبحر الشام. وقال ابن عباس وابن جبير: هو بحر في السماء وبحر في الأرض. وقال ابن عباس أيضًا هو مطر السماء سماه بحرًا وبحر الأرض. والظاهر عندي أن قوله تعالى: {البحرين} يريد بهما نوعي الماء العذب. والأجاج: أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض ولا بغي، والعبرة في هذا التأويل منيرة، وأنشد منذر بن سعيد: الطويل: