فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الأولى:
اللفظية الفاء للتعذيب وأنه يحتمل أن يكون زمانيًا كأنه يقول: فإذا انشقت السماء يقع العذاب، فيوم وقوعه لا يسأل، وبين الأحوال فاصل زماني غير متراخ، ويحتمل أن يكون عقليًا كأنه يقول: يقع العذاب فلا يتأخر تعلقه بهم مقدار ما يسألون عن ذنبهم، ويحتمل أن يكون أراد الترتيب الكلامي كأنه يقول: تهربون بالخروج من أقطار السموات، وأقول لا تمتنعون عند انشقاق السماء، فأقول: لا تمهلون مقدار ما تسألون.
المسألة الثانية:
ما المراد من السؤال؟ نقول: المشهور ما ذكرنا أنهم لا يقال لهم: من المذنب منكم، وهو على هذا سؤال استعلام، وعلى الوجه الثاني سؤال توبيخ أي لا يقال له: لم أذنب المذنب، ويحتمل أن يكون سؤال موهبة وشفاعة كما يقول القائل: أسألك ذنب فلان، أي أطلب منك عفوه، فإن قيل: هذا فاسد من وجوه أحدها: أن السؤال إذا عدى بعن لا يكون إلا بمعنى الاستعلام أو التوبيخ وإذا كان بمعنى لاستعطاء يعدى بنفسه إلى مفعولين فيقال: نسألك العفو والعافية ثانيها: الكلام لا يحتمل تقديرًا ولا يمكن تقديره بحيث يطابق الكلام، لأن المعنى يصير كأنه يقول: لا يسأل واحد ذنب أحد بل أحد لا يسأل ذنب نفسه ثالثها: قوله: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} [الرحمن: 41] لا يناسب ذلك نقول: أما الجواب عن الأول فهو أن السؤال ربما يتعدى إلى مفعولين غير أنه عند الاستعلام يحذف الثاني ويؤتى بما يتعلق به يقال: سألته عن كذا أي سألته الإخبار عن كذا فيحذف الإخبار ويكتفي بما يدل عليه، وهو الجار والمجرور فيكون المعنى طلبت منه أن يخبرني عن كذا وعن الثاني: أن التقدير لا يسأل إنس ذنبه ولا جان، والضمير يكون عائدًا إلى المضمر لفظًا لا معنى، كما نقول: قتلوا أنفسهم، فالضمير في أنفسهم عائد إلى ما في قولك: قتلوا لفظًا لا معنى لأن ما في قتلوا ضمير الفاعل، وفي أنفسهم ضمير المفعول، إذ الواحد لا يقتل نفسه وإنما المراد كل واحد قتل واحدًا غيره، فكذلك (كل) إنس لا يسأل (عن) ذنبه أي ذنب إنس غيره، ومعنى الكلام لا يقال: لأحد اعف عن فلان، لبيان أن لا مسئول في ذلك الوقت من الإنس والجن، وإنما كلهم سائلون الله والله تعالى حينئذ هو المسئول.
وأما المعنوية فالأولى: كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وبينه وبين قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] نقول: على الوجه المشهور جوابان أحدهما: أن للآخرة مواطن.
فلا يسأل في موطن، ويسأل في موطن وثانيهما: وهو أحسن لا يسأل عن فعله أحد منكم، ولكن يسأل بقوله: لم فعل الفاعل فلا يسأل سؤال استعلام، بل يسأل سؤال توبيخ، وأما على الوجه الثاني فلا يرد السؤال، فلا حاجة إلى بيان الجمع.
والثانية: ما الفائدة في بيان عدم السؤال؟ نقول: على الوجه المشهور فائدته التوبيخ لهم كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 40، 41] وقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] وعلى الثاني بيان أن لا يؤخذ منهم فدية، فيكون ترتيب الآيات أحسن، لأن فيها حينئذ بيان أن لا مفر لهم بقوله: {إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ} [الرحمن: 33] ثم بيان أن لا مانع عنهم بقوله: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] ثم بيان أن لا فداء لهم عنهم بقوله: لا يسأل، وعلى الوجه الأخير، بيان أن لا شفيع لهم ولا راحم وفائدة أخرى: وهو أنه تعالى لما بين أن العذاب في الدنيا مؤخر بقوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن: 31] بين أنه في الآخرة لا يؤخر بقدر ما يسأل وفائدة أخرى: وهو أنه تعالى لما بين أن لا مفر لهم بقوله: {لاَ تَنفُذُونَ} [الرحمن: 33] ولا ناصر لهم يخلصهم بقوله: {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} بين أمرًا آخر، وهو أن يقول المذنب: ربما أنجو في ظل خمول واشتباه حال، فقال: ولا يخفى أحد من المذنبين بخلاف أمر الدنيا، فإن الشرذمة القليلة ربما تنجو من العذاب العام بسبب خمولهم.
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}.
اتصال الآيات بما قبلها على الوجه المشهور، ظاهر لا خفاء فيه، إذ قوله: {يُعْرَفُ المجرمون} كالتفسير وعلى الوجه الثاني من أن المعنى لا يسأل عن ذنبه غيره كيف قال: يعرف ويؤخذ وعلى قولنا: لا يسأل سؤال حط وعفو أيضًا كذلك، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
السيما كالضيزى وأصله سومى من السومة وهو يحتمل وجوهًا أحدها: كي على جباههم، قال تعالى: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] ثانيها: سواد كما قال تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] وقال تعالى: {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ثالثها: غبرة وقترة.
المسألة الثانية:
ما وجه إفراد (يؤخذ) مع أن (المجرمين) جمع، وهم المأخوذون؟ نقول فيه وجهان أحدهما: أن يؤخذ متعلق بقوله تعالى: {بالنواصي} كما يقول القائل ذهب بزيد وثانيهما: أن يتعلق بما يدل عليه يؤخذ، فكأنه تعالى قال، فيؤخذون بالنواصي، فإن قيل كيف عدى الأخذ بالباء وهو يتعدى بنفسه قال تعالى: {لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] وقال: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} [طه: 21] نقول: الأخذ يتعدى بنفسه كما بينت، وبالباء أيضًا كقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} [طه: 94] لكن في الاستعمال تدقيق، وهو أن المأخوذ إن كان مقصودًا بالأخذ توجه الفعل نحوه فيتعدى إليه من غير حرف، وإن كان المقصود بالأخذ غير الشيء المأخوذ حسًا تعدى إليه بحرف، لأنه لما لم يكن مقصودًا فكأنه ليس هو المأخوذ، وكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه، فذكر الحرف، ويدل على ما ذكرنا استعمال القرآن، فإن الله تعالى قال: {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} في العصا وقال تعالى: {وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] {أَخَذَ الألواح} [الأعراف: 154] إلى غير ذلك، فلما كان ما ذكر هو المقصود بالأخذ عدى الفعل إليه من غير حرف، وقال تعالى: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} وقال تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} ويقال: خذ بيدي وأخذ الله بيدك إلى غير ذلك مما يكون المقصود بالأخذ غير ما ذكرنا، فإن قيل: ما الفائدة في توجيه الفعل إلى غير ما توجه إليه الفعل الأول، ولم قال: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم فَيُؤْخَذُ بالنواصي}؟ نقول فيه بيان نكالهم وسوء حالهم ونبين هذا بتقديم مثال وهو أن القائل إذا قال ضرب زيد فقتل عمرو فإن المفعول في باب ما لم يسم فاعله قائم مقام الفاعل ومشبه به ولهذا أعرب إعرابه فلو لم يوجه يؤخذ إلى غير ما وجه إليه يعرف لكان الأخذ فعل من عرف فيكون كأنه قال: يعرف المجرمين عارف فيأخذهم ذلك العارف، لكن المجرم يعرفه بسيماه كل أحد، ولا يأخذه كل من عرفه بسيماه، بل يمكن أن يقال قوله: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} المراد يعرفهم الناس والملائكة الذين يحتاجون في معرفتهم إلى علامة، أما كتبة الأعمال والملائكة الغلاظ الشداد فيعرفونهم كما يعرفون أنفسهم من غير احتياج إلى علامة، وبالجملة فقوله: يعرف معناه يكونون معروفين عند كل أحد فلو قال: يؤخذون يكون كأنه قال: فيكونون مأخوذين لكل أحد، كذلك إذا تأملت في قول القائل: شغلت فضرب زيد علمت عند توجه التعليق إلى مفعولين دليل تغاير الشاغل والضارب لأنه يفهم منه أني شغلني شاغل فضرب زيدًا ضارب، فالضارب غير ذلك الشاغل، وإذا قلت: شغل زيد فضرب لا يدل على ذلك حيث توجه إلى مفعول واحد، وإن كان يدل فلا يظهر مثل ما يظهر عند توجهه إلى مفعولين، أما بيان النكال فلأنه لما قال: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي} بين كيفية الأخذ وجعلها مقصود الكلام، ولو قال: فيؤخذون لكان الكلام يتم عنده ويكون قوله: {بالنواصي} فائدة جاءت بعد تمام الكلام فلا يكون هو المقصود، وأما إذا قال: فيؤخذ، فلابد له من أمر يتعلق به فينتظر السامع وجود ذلك، فإذا قال: {بالنواصي} يكون هذا هو المقصود، وفي كيفية الأخذ ظهور نكالهم لأن في نفس الأخذ بالناصية إذلالًا وإهانة، وكذلك الأخذ بالقدم، لا يقال قد ذكرت أن التعدية بالباء إنما تكون حيث لا يكون المأخوذ مقصودًا والآن ذكرت أن الأخذ بالنواصي هو المقصود لأنا نقول: لا تنافي بينهما فإن الأخذ بالنواصي مقصود الكلام والناصية ما أخذت لنفس كونها ناصية وإنما أخذت ليصير صاحبها مأخوذًا، وفرق بين مقصود الكلام وبين الأخذ، وقوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} فيه وجهان أحدهما: يجمع بين ناصيتهم وقدمهم، وعلى هذا ففيه قولان: أحدهما: أن ذلك قد يكون من جانب ظهورهم فيربط بنواصيهم أقدامهم من جانب الظهر فتخرج صدورهم نتأ والثاني: أن ذلك من جانب وجوههم فتكون رءوسهم على ركبهم ونواصيهم في أصابع أرجلهم مربوطة الوجه الثاني: أنهم يسحبون سحبًا فبعضهم يؤخذ بناصيته وبعضهم يجر برجله، والأول أصح وأوضح.
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43)}.
والمشهور أن هاهنا إضمارًا تقديره يقال لهم: هذه جهنم، وقد تقدم مثله في مواضع.
ويحتمل أن يقال: معناه هذه صفة جهنم فأقيم المضاف إليه مقام المضاف ويكون ما تقدم هو المشار إليه، والأقوى أن يقال: الكلام عند النواصي والأقدام قد تم، وقوله: {هذه جَهَنَّمُ} لقربها كما يقال هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه، فكأنه قال جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم، ويلائمه قوله: {يُكَذّبُ} لأن الكلام لو كان بإضمار يقال، لقال تعالى لهم: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون لأن في هذا الوقت لا يبقى مكذب، وعلى هذا التقدير يضمر فيه: كان يكذب.
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)}.
هو كقوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل} [الكهف: 29] وكقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] لأنهم يخرجون فيستغيثون فيظهر لهم من بعد شيء مائع هو صديدهم المغلي فيظنونه ماء، فيردون عليه كما يرد العطشان فيقعون ويشربون منه شرب الهيم، فيجدونه أشد حرًا فيقطع أمعاءهم، كما أن العطشان إذا وصل إلى ماء مالح لا يبحث عنه ولا يذوقه، وإنما يشربه عبًا فيحرق فؤاده ولا يسكن عطشه.
وقوله: {حَمِيمٍ} إشارة إلى ما فعل فيه من الإغلاء، وقوله تعالى: {ءَانٍ} إشارة إلى ما قبله، وهو كما يقال: قطعته فانقطع فكأنه حمته النار فصار في غاية السخونة وآن الماء إذا انتهى في الحر نهاية.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}.
وفيه بحث وهو أن هذه الأمور ليست من الآلاء فكيف قال: {فَبِأَيِّ ءَالاءِ}؟ نقول: الجواب من وجهين أحدهما: ما ذكرناه وثانيهما: أن المراد: {فَبِأَيِّ ءَالاءِ رَبّكُمَا} مما أشرنا إليه في أول السورة.
{تُكَذّبَانِ} فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب، وكذلك نقول: في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] هي الجنان ثم إن تلك الآلاء لا ترى، وهذا ظاهر لأن الجنان غير مرئية، وإنما حصل الإيمان بها بالغيب، فلا يحسن الاستفهام بمعنى الإنكار مثل ما يحسن الاستفهام عن هيئة السماء والأرض والنجم والشجر والشمس والقمر وغيرها مما يدرك ويشاهد، لكن النار والجنة ذكرتا للترهيب والترغيب كما بينا أن المراد فبأيهما تكذبان فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَإِذَا انشقت السماء} أي انصدعت يوم القيامة {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} الدِّهَانُ الدهن؛ عن مجاهد والضحاك وغيرهما.
والمعنى أنها صارت في صفاء الدهن؛ والدهان على هذا جمع دُهْن.
وقال سعيد بن جُبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء.
وقيل: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن؛ أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدُّهن لرقتها وذوبانها.
وقيل: الدّهان الجلد الأحمر الصّرف؛ ذكره أبو عبيد والفراء.
أي تصير السماء حمراء كالأديم لشدة حَرِّ النار.
ابن عباس: المعنى فكانت كالفرس الْوَرْد؛ يقال للكُمَيت: وَرْدٌ إذا كان يتلوّن بألوان مختلفة.