فصل: الدلالة اللغوية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم يأتي الحديث عن الآخرة وأحوالها، ومنها انشقاق السماء علي هيئة الوردة المدهنة، كالمهل الأحمر ومنها معرفة المجرمين بعلامات في وجوههم (من الزرقة والسواد)، وما سوف يلاقونه من صور الإذلال والمهانة، وهم يطوفون بين جهنم وبين حميم آن (أي ماء في شدة الغليان)؛ وعلي النقيض من ذلك تشير السورة الكريمة إلي أحوال المتقين، ومقامهم في جنات الخلد، جزاء إحسانهم في الدنيا، وتصف جانبا مما في هذه الجنات من نعيم.
وبين كل آية من آيات الله في هذه السورة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم عروس القرآن لما لخواتيم آياتها من جرس رائع، نجد: فبأي آلاء ربكما تكذبان التي ترددت في سورة الرحمن إحدي وثلاثين مرة من مجموع آيات السورة الثماني والسبعين (أي بنسبة 40 تقريبا) في تقريع شديد، وتبكيت واضح للمكذبين من الجن والإنس بآلاء الله وافضاله وعلي رأسها دينه الخاتم الذي بعث به النبي الخاتم والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، والذي لا يرتضي ربنا تبارك وتعالى من عباده دينا سواه بعد ان حفظه للناس كافة في القرآن الكريم، وفي سنة الرسول الخاتم بنفس لغة الوحي علي مدي اربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتختتم السورة بقول الحق (سبحانه): تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.
والإشارات الكونية في سورة الرحمن، والتي يفوق عددها السبع عشرة آية صريحة نحتاج في شرح كل آية منها إلي مقال مستقل، ولذلك سأقف هنا عند قول الحق تبارك وتعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} (الرحمن: 33- 35).
وقبل ذلك لابد من استعراض الدلالات اللغوية لألفاظ تلك الآيات الكريمات وأقوال المفسرين السابقين فيها.

.الدلالة اللغوية:

(1) (نفذ): يقال في العربية: (نفذ) السهم في الرمية (نفوذا) و(نفاذا)، والمثقب في الخشب إذا خرق إلي الجهة الأخري، و(نفذ) فلان في الامر (ينفذ)(نفاذا)، و(أنفذه)(نفاذا)، و(نفذه)(تنفيذا)، وفي الحديث الشريف: نفذوا جيش اسامة؛ والأمر (النافذ) أي المطاع، و(المنفذ) هو الممر (النافذ)، قال تعالى: إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان بمعني أن تخرقوا السماوات والأرض من جهة أقطارها إلي الجهة الأخري.
(2) (أقطار): قطر كل شكل وكل جسم الخط الواصل من أحد أطرافه إلي الطرف المقابل مرورا بمركزه.
قال تعالى: إن استطعتم ان تنفذوا من أقطار السماوات والأرض وقال (عز من قائل): {ولو دخلت عليهم من أقطارها} (الاحزاب: 14)؛ ويقال في اللغة: (قطرته) بمعني ألقيته علي (قطره)، و(تقطر) أي وقع علي (قطره)، ومنه (قطر) المطر اي سقط في خطوط مستقيمة باتجاه مركز الأرض، ويسمي لذلك (قطرا)، وهو كذلك جمع (قطرة)، و(قطر) و(تقطير) الشئ تبخيره ثم تكثيفه قطرة قطرة من أجل تنقية الماء وغيره من السوائل تساقطه (قطرة)(قطرة) وجمعه (قطر) بضمتين و(قطرات) بضمتين أيضا، و(قطره) غيره يتعدي ويلزم، و(تقاطر) القوم جاءوا أرسالا (كالقطر)، ومنه (قطار الإبل) و(القطر) بالضم الناحية والجانب وجمعه (أقطار)؛ و(قطران) الماء (تقاطره) قطرة قطرة و(القطران) ما يتقطر من الهناء (القار)؛ و(قطر) البعير طلاه (بالقطران) فهو (مقطور) أو (مقطرن).
قال تعالى: {سرابيلهم من قطران} [إبراهيم: 50] أي من القار، وقرئ (من قطر آن) أي من نحاس منصهر قد أني (أي عظم) حره (أي زادت درجة حرارته) لأن (القطر) هو النحاس.
وقال ربنا تبارك وتعالى: {آَتُونِي أفرغ عليه قطرا} [الكهف: 96] أي نحاسا منصهرا.
(3) شواظ: (الشواظ) في العربية (بضم الشين وكسرها) اللهب الذي لادخان له.
(4) نحاس: الاصل في اللغة العربية أن النحاس هو اللهب بلادخان، والنحاس أيضا عنصر فلزي لونه يميل إلي الحمرة (بين القرمزي والبرتقالي) قابل للطرق والسحب، موصل جيد لكل من الكهرباء والحرارة، ومقاوم للتآكل، وقد سمي بهذا الاسم لتشابه لونه مع لون النار بلا دخان.
قال تعالى: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس}. [الرحمن: 35].
و(النحس) ضد السعد، وقرئ في قوله تعالى: {في يوم نحس مستمر} [القمر 19].
علي الصفة، والإضافة أكثر وأجود... {في يوم نحس مستمر} ويقال: (نحس) الشئ فهو (نحس) وفيه جاء قول ربنا تبارك وتعالى: {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات} (فصلت: 16) وقرئ {نحسات} بالفتح أي مشؤومات، أو شديدات البرد وأصل النحس أن يحمر الافق فيصير كالنحاس أو كاللهب بلاد خان، فصار ذلك مثلا للشؤم.

.أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران}:

ذكر ابن كثير (يرحمه الله): أي لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره، بل هو محيط بكم لا تقدرون علي التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم.... {إلا بسلطان} أي إلا بأمر الله.... ولهذا قال تعالى: {يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} قال ابن عباس: الشواظ هو لهب النار، وعنه: الشواظ الدخان، وقال مجاهد: هو اللهب الاخضر المنقطع، وقال الضحاك: {شواظ من نار} سيل من نار، وقوله تعالى: {ونحاس} قال ابن عباس: دخان النار، وقال ابن جرير: والعرب تسمي الدخان نحاسا، روي الطبراني عن الضحاك أن نافع ابن الازرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال: هو اللهب الذي لا دخان معه... قال: صدقت، فما النحاس؟ قال: هو الدخان الذي لا لهب له وقال مجاهد: النحاس الصفر.... وجاء في تفسير الجلالين ما نصه: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا} تخرجوا {من اقطار} نواحي {السماوات والأرض} هاربين من الحشر والحساب والجزاء {فانفذوا} أمر تعجيز أي: فلن تستطيعوا ذلك. {لا تنفذون إلا بسلطان} بقوة، ولا قوة لكم علي ذلك... {يرسل عليكما شواظ من نار} هو لهبها الخالص من الدخان أو: معه {ونحاس} أي: دخان لالهب فيه أو هو النحاس المذاب...
وجاء في الظلال ما نصه: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من اقطار السماوات والأرض فانفذوا... وكيف؟ وأين؟ لا تنفذون إلا بسلطان، ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان..
ومرة أخري يواجههما بالسؤال: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ وهل بقي في كيانهما شئ يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان؟
ولكن الحملة الساحقة تستمر إلي نهايتها، والتهديد الرعيب يلاحقهما، والمصير المردي يتمثل لهما: يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران..
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن ما نصه:..... {لا تنفذون إلا بسلطان} أي لا تقدرون علي الخروج من أمري وقضائي إلا بقوة قهر وانتم بمعزل عن ذلك، {يرسل عليكما} يصب عليكما {شواظ من نار} لهب خالص من الدخان {ونحاس} أصفر مذاب، وقيل النحاس: الدخان الذي لا لهب فيه. اي انه يرسل عليهما هذا مرة وهذا مرة.
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم ما نصه: يا معشر الجن والإنس ان استطعتم ان تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين فاخرجوا، لا تستطيعون الخروج الا بقوة وقهر، ولن يكون لكم ذلك، فبأي نعمة من نعم ربكما تجحدان؟! يصب عليكما لهب من نار ونحاس مذاب، فلا تقدران علي رفع هذا العذاب.
وجاء في تعليق هامشي ما يلي: ثبت حتي الآن ضخامة المجهودات والطاقات المطلوبة للنفاذ من نطاق جاذبية الارض، وحيث اقتضي النجاح الجزئي في ريادة الفضاء- لمدة محددة جدا بالنسبة لعظم الكون- بذل الكثير من الجهود العلمية الضخمة في شتي الميادين... فضلا عن التكاليف المادية الخيالية التي انفقت في ذلك ومازالت تنفق، ويدل ذلك دلالة قاطعة علي ان النفاذ المطلق من اقطار السماوات والأرض التي تبلغ ملايين السنين الضوئية لإنس أو جن مستحيل.
والنحاس هو فلز يعتبر من أول العناصر الفلزية التي عرفها الإنسان.. ويتميز بأن درجة انصهاره مرتفعة جدا نحو 1083 درجة مئوية فإذا ما صب هذا السائل الملتهب علي جسد، مثل ذلك صنفا من اقسي انواع العذاب ألما وأشدها أثرا.
الدلالة العلمية لقول الحق تبارك وتعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران} (الرحمن: 33- 35).
هذه الآيات الثلاث التي تحدي القرآن الكريم فيها كلا من الجن والإنسان تحديا صريحا بعجزهم عن النفاذ من أقطار السماوات والأرض، وهو تحد يظهر ضآلة قدراتهما مجتمعين أمام طلاقة القدرة الالهية في إبداع الكون، لضخامة أبعاده، ولقصر عمر المخلوقات، وحتمية فنائها، والآيات بالإضافة إلي ذلك تحوي عددا من الحقائق الكونية المبهرة التي لم يستطع الإنسان إدراكها إلا في العقود القليلة المتأخرة من القرن العشرين، والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية:
أولا: بالنسبة للنفاذ من أقطار الأرض:
إذا كان المقصود من هذه الآيات الكريمة إشعار كل من الجن والإنس بعجزهما عن النفاذ من اقطار كل من الأرض علي حدة، والسماوات علي حدة، فإن المعارف الحديثة تؤكد ذلك، لأن اقطار الأرض تتراوح بين (12756) كيلو مترا بالنسبة إلي متوسط قطرها الاستوائي، (12713) كيلو مترا بالنسبة إلي متوسط قطرها القطبي، وذلك لأن الارض ليست تامة الاستدارة لا نبعاجها قليلا عند خط الاستواء، وتفلطحها قليلا عند القطبين.
ويستحيل علي الإنسان اختراق الارض من أقطارها لارتفاع كل من الضغط والحرارة باستمرار في اتجاه المركز مما لا تطيقه القدرة البشرية، ولا التقنيات المتقدمة التي حققها إنسان هذا العصر، فعلي الرغم من التطور المذهل في تقنيات حفر الآبار العميقة التي طورها الإنسان بحثا عن النفط والغاز الطبيعي فإن هذه الاجهزة العملاقة لم تستطع حتي اليوم تجاوز عمق 14 كيلو مترا من الغلاف الصخري للارض، وهذا يمثل 0، 2 تقريبا من طول نصف قطر الأرض الاستوائي، وعند هذا العمق تعجز ادوات الحفر عن الاستمرار في عملها لتزايد الضغط وللارتفاع الكبير في درجات الحرارة إلي درجة قد تؤدي إلي صهر تلك الادوات، فمن الثابت علميا ان درجة الحرارة تزداد باستمرار من سطح الارض في اتجاه مركزها حتي تصل إلي ما يقرب من درجة حرارة سطح الشمس المقدرة بستة آلاف درجة مئوية حسب بعض التقديرات، ومن هنا كان عجز الإنسان عن الوصول إلي تلك المناطق الفائقة الحرارة والضغط، وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى مخاطبا الإنسان: {ولا تمش في الارض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا}. [الإسراء: 37].
ولو أن الجن عالم غيبي بالنسبة لنا، إلا أن ما ينطبق علي الإنس من عجز تام عن النفاذ من اقطار السماوات والأرض ينطبق عليهم.
والآيات الكريمة قد جاءت في مقام التشبيه بأن كلا من الجن والإنس لا يستطيع الهروب من قدر الله أو الفرار من قضائه، بالهروب إلي خارج الكون عبر اقطار السماوات والارض حيث لا يدري أحد ماذا بعد ذلك، الا ان العلوم المكتسبة قد اثبتت بالفعل عجز الإنسان عجزا كاملا عن ذلك، والقرآن الكريم يؤكد لنا اعتراف الجن بعجزهم الكامل عن ذلك أيضا، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى علي لسان الجن: {وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا} (الجن: 12) وذلك بعد أن قالوا: {وانا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا}. (الجن: 8).
ثانيا: بالنسبة للنفاذ من أقطار السماوات: