فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثالثة:
هذا الخطاب في الدنيا أو في الآخرة؟ نقول: الظاهر فيه أنه في الآخرة، فإن الجن والإنس يريدون الفرار من العذاب فيجدون سبعة صفوف من الملائكة محيطين بأقطار السموات والأرض، والأولى ما ذكرنا أنه عام بمعنى لا مهرب ولا مخرج لكم عن ملك الله تعالى، وأينما توليتم فثم ملك الله، وأينما تكونوا أتاكم حكم الله.
المسألة الرابعة:
ما الحكمة في تقديم الجن على الإنس هاهنا وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] نقول: النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن، فقدم في كل موضع من يظن به القدرة على ذلك.
المسألة الخامسة:
ما معنى: {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان}؟ نقول: ذلك يحتمل وجوهًا أحدها: أن يكون بيانًا بخلاف ما تقدم أي ما تنفذون ولا تنفذون إلا بقوة وليس لكم قوة على ذلك.
ثانيها: أن يكون على تقدير وقوع الأمر الأول، وبيان أن ذلك لا ينفعكم، وتقديره ما تنفذوا وإن نفذتم ما تنفذون إلا ومعكم سلطان الله، كما يقول: خرج القوم بأهلهم أي معهم ثالثها: أن المراد من النفوذ ما هو المقصود منه؟ وذلك لأن نفوذهم إشارة إلى طلب خلاصهم فقال: لا تنفذون من أقطار السموات لا تتخلصون من العذاب ولا تجدون ما تطلبون من النفود وهو الخلاص من العذاب إلا بسلطان من الله يجيركم وإلا فلا مجير لكم، كما تقول: لا ينفعك البكاء إلا إذا صدقت وتريد به أن الصدق وحده ينفعك، لا أنك إن صدقت فينفعك البكاء رابعها: أن هذا إشارة إلى تقرير التوحيد، ووجهه هو كأنه تعالى قال: يا أيها الغافل لا يمكنك أن تخرج بذهنك عن أقطار السموات والأرض فإذا أنت أبدًا تشاهد دليلًا من دلائل الوحدانية، ثم هب أنك تنفذ من أقطار السموات والأرض، فاعلم أنك لا تنفذ إلا بسلطان تجده خارج السموات والأرض قاطع دال على وحدانيته تعالى والسلطان هو القوة الكاملة.
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما وجه تعلق الآية بما قبلها؟ نقول: إن قلنا يا معشر الجن والإنس نداء ينادي به يوم القيامة، فكأنه تعالى قال: يوم يرسل عليكما شواظ من نار فلا يبقى لكما انتصار إن استطعتما النفوذ فانفذا، وإن قلنا: إن النداء في الدنيا، فنقول قوله: {إِنِ استطعتم} إشارة إلى أنه لا مهرب لكم من الله فيمكنكم الفرار قبل الوقوع في العذاب ولا ناصر لكم فيخلصكم من النار بعد وقوعكم فيها وإرسالها عليكم، فكأنه قال: إن استطعتم الفرار لئلا تقعوا في العذاب ففروا ثم إذا تبين لكم أن لا فرار لكم ولابد من الوقوع فيه فإذا وقعتم فيه وأرسل عليكم فاعلموا أنكم لا تنصرون فلا خلاص لكم إذن، لأن الخلاص إما بالدفع قبل الوقوع وإما بالرفع بعده، ولا سبيل إليهما.
المسألة الثانية:
كيف ثنى الضمير في قوله: {عَلَيْكُمَا} مع أنه جمع قبله بقوله: {إِنِ استطعتم} [الرحمن: 33] والخطاب مع الطائفتين وقال: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} وقال من قبل: {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بسلطان} [الرحمن: 33] نقول: فيه لطيفة، وهي أن قوله: {إِنِ استطعتم} لبيان عجزهم وعظمة ملك الله تعالى، فقال: إن استطعتم أن تنفذوا باجتماعكم وقوتكم فانفذوا، ولا تستطيعون لعجزكم فقد بان عند اجتماعكم واعتضادكم بعضكم ببعض فهو عند افتراقكم أظهر، فهو خطاب عام مع كل أحد عند الانضمام إلى جميع من عداه من الأعوان والإخوان، وأماقوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} فهو لبيان الإرسال على النوعين لا على كل واحد منهما لأن جميع الإنس والجن لا يرسل عليهم العذاب والنار، فهو يرسل على النوعين ويتخلص منه بعض منهما بفضل الله ولا يخرج أحد من الأقطار أصلًا، وهذا يتأيد بما ذكرنا أنه قال: لا فرار لكم قبل الوقوع، ولا خلاص لكم عند الوقوع لكن عدم الفرار عام وعدم الخلاص ليس بعام والجواب الثاني: من حيث اللفظ، هو أن الخطاب مع المعشر فقوله: {إِنِ استطعتم} أيها المعشر وقوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا} ليس خطابًا مع النداء بل هو خطاب مع الحاضرين وهما نوعان وليس الكلام مذكورًا بحرف واو العطف حتى يكون النوعان مناديين في الأول وعند عدم التصريح بالنداء فالتثنية أولى كقوله تعالى: {فَبِأَيِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا} وهذا يتأيد بقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} [الرحمن: 31] وحيث صرح بالنداء جمع الضمير، وقال بعد ذلك: {فَبِأَيِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا} حيث لم يصرح بالنداء.
المسألة الثالثة:
ما الشواظ وما النحاس؟ نقول: الشواظ لهب النار وهو لسانه، وقيل ذلك لا يقال إلا للمختلط بالدخان الذي من الحطب، والظاهر أن هذا مأخوذ من قول الحكماء إن النار إذا صارت خالصة لا ترى كالتي تكون في الكير الذي يكون في غاية الاتقاد، وكما في التنور المسجور فإنه يرى فيه نور وهو نار، وأما النحاس ففيه وجهان، أحدهما الدخان، والثاني القطر وهو النحاس المشهور عندنا، ثم إن ذكر الأمرين بعد خطاب النوعين يحتمل أن يكون لاختصاص كل واحد بواحد.
وحينئذ فالنار الخفيف للإنس لأنه يخالف جوهره، والنحاس الثقيل للجن لأنه يخالف جوهره أيضًا.
فإن الإنس ثقيل والنار خفيفة، والجن خفاف والنحاس ثقيل، وكذلك إن قلنا: المراد من النحاس الدخان، ويحتمل أن يكون ورودهما على حد واحد منهما وهو الظاهر الأصح.
المسألة الرابعة:
من قرأ {نحاس} بالجر كيف يعربه ولو زعم أنه عطف على النار يكون شواظ من نحاس والشواظ لا يكون من نحاس؟ نقول: الجواب عنه من وجهين أحدهما: تقديره شيء من نحاس كقولهم: تقلدت سيفًا ورمحًا وثانيهما: وهو الأظهر أن يقول: الشواظ لم يكن إلا عندما يكون في النار أجزاء هوائية وأرضية، وهو الدخان، فالشواظ مركب من نار ومن نحاس وهو الدخان، وعلى هذا فالمرسل شيء واحد لا شيئان غير أنه مركب، فإن قيل: على هذا لا فائدة لتخصيص الشواظ بالإرسال إلا بيان كون تلك النار بعد غير قوية قوة تذهب عنه الدخان، نقول: العذاب بالنار التي لا ترى دون العذاب بالنار التي ترى، لتقدم الخوف على الوقوع فيه وامتداد العذاب والنار الصرفة لا ترى أو ترى كالنور، فلا يكون لها لهيب وهيبة، وقوله تعالى: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} نفي لجميع أنواع الانتصار، فلا ينتصر أحدهما بالآخر، ولا هما بغيرهما، وإن كان الكفار يقولون في الدنيا: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] والانتصار التلبس بالنصرة، يقال لمن أخذ الثأر انتصر منه كأنه انتزع النصرة منه لنفسه وتلبس بها، ومن هذا الباب الانتقام والادخار والادهان، والذي يقال فيه: إن الانتصار بمعنى الامتناع: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} بمعنى لا تمتنعان، وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرنا لأنه يكون متلبسًا بالنصرة فهو ممتنع لذلك. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس} الآية.
ذكر ابن المبارك: وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الربّ، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر الله السماء التي تليها كذلك فينزلون فيكونون صفًّا من خلف ذلك الصف، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة؛ فينزل الملَك الأعلى في بهائه وملكه ومجنّبته اليسرى جهنم، فيسمعون زفيرها وشهيقها، فلا يأتون قُطْرًا من أقطارها إلا وجدوا صفوفًا من الملائكة، فذلك قوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} والسلطان العذر.
وقال الضحاك أيضًا: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء، ونزلت الملائكة، فتهرب الجنّ والإنس، فتحدق بهم الملائكة، فذلك قوله تعالى: {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} ذكره النحاس.
قلت: فعلى هذا يكون في الدنيا، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة.
وعن الضحاك أيضًا: إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا.
وقال ابن عباس: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى.
وعنه أيضًا أن معنى: {لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم.
قتادة: لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك.
وقيل: لا تنفذون إلا إلى سلطان، الباء بمعنى إلى؛ كقوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} [يوسف: 100] أي إليّ.
قال الشاعر:
أَسِيئي بِنا أو أحسِنِي لا ملولةٌ ** لدَيْنا ولا مَقْلِيَّةٌ إِن تَقَلَّتِ

وقوله: {فانفذوا} أمر تعجيز.
قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ} أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ.
وقيل: ليس هذا متعلقًا بالنفوذ بل أخبر أنه يعاقب العصاة عذابًا بالنار.
وقيل: أي بآلاءِ ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس عقوبة على ذلك التكذيب.
وقيل: يحاط على الخلائق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون {يامعشر الجن والإنس}، فتلك النار قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} والشواظ في قول ابن عباس وغيره اللهب الذي لا دخان له.
والنُّحاس: الدخان الذي لا لهب فيه؛ ومنه قول أمية بن أبي الصَّلْت يهجو حسان بن ثابت رضي الله عنه، كذا وقع في تفسير الثعلبيّ والماورديّ بن أبي الصَّلْت، وفي (الصحاح) و(الوقف والابتداء) لابن الأنباري: أمية بن خلف قال:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عنِّي ** مُغَلْغَلَةً تَدُبُّ إلى عُكَاظِ

أَلَيْسَ أبوكَ فينا كان قَيْنًا ** لَدَى الْقَيْنَاتِ فَسْلًا في الحِفَاظَ

يَمَانِيًّا يَظَلُّ يَشُدُّ كِيرًا ** وينْفُخُ دَائبًا لَهَبَ الشُّواظِ

فأجابه حسان رضي الله عنه فقال:
هَجَوْتُكَ فاختضعت لها بِذُلٍّ ** بِقافِيةٍ تَأَجَّجُ كالشُّواظِ

وقال رُؤبة:
إنّ لهم من وَقْعِنَا أَقْيَاظًا ** ونارَ حربٍ تُسْعِرُ الشُّوَاظَا

وقال مجاهد: الشّواظ اللهب الأخضر المنقطع من النار.
الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس بدخان الحطب. وقاله سعيد بن جبير. وقد قيل: إن الشواظ النار والدخان جميعًا؛ قاله أبو عمرو وحكاه الأخفش عن بعض العرب.
وقرأ ابن كَثير {شِواظ} بكسر الشين، والباقون بالضم وهما لغتان؛ مثل صُوَار وصِوار لقطيع البقر.
{وَنُحَاسٌ} قراءة العامة: {وَنُحَاسٌ} بالرفع عطف على {شُوَاظ}.
وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو {ونُحَاسٍ} بالخفض عطفًا على النار. قال المهدوي: من قال إن الشّواظ النارُ والدخان جميعًا فالجر في {نُحَاس} على هذا بيّن.
فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} وشيء من نحاس؛ فشيء معطوف على شواظ، ومن نحاس جملة هي صفة لشيء، وحذف شيء، وحذفت مِن لتقدم ذكرها في {مِنْ نَارٍ} كما حذفت على من قولهم: على من تنزل أنزل أي عليه.